ثورة تعليمية في اليمن بقلم| وجدي الأهدل
بقلم| وجدي الأهدل
ستظل اليمن دولة فاشلة إذا لم تُبادر الدولة اليمنية بإجراء ثورة في التعليم.
المطلوب ليس إصلاح التعليم، بل تغييره كليًّا، واعتماد استراتيجية جديدة ترتكزُ على العلوم والتقنية، وربط مخرجات التعليم بسوق العمل ربطًا محكمًا.
يجبُ تغيير الفكرة السائدة لدى اليمنيين أنّ الهدف النهائي للتعليم هو الحصول على وظيفة، وترسيخ الفكرة الصحيحة عن الغاية من التعليم، ألا وهي: الابتكار، الاكتشاف، الاختراع، الإبداع، وتوليد الأفكار الجديدة. وأن يفهم اليمني أنّ طلب العلم لا نهائي، يستمر مع الإنسان حتى آخر يوم في حياته، في سعيٍ حثيثٍ لا يكِلّ لتطوير قدراته ومهاراته، وبذل الجهد والعرق لتطوير نفسه في مجال تخصصه حتى يصل إلى أعلى درجة ممكنة من الإتقان.
يتوهمُ اليمني إذا نالَ شهادة البكالوريوس أو الدكتوراه، أنه قد وصل إلى نهاية مشواره التعليمي، فتجده يركنُ إلى الراحة والكسل، ويُكافئ نفسه بملذات الحياة، وكأنه قد أنجز شيئًا مذكورًا!
لكن الحقيقة التي يتعامى اليمني عن رؤيتها، هي أنّ الشهادة الجامعية أو الشهادة العليا إنما هي تصريح دخول في مضمار السباق العلمي، فتجدُ حملة الشهادات في الأمم المتقدِّمة يخوضون سباقًا علميًّا ليل نهار نحو اكتشاف واختراع وإبداع أشياء جديدة، بينما اليمني ينسحبُ من السِّباق قبل أنْ يبدأ، ويبرر تخاذله وهو يلهث، بأنه قد تعب بما فيه الكفاية خلال فترة دراسته، ولم يعُد لديه فائض من القوى لقطع أشواط أبعد.!
قطعًا لا يتحملُ الجامعي أو الدكتور اليمني كامل المسؤولية عن قصور لياقته الذهنية، وضعف استعداداته العلمية، فهناك قسط من المسؤولية تتحمله الدولة، التي لا تمتلكُ توجهًا واضحًا لتطوير الاقتصاد والمجتمع.
تذكرُ أحدث الإحصائيات أنّ لدينا ثلاثين جامعة، ثلثها جامعات حكومية، ويبلغُ عدد الملتحقين بها حوالى مائتا ألف طالب وطالبة.
معظم الجامعات اليمنية متشابهة، الحكومية والأهلية، فهناك 584 قِسمًا مكررًا. وقد يتساءلُ المرء ما المغزى من هذه الأقسام المكررة؟ وأيّ غباء هذا الذي يقود العملية التعليمية في اليمن إلى إنتاج مخرجات تعليمية متشابهة؟
لقد درستُ الجغرافيا، وحصلتُ على شهادة بكالوريوس، ثم بعد تخرجي من جامعة صنعاء، لم أجد عملاً يتناسبُ مع دراستي، وهكذا حال زميلات وزملاء دُفعتي، الذين أُقدِّر عددهم بثمانين شابًّا وشابّة، من الجغرافيين الذين أنفقوا أربع سنوات من أعمارهم هدرًا، في دراسة علم لا علاقة له بالوظائف التي تحتاجها سوق العمل.
والحال نفسه ينطبق على خريجي قسم التاريخ.. كم واحد منهم صار مؤرخًا؟ في كل عام يتخرج جيش من أقسام التاريخ في الجامعات اليمنية، ويذهب تعليمهم الجامعي إلى الأرشيف.
تتخرج سنويًّا دفعات تُغطي عين الشمس من قسم الدراسات الإسلامية، ثم يذهب كلّ ذلك المجهود التعليمي سدى، إلا إذا أُريد منهم أن يكونوا معلمين في المدارس فقط، وغير ذلك لا يصلحون لشيء. وكان الأحرى بهم الالتحاق بكليات الشريعة والقانون وكفى. ولعل العتب لا يقع عليهم تمامًا في تبديد شبابهم، ولكن اللوم يقع على صانع القرار الأحمق الذي أدرج الدراسات الإسلامية ضمن التعليم الجامعي، متناسيًا أنّ الجامعة ليست مدرسة ثانوية، فهي مكان الهدف الأساس منه خلْق إنسانٍ قادرٍ على الاكتشاف والاختراع والإبداع والتفكير خارج الصندوق.. فهل هذه الصفات العلمية تتوفر إمكانية بذرها في عقول طالبات وطلاب الدراسات الإسلامية؟ بالطبع هذا محال، لأنه لا مجال للاختراع والإبداع والتفكير خارج الصندوق في الدين، فباب الاجتهاد مغلق، ومن يفتحه سيجدُ سيف التكفير مسلطًا على عنقه.. فإذا كان الوضع هكذا، فلماذا نضحك على الطلاب ونستغفلهم، ونحن نعرف أن الدين حقيقة ثابتة لا تقبل التغيير أو التطوير أو التجديد؟؟ والتصرف الصحيح هو إغلاق هذه الأقسام الجامعية التي لا جدوى منها.
طيلة حياتي لم أُصادف أبدًا إعلانًا يطلب فيلسوفًا أو مؤرخًا أو جغرافيًّا.
لنتخيل دفعة حديثة التخرج.. ثمانون طالبًا وطالبة ممن حصلوا على بكالوريوس فلسفة، ثم بعد حفل التخرج البهيج، توجهوا إلى سوق العمل للبحث عن وظائف تناسب تخصصهم.. ربما حتى مصانع الصابون والمنظفات لن تقبل بهم.
هذه المهزلة يجب أن تتوقف، وتلك الأقسام الجامعية المنبتة الصلة باحتياجات سوق العمل يجب أن تُغلق فورًا.
وكما ذكرنا آنفًا، فإنّ المعدل الوسطي المتوقع في السنوات القادمة لأعداد الملتحقين بالجامعات اليمنية قد يصلُ إلى ربع مليون طالب وطالبة، وهذا رقم بالغ الضخامة، ويبعث على التفاؤل في مستقبل مشرق لليمن، ولكن ليس بطريقة التوزيع الخاطئة المتبعة حاليًّا، والتوزيع الصحيح هو أنْ يتم توجيه ما نسبته 90% من الطالبات والطلاب إلى الكليات والأقسام العلمية، مثل: الطب، الهندسة، الفيزياء، الكيمياء، الحاسوب، الصيدلة، الزراعة، وسوى ذلك من التخصصات العلمية التي تمسّ الحاجة إليها بشدة في اليمن.
ويمكن أن تذهب نسبة 7% من الطلاب إلى التخصصات الأدبية مثل: الشريعة والقانون، الإعلام، اللغات، اللغة العربية، التربية، التجارة والاقتصاد.
ونسبة 2% تذهب إلى الكليات العسكرية والأمنية والإدارية.
وأنْ تذهب نسبة 1% المتبقية (النخبة) إلى أكاديميات رفيعة المستوى في الفنون والرياضة البدنية.
ويفترض أن نربط ربطًا محكمًا بين التعليم وفرص العمل، وأنْ نضع في حسباننا أنْ يحصل الشاب أو الشابة بعد تخرجه على عمل في مجال تخصصه، وإلا فإننا نتحمل وزر تعليمه هراءً غير نافع لا له ولا لبلده.
المرحلة التالية وهي الأكثر صعوبة، هي تدريس التخصصات النادرة، بهدف تخريج كوادر لها تخصص دقيق في المجال الصناعي والتكنولوجي.
حتمًا التعليم غير المناسب هو سبب الكوارث الاقتصادية في اليمن، وربما حتى الكوارث السياسية أيضًا.. فمنذ تأسيس جامعة صنعاء في عام 1970 وحتى اليوم، أي أزيد من خمسين عامًا، ومحتوى التعليم الجامعي في معظمه لا علاقة له بالتنمية، لا علاقة له بالتكنولوجيا، لا علاقة له بالتصنيع والإنتاج المُدِرّ للدخل والعملة الصعبة.. واقتصرت مخرجاته على جحافل من حملة الشهادات الذين يستهلكون الموارد ولا ينتجونها، متعلمون يمضون دورة حياتهم الوظيفية حتى تقاعدهم دون أنْ يساهموا فعليًّا في نهضة بلادهم.
ربما أبدو متحاملاً، ولكن لنأخذ شخصًا لم تنفق الدولة قرشًا في تعليمه، ولكنه ساهم بشكلٍ كبير في النهضة الصناعية في اليمن، ألا وهو الحاج هائل سعيد أنعم، فهذا الرجل بمجهوده الذاتي أوجد بنْية صناعية عملاقة، وتمكّن من تصدير المنتجات اليمنية إلى دول الإقليم، وجلبَ – وما يزال حتى بعد وفاته – لاقتصاد بلاده إيرادًا ضخمًا من العملة الصعبة، كما أنّ مشاريعه الصناعية وفرت عددًا هائلاً من فرص العمل.. لا شك أنه أنموذج عملي للشخص المنتج الذي نرجوه.
ينبغي التخلص نهائيًّا من تلك الفكرة التي تقول إنّ الهدف من التعليم الجامعي هو الشهادة، فهذه هي ذهنية التنابلة التي قادت اليمن إلى الحضيض بين الأمم.
علينا أن نخلق فكرًا جديدًا وثوريًّا: التعليم الجامعي الهدف منه خلق شبان وشابات ذوي شأن، لكل واحد منهم مشروعه الخاص العظيم في الحياة.