لا أحد يملك الحق في إغلاق بيتنا الكبير بقلم| محمود ياسين
بقلم| محمود ياسين
بكى لطف الصراري بصمت وهو يصغي لأغنية “يا شارح الحول”.
هو كان يتحدث عن النغمة اليمنية، ولقد تخطى فكرة الحفاظ على التراث كمهمة تقليدية، عن “الحول” (الحقل) والماشية، وعن اليمني الذي أنجز أغنية واحدة فيما يبدو ولا يردّد اسمه أحد ربما؛ محمد صالح شوقي، الذي يعزف بأوتار روحه.
“يا شارح الحول ردّ الماشية
من بين الاحْجان لَجَنْب الساقية”
وعندما وصل إلى: “أشتي شاروّح وبيتي نائية”، احتشدت وجوه المنافي، المغتربين وأصدقائي وأناس لا أعرفهم، لكنهم “يمنيين يِشْتوا يتْروّحوا”. كأنه يعزف لهم تلك المرثية للأرصفة الغريبة والطرقات التي تعيدهم للشقق أو الفنادق أو عراءات الغربة المستأجرة، الطرقات وهي تفضي لحواجز تفتيش والمزيد من حواجز التفتيش، الطرقات إلى بوابات السفارات وقد منحتهم نافذة يقفون جوارها، غرباء على جدران سفارات بلادهم، الطرقات وهي تقودهم إلى القاهرة واسطنبول وإلى خارج الرياض، ثم إلى داخل الرياض، طرقات اليمني إلى منظمات الإغاثة ومقاهي الغرباء، وإلى ما تبقى من تفهّم ومساحة رحمة في عالم أصم، طرقات اليمني وهي تقوده إلى التخوم والحواشي والحواجز الافتراضية بين الحقيقة والعالم الافتراضي، طرقات اليمني وهي تعيده للمأزق ذاته والغرابة ذاتها والأسئلة ذاتها، لبوابة الأمير وحاجز السفارة، وحتى الملهى المتوجس من بحث الغريب عن بهجة عابرة. طرقات اليمني وهي تقوده لكل مكان وتعيده لكل خيبة، لكنها لا تعيده إلى البيت.
للحزن أولوياته، وهي ترجئ الفن جانبًا، وتدفعك صوب السياسة بعاطفة من يقول لأهله: “اتروّحوا وما الله قدّره قدر”.
لست ضمين سلطات صنعاء، وأنا أضمنها بالكاد على نفسي كل مساء، وبمعادلة التشبث بالتراب والعقلانية وشجاعة المنتمي وحذر المضطر، وعاطفة من يحاول حماية الجميع من الجميع.
“اتروّحوا وما الله قدّره قدر”، ولست هنا لأجازف بمصيركم، لكن وأنت في البيت ستجد أمانك الصميم في هذا الاختيار، ستجده في كونك اخترت رائحتك ودهاليز ذاكرتك، وفي كونك هنا، حيث ينبغي أن تكون وبيتك لم تعد نائية.
الضامن الله، وما راكمناه من خبرة في كون السلطات بصنعاء تودّ لو تعودون، ربّما ضمن خطة واستراتيجية تجريد الخارج من أوجاع اليمني، وأيًا تكن نواياهم، لا تدع للخوف أن يجردك من طريقك إلى البيت، عودوا وسنخبرهم أن هذا بيتنا ليس هبة أحد البقاء فيه، ولا يملك أحد الحق في إغلاق الباب الكبير أمام أي من أبناء العائلة.
وأنت في البيت، سيكون لصوتك قوة ونبرة من ولد في الركن وتربى بين الجدار والمرعى، وعلى نغمات هسهسة الحشائش وإيماء الماشية، سيكون لصوتك وأنت في البيت صلابة الجدران ومعقولية أن هذا بيتنا كلنا، ولن يكون لأحد. لا تكتفِ بمجد المنفى والعرش المهاجر على طريقة محمود درويش:
“لكم مجدكم ولنا مجدنا
لنا المجد
عرش على أرجل قطعتها الدروب التي أوصلتنا إلى كل بيت سوى بيتنا
على الروح أن تجد الروح في روحها
أو تموت هنا”.