حرب العملة في اليمن: من يقف وراءها؟ بقلم| علي ظافر
بقلم| علي ظافر
في الآونة الأخيرة، رفعت صنعاء الصّرخة عالياً على وقع توالي الطّبعات النقدية الصّادرة عن فرع البنك المركزي في عدن، ومن دون غطاء، وبشكل يفتقر إلى أبسط المعايير القانونية والدستورية. وفي هذا السياق، كشف محافظ البنك المركزي في صنعاء مؤخراً أنَّ “بنك عدن وقَّع عقوداً تجاوزت 5.3 ترليون ريال منذ العام 2017 – 2021، بعضها نزل إلى السّوق، وبعضها يجري التخطيط لضخّه إلى السوق، ما ينذر بمزيدٍ من انهيار العملة في المحافظات الواقعة تحت الاحتلال، ليتجاوز سعر الدولار عتبة 1000 ريال يمني.
أزمة السوق المصرفية في اليمن، وما يترتب عليها من تداعيات كارثية على قيمة العملة نفسها أمام العملات الأجنبية الصعبة، وانخفاض القدرة الشرائية، وارتفاع الأسعار، قد تبدو من الوهلة الأولى نتاج حرب العملة بين صنعاء وعدن، لكنَّ المسألة في حقيقة الأمر تتعداهما، وهي انعكاس لقرار سياسي أميركي، أو بالأحرى لحرب أطلق شرارتها الأولى السفير الأميركي السابق ماثيو تولر إبان مفاوضات الكويت في العام 2016، بعد فشله في تمرير صفقة سياسية تقضي باستسلام صنعاء لشروط واشنطن وإملاءاتها.
وقد هدَّد وفد صنعاء بصريح العبارة داخل أروقة المفاوضات قائلاً: “إذا لم تقبلوا الصفقة، فإن العملة اليمنية لن تساوي قيمتها الحبر الذي طُبعت به”. ذلك ما كشفه رئيس الوفد الوطني المفاوض محمد عبد السلام، وكان رده قوياً، إذ قال للسفير الأميركي: “اقضِ ما أنت قاضٍ، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا”، وانتهت المفاوضات برفض صنعاء صفقة واشنطن.
ومنذ ذلك التاريخ، بدأ التهديد الأميركي يشقّ طريقه إلى التنفيذ تدريجياً عبر الخطوات التالية:
– تجميد الصّادرات من خلال فرض الحصار الشامل براً وبحراً وجواً، ما يؤثر سلباً في الجزء الأكبر من إيرادات العملة الأجنبية.
– نقل مهام البنك المركزي من العاصمة صنعاء إلى فرع البنك في عدن، علماً أنَ ذلك مخالف للقانون وللدستور، إذ إنَّ الدستور في المادة 11 أحال إلى القانون “مسؤوليَّة تنظيم قانون العملة والنظام المالي والمصرفي”، فيما نصَّت المادة 4 من الباب الأول في القانون رقم 14 للعام 2000 بشأن البنك المركزي اليمني، على أنَّ المركز الرئيسي للبنك هو مدينة صنعاء، لتسيير أعماله داخل الجمهورية وخارجها.
– القرصنة على “السويفت” (نظام التحويلات المصرفية العالمي)، لنقل آلية التحويل من العاصمة صنعاء إلى محافظة عدن.
– تهديد البنوك الخارجية بعدم التعامل نهائياً مع البنك المركزي في صنعاء.
– محاولة ضرب ثقة التجار والمواطنين، بما يضمن عدم إيداع أموالهم في البنك المركزي، لإفقاد صنعاء السلطة النقدية، وحتى لا يستعيد الكتلة النقدية من خلال العملة الصعبة الموجودة لدى القطاع الخاص.
– تجميد أرصدة البنك المركزي اليمني في الخارج، سواء في النقد الخليجي أو الدولار الأميركي.
– عرقلة الحوالات المصرفية من بعض الدول إلى اليمن.
ذلك كلّه على صعيد العملة الأجنبيّة، من أجل الدفع نحو تآكل الاحتياطي من النقد الأجنبي لدى صنعاء. وبموازاة ذلك، تم إغراق السوق المحلية بكتلة نقدية تجاوزت 5 ترليون خلال قرابة 5 سنوات، أي ما يعادل 3 أضعاف الكتلة النقدية المطبوعة منذ العام 1965.
