الأخبارتقارير وتحليلاتمحليات

تسرّب مدرسي.. أكثر من مليون طفل يمني خارج المدارس!

صنعاء – منى الأسعدي

بالتزامن مع بَدء العام الدراسي الجديد، تجد شوارع المدن اليمنية مكتظةً بالأطفال الذين يتخذون من الأرصفة مكانًا لعرض بضائعهم وخدماتهم، من أجل الحصول على ما يمكّنهم من مواصلة الحياة وتجاوز صعوباتها. أطفال يحملون الهموم الثقيلة بدلًا من حقائب المدرسة، وعددهم يقارب 1.3 مليون طفل، حسب إحصائية المنظمة الأممية المختصة بالطفولة- يونيسف. هذا العدد المهول من الأطفال لا يذهبون كل صباح إلى المدرسة، بل إلى سوق العمل بحثًا عن لقمة العيش.
المنظمة الأممية نفسها، وفي تقرير حديث بعنوان “عندما يتعرقل التعليم” أصدرته في يوليو/ تموز 2021، وحصلت “خيوط” على نسخة منه، حذّرت من أن عدد الأطفال المعرضين لخطر تعطيل العملية التعليمية في اليمن قد يصل إلى ستة ملايين طفل، وبأن أكثر من مليوني طفل في سن التعليم منقطعون حاليًّا عن الدراسة. ويشير التقرير إلى أن الفقر والنزاع وانعدام الفرص في اليمن أدى إلى توقفهم عن الدراسة، وأن هذا الرقم يعتبر ضعف عدد الأطفال المنقطعين عن الدراسة عام 2015 عندما أخذ النزاع المسلح انعطافته الكبرى.
على الواقع الأليم، يحكي الطفل ربيع الحاج (11 سنة) معاناته لـ”خيوط”، معبّرًا عن قلة حيلته إزاء الوضع الذي يعيشه: “أيش نعمل؟ نطلب الله (نشتغل) علشان نعيش”. وفي نبرة صوته حزن ينبئ عن خذلان كبير أخذ من ضحكته ومستقبله ما استطاع، ثم بقيَ جاثمًا فوق صدره!
تسكن أسرة ربيع، المكونة من أمه وأبيه وأختين طفلتين، في بيت مستأجر بأحد الأحياء الشعبية في محافظة صنعاء [أطراف أمانة العاصمة]، ويواصل سرد الوضع الذي تعيشه الأسرة: “يعمل والدي في أحد المطاعم ليوفر لنا إيجار المسكن والغذاء، بينما أعمل لمساعدته على ذلك؛ كونه يتقاضى مرتبًا قليلًا لا يكفي لسد احتياجات المعيشة”.
يجلس ربيع على أحد الأرصفة في أمانة العاصمة صنعاء، لبيع “الحلوى” بالميزان، ويحصل في نهاية يوم عمله على مبلغ لا يتعدى 600 ريال (ما يُعادل دولارًا واحدًا). ويتحدث عن الصعوبات التي تواجهه بمنطق فيه الكثير من الشعور بالمسؤولية: “أحاول الذهاب إلى المدرسة بجانب العمل، حيث أدرس في الصباح وأعمل في العصر، بينما أبقى حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل للمذاكرة وحل الواجبات المدرسية”. ويضيف أن كل هذه المهام تجعله يشعر بالتعب، ما يدفعه للتغيب عن المدرسة في أحيان كثيرة.
وحول هذا يقول د. مازن جواس، استشاري طب الأطفال، وأستاذ مشارك – طب الأطفال بجامعة حضرموت: “هناك نوعان من التغيب عن الدراسة؛ التغيب الذهني، والتغيب الجسدي. وبرغم خطورة الأول، إلا أن التغيب الثاني يشكل خطرًا أكبر على الطفل”. بحسب خيوط، ويتابع  “حينما يبدأ الطفل بالعمل، فإن ذلك قد يشتته ذهنيًّا ويصبح غائبًا وإن حضر بجسده، لكن الأمر يزداد سوءًا حينما يتغيب الطفل كليًّا، هنا يصبح عرضة للاكتئاب، خصوصًا إذا قارن نفسه بأصدقائه الذين لا يعملون. هذا يدفعه لفقدان الثقة بنفسه والهروب الكلي من المدرسة”.

أسوأ أشكال عمالة الأطفال
أشار تقرير “عمل الأطفال في المنطقة العربية: تحليل كمي ونوعي”، الذي أصدرته منظمات متعددة بتكليف من جامعة الدول العربية والمجلس العربي للطفولة والتنمية في مارس/ آذار 2019، إلى أن النزاعات والحروب على مدار العقد الماضي، تزامنت مع زيادة عمل الأطفال في المنطقة في شتى القطاعات، مع زيادة ملحوظة في العمل في الشوارع والزواج المبكر والاستغلال الجنسي التجاري. وأفاد التقرير أن درجة مشاركة الأطفال في العمل، تتباين تباينًا كبيرًا في جميع أنحاء المنطقة العربية، حيث أظهرت السودان واليمن أعلى معدلات عمل الأطفال بنسبة (19.2 بالمئة و34.8 بالمئة) على التوالي.
ويعلق الدكتور جواس على هذا بالقول، إن هناك أضرارًا كبيرة لخروج الأطفال للعمل في سن مبكر، خصوصًا الأعمال التي قد تؤدي إلى إصابة الطفل بمشاكل صحية وجسدية، مشيرًا إلى أن “هناك من يستغل الأطفال في أشياء أخرى قد تؤذيهم”.
ويؤكد على ذلك الباحث والمحلل الاقتصادي، وحيد الفودعي، إذ يقول إنه “قد يتم استغلال الأطفال من قبل أرباب العمل، حيث تجد إنتاج طفل ما، يفوق إنتاج شخص آخر بالغ، وبالرغم من ذلك يتم إعطاؤه الأجر الأقل”. ويضيف أن عمالة الأطفال “تتسبب في التفكك الأسري الذي قد يدفع الطفل لتعلم عادات سيئة كمضغ القات، أو التدخين، أو -في حالة أسوأ- تعاطي المخدرات والحشيش”.

