في ذكرى غسان كنفاني بقلم| أحمد الخميسي
بقلم| أحمد الخميسي
في مثل هذا الشهر رحل عن عالمنا الأديب الفلسطيني الكبير غسان كنفاني وهو شاب في عنفوان شبابه لم يتجاوز السادسة والثلاثين. ومكانة كنفاني في الرواية والقصة الفلسطينية والعربية لا تقل عن مكانة محمود درويش في الشعر. فقد طور القصة القصيرة التي بدأتها الرائدة الفلسطينية سميرة عزام، وقفز بها قفزة كبيرة، وترك من خلفه أعمالا خالدة لعل أكثرها شهرة هي ” رجال في الشمس” التي صدرت عام 1963، وأثارت ضجة ثقافية واهتماما غير مسبوق في حينه.
وجسد كنفاني مع درويش ومع الرسام ناجي العلي ذروة من ذرى الابداع الفلسطيني الذي ارتوى من هموم النكبة ومن آمال التحرر. كان الأديب الكبير مصدر إزعاج متصل لسلطات الاحتلال، ليس فقط بفضل إبداعه السردي، بل وبفضل إبداعه النظري الفكري الذي تجسد في مئات المقالات علاوة على كتاب مهم هو” في الأدب الصهيوني” الصادر عام 1966. لكل ذلك دبرت المخابرات الاسرائيلية اغتياله في مثل هذا الشهر في بيروت بسيارة مفخخة أنهت حياته مبكرا ومعه ابنة أخته ” لميس”.
قام كنفاني في كتابه ” في الأدب الصهيوني” بتحليل التوجهات الصهيونية الأدبية المبكرة وفك عقدة من خيوط تشابكت فيها مفاهيم ” القومية”، و” الدين”، و” اللغة ” عند الحركة الصهيونية. بداية يشير كنفاني إلى أن اللغة العبرية لم تكن سوى لغة طقوس دينية، حتى أن عددا كبيرا من اليهود كانوا ينطقون التراتيل ولا يفهمون معنى كلماتها، لكن الحركة الصهيونية حولتها إلى مرادف للقومية خلال اختلاق قاعدة عسكرية تخدم الاستعمار.
ويقول في هذا السياق إن : ” الحركة الصهيونية قاتلت بسلاح الأدب قتالا لا يوازيه إلا قتالها بالسلاح السياسي.. وليس من المبالغة القول بأن الصهيونية الأدبية سبقت الصهيونية السياسية”. وعندما يستخدم كنفاني مصطلح” الأدب الصهيوني” فإنه يعني الأدب المكتوب بأي لغة سواء العبرية أو غيرها، وسواء من كتاب يهود أو غير يهود، مادام ذلك الأدب يخدم حركة احتلال فلسطين. وهنا من الضروري التوقف عند حقيقة واضحة وهي أن التاريخ الانساني لم يعرف قط قومية تشكلت في سبعين عاما أو حتى قرن من الزمن، ومن ثم فإن الحديث عن ” أدب إسرائيلي” حديث مغلوط من الأساس لأن الأدب وثيق الارتباط بالقومية. أيضا لم يشهد التاريخ الانساني أنه جرى ابتعاث لغة ميتة بصورة مفتعلة لتمكين الوهم العقائدي بحق مزعوم في أوطان الغير.
وهكذا فنحن لسنا إزاء ” قومية ” ولا نحن إزاء ” لغة “، مع أن الأدب ، كل أدب، يتحدد وفقا للغته، ونحن حين نقول ” الأدب الانجليزي” فإننا نشير إليه اعتمادا على لغته أساسا، وكذلك الأدب العربي، والفرنسي. اللغة هي العامل المحدد، وعمليا لن نجد ” لغة ” بهذا المعنى في اسرائيل، لكن اللغات التي جاء بها المستوطنون من مختلف أنحاء العالم. ولذلك فإن معظم الأعمال الأدبية ” الصهيونية” لا ترقى للأعمال الأدبية بالمعنى المعروف، لكنها تسقط في فخ الدعاية السياسية للصهيونية، وليس أدل على ذلك مما كتبه صموئيل يوسف عجنون الروائي الاسرائيلي الحاصل على نوبل 1966 في روايته ” تمول شلشوم” من أن:” العرب يشبهون الكلاب في جلستهم، وهم أعداء الحضارة وقد حولوا مركز الحضارة اليهودية في فلسطين إلى اسطبلات لحميرهم”! وربما لذلك تحديدا فاز بجائزة نوبل! في ذكرى رحل كنفاني، أستعيد قول أنطون تشيخوف:” يرحل من الأديب نصفه، ويبقى نصفه حيا في إبداعه”.