الهدف هو ضرب التوازن في المعروض من النقد الأجنبي أمام النقد المحلي، بحيث يتقلَّص المعروض من النقد الأجنبي مقابل تضخم النقد المحلي، بما لذلك من تأثيرات سلبية، كما أشرنا، في القدرة الشرائية وارتفاع الأسعار، في ظلِّ انعدام الحد الأدنى من الدخل وانقطاع المرتبات، وبالتالي إضعاف الدورة التجارية والاقتصادية.
أمام هذه الحرب النقدية الأميركية في درجة أساسية، اتّخذت صنعاء عدداً من الإجراءات من أجل استقرار قيمة العملة الوطنية والحفاظ على ما تبقى من الكتلة النقدية المتوفرة لديها. من أبرز تلك الإجراءات منع التداول بالعملة غير القانونية الصادرة عن بنك عدن من دون غطاء من النقد الأجنبي والتنسيق مع الجهات المعنية، بما فيها أجهزة الأمن، لضبط أيّ مبالغ يحاول بنك عدن تسريبها، سواء عبر المسافرين أو التجار، إلى المحافظة الخاضعة لسيطرة المجلس السياسي الأعلى.
ونجحت صنعاء في تثبيت سعر الصرف ليستقرّ عند 600 ريال يمني مقابل الدولار، فيما وصل الدولار إلى قرابة 1000 ريال في عدن، أي ما يزيد على 400% من سعره الرسمي، قبل نقل مهام البنك إلى عدن، ولا يزال مرشحاً إلى الزيادة في ظلّ التضخّم النقدي وغياب السياسة النقدية.
ويرى مصرفيون أنّ ضخّ البنك المركزي في عدن السيولةَ باستمرار في السوق من دون غطاء، يفقد الريال اليمني قيمته مقابل العملات الأخرى، ويزيد من التأزيم والحرب النقدية والاقتصادية. وبالتالي، إنَّ التجاذب بين أطراف الصراع يؤثر سلباً في النشاط المصرفي واستقرار العملة في اليمن.
هذا الملفّ كان حاضراً بقوّة في كلّ جولات التفاوض، من سويسرا إلى الكويت إلى السويد والأردن. وكانت صنعاء عبر فريقها السياسي والاقتصادي تطالب بتحييد الاقتصاد والقطاع المصرفي عن الصراع، وتأسيس “صندوق” أو “حساب” تورد إليه كلّ موارد البلاد، وتكون من مهامه صرف مرتبات كلّ الموظفين تحت رقابة الأمم المتحدة، لكن تلك المطالب قوبلت بتعنّت حكومة المنفى، ومن ورائها السعودي والأميركي، وظلَّت تنهب ثروات البلاد السيادية، وتتلاعب بالعملة الوطنية وتدمّرها أكثر، وتسهم في ازدياد الوضع المعيشي سوءاً، إلى جانب التداعيات الكارثية للعدوان والحصار.
الخلاصة أنَّ صنعاء أبدت تماسكاً لافتاً لمواجهة كلّ تلك العقبات، ونجحت في تثبيت سعر الصرف عند معدل لا يتجاوز 3 أضعاف السعر الأصلي، وهي خطوة لافتة مقارنة الدول ببقية المستهدفة أميركياً، لكنَّ المشترك أنَّ ما يجري في اليمن يشبه ما جرى من انهيار الليرة التركية أثناء الأزمة بين واشنطن وأنقرة على خلفية قضية القس الأميركي إبان حقبة ترامب، وكذلك انهيار الليرة السورية بسبب “قانون قيصر” والعقوبات الأميركية، وحالياً انهيار الليرة اللبنانية. وقبل ذلك وخلاله انهيار التومان الإيراني، والدينار العراقي، وحتى الجنيه السوداني، رغم أنَّ عسكر السودان باتوا في الخندق الأميركي.
كلّ هذه الأمثلة تعزّز لدينا القناعة أكثر بأنَّ الحرب النقدية والاقتصادية أميركية بامتياز، بل باتت واحدة من أبرز أشكال الحرب التي تمارسها واشنطن ضد من يعارض مشاريعها في المنطقة والعالم.