ويحكي الطفل أصيل محمد (13 سنة)، تجربته القاسية في العمل داخل قبو مخصص لتعبئة علب العطور. يقول أصيل: “كان يتم احتجازنا ولا يسمح لنا بمغادرة المكان إطلاقًا، حتى لزيارة أهالينا، وكان هذا الشرط الوحيد لقبولنا في العمل. ولأن ظروف عائلتي المادية سيئة؛ وافقوا على ذلك وألحقوني بنظام الدراسة المنزلي؛ حيث أذهب للاختبارات فقط؛ من أجل الحصول على الشهادة”. ويتابع حديثه: “بقيت في هذا العمل ما يُقارب السنة، بعدها أصبت بمشاكل في العمود الفقري وصعوبة في التنفس، ما اضطرني لمغادرة العمل”. وتضيف والدته أن الأسرة عانت كثيرًا بعد خروج أصيل من هذا العمل، بسبب المشاكل الصحية التي لحقت به، وما زال حتى الآن يعاني منها، مؤكدة أن ذلك كبّدهم نفقات إضافية لمعالجته.

النزوح القسري
بحسب مقطع فيديو نشرته منظمة “يونيسف” على حسابها في “فيسبوك” بالتزامن مع بداية العام الدراسي في اليمن 2021/2022، فإن الصراع في اليمن أدى إلى تهجير نحو مليوني طفل داخليًّا، وأن أكثر من 2500 مدرسة تضررت أو دمرت أو أصبحت مركز إيواء.
وفي أغسطس/ آب 2020، أصدرت منظمة “مواطنة” لحقوق الإنسان، تقرير “تقويض المستقبل”، الذي عرضت فيه نماذج لـ380 واقعة اعتداء على مدارس في 19 محافظات يمنية، مشيرةً إلى أن الوقائع الموثقة في التقرير “لا تمثل العدد الإجمالي للهجمات، ولا تحصر الأنماط التي تعرضت لها المدارس والمرافق التعليمية أثناء النزاع المحتدم في اليمن”، بل “تقدم توضيحًا تفصيليًّا حول أبرز أنماط الانتهاكات التي تتعرض لها المدارس والمرافق التعليمية خلال [سنوات] الحرب، والآثار المروعة لهذه الانتهاكات على واقع العملية التعليمية وتداعياتها على الطفولة والمستقبل.”
وأدى نزوح السكان في المناطق التي شهدت أو تشهد مواجهات مسلحة، إلى تسرب الطلاب من العملية التعليمية برمتها، خاصة الفتيات، كما حدث للطفلة مودة. تقول أم مودة “لخيوط” عن أسباب انقطاع ابنتها (10 سنوات) عن الدراسة: “تسببت الحرب بنزوحنا من تعز إلى بيت عائلة زوجي في إحدى قرى محافظة إب؛ حيث كانت المدرسة بعيدة جدًّا من المنزل ولا توجد وسيلة نقل، ومن غير الممكن أن تذهب مودة بمفردها مشيًا على الأقدام”، موضحة أن ذلك اضطر الأسرة لإخراج مودة من المدرسة.
آثار الاقتصادية
يعزز الفقر وعمالة الأطفال كلّ منهما الآخرَ. فالفقر يتسبب بخسارة الأطفال حقهم في التعليم الذي يحقق مكاسب نافعة، سواء للفرد أو للمجتمع ككل، وهذه الخسارة تعزز إضعاف فرص التطور المجتمعي وفق معطيات الزمن المعاش وخصوصيته.
يقول الباحث الفودعي: “حينما لا يتواجد الطفل في المدرسة، فإنه بكل تأكيد سيتواجد للعمل ويحل محل شخصٍ آخر كبير، ما يُسهم في تفشي البطالة والجهل في المجتمع، فيفقد الطفل فرصته في التعلم واكتساب المهارات، خصوصًا مع التقدم التكنولوجي الذي تتطلبه الدولة، ويصبح البالغون عالة على المجتمع، ما يؤدي إلى استدامة الفقر في البلاد”.
وهكذا يشكّل انصراف الأطفال إلى العمل المبكر، بدلًا عن الاستمرار في الدراسة، مشكلةً راهنة ومستقبلية في الوقت نفسه؛ فالمشكلة الراهنة تتعلق بممارسة الأطفال أعمالًا فوق قدرة احتمالهم، وتعرضهم لمخاطر صحية وأنواعٍ متعددة من الاستغلال والانتهاكات. أما المشكلة المستقبلية، فتكمن في نموّ جيل يعد بالملايين بلا تعليم ولا مهارات تمكّنه من التأقلم مع متطلبات العيش؛ وبعبارة أخرى، جيل جاهل بعلوم عصره وأنماط الحياة المتناسبة مع زمنه، وهو ما يعني في نهاية المطاف “استدامة الفقر في البلاد”، حسب تعبير الفودعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى