مقالات

ثمرة العشوائية أبراج.. ولكن! بقلم| عبدالرحمن بجاش

بقلم| عبدالرحمن بجاش

تؤرقني هذه الحكاية؛ حكاية العشوائية التي تحكمت في التخطيط لحياتنا. من تلك اللحظة التي قلت لصديق من أهل “بيت بُوس”، وقد بدأ يبني عمارته على شارع الـ45 الصاعد من شارع الـ60، قلت له فورًا: أين الموقف؟ ولم أسأل عن بقية المرافق، فقد بدا لي الأمر مدعاة للضحك مني، مَرافق! أي مرافق؟

في السكن الذي عشنا فيه لبعض الوقت في موسكو، تلك المدينة الأجمل ربما في العالم، حول العمارتين اللتين تكونتا من 16 طابقًا لكل منهما، مساحات زرعتا بالحشائش، مسطحات خضراء من مثلثات ومربعات، وممرات تتخللها جميلة أخّاذة، أعمدة كهرباء اختيرت بعناية تضيف للمشهد أبعادًا جمالية تجعل الكثيرين يتخذون من المكان فراشًا لهم يستلقون عليه، متأملين زرقة السماء أيام الربيع والصيف. ضمن المبنيين دار للسينما، ومغسلة كبيرة للملابس، ومطعم ضخم وبوفيه، وملعبي تنس طاولة في الطابق الأرضي. ثم الأهم ربما، وهو ما لاحظناه متأخرين، كان السؤال: أين تذهب قمائم المبنيين؟ لنعرف لاحقًا أن في كل طابق فتحة كبيرة، منها ترمي قمامتك إلى الأسفل، حيث يتلقفها برميل كبير تأتي سيارة النظافة تحمله وتضع آخر بديلا عنه!

لم أجرؤ على أن أقول لصاحبي تلك التفاصيل وقد لاحظت أنه أهمل ملاحظتي وبنى على كل المساحة عمارة كبيرة بلا موقف للسيارات وهو أضعف الإيمان! هو فكّر في مساحة الدكاكين وعدد الشقق للإيجار! والسبب الأهم، أن لا جهة رسمية ألزمته.

في المغرب، عندما تبني عمارة، تعطَى مخططًا من المجلس البلدي شاملًا كل المرافق المطلوبة، وعندما تنجز، يأتي مهندس المجلس، فإذا تبيّن أنك لم تلتزم بالمخطط كله، وخاصة المَرافق، فلا يمكن أن تمنح ترخيصًا لمد كابلات الكهرباء والتليفون ولا الماء، وبالمطلق! في شارعي، حيث أسكن، كلما جلسنا إلى ديوان صاحبي مطمئنين، نفزّ فجأة على صوت منبّه سيارة يظل يردد نفسه بإلحاح، يحس صاحبي بالحرج، لكنه معذور، فهو يخاف أن تُسرق سيارته، إذ لا موقف للحيّ برغم أنه مخطط البلدية! وفي الحيّ عمارات كبيرة شققها مؤجرة، والشوارع على ضيقها مواقف للسيارات! معظم الوقت تسمع حكايات السرقة.

هذا سُرق إطار سيارته وذاك البطارية، وأحدهم حوّل الشارع إلى مكان يريح فيه سيارة لا يستخدمها. بمرور الوقت تتكدس النفايات حولها، فلا البلدية تلزمه بنقلها ولا النظافة تعاقبه على تكدّس نفايات الذاهبين والآيبين حولها. زد على ذلك، أن من يسكنون الدكاكين يقضون حاجتهم ليلًا حولها، ومن هذا ترى الكثير!

أيام إبراهيم الحمدي كان وكيل وزارة البلديات المهندس أحمد عبدالعزيز، وهو كفاءة مشهود لها ضاع وسط زحمة الزمن اللاحق، ذهبت إليه مكلفًا من رئيس التحرير إلى المبنى الذي هو إلى اللحظة مكتب رئاسة الجمهورية حتى ولو بلا جمهورية!

شكى لي الرجل يومها بمرارة، وكانت صنعاء لا تزال بكرًا: يا أخي، العشوائية تفرض نفسها غصبًا عنّا؛ يكون في رأسك مخطط للمنطقة الفلانية، فيأتي إليك أحدهم يطالب بتمهيد الشارع، فتكتشف أن حارة جديدة قد فرضت وجودها في المكان الذي نويت تخطيطه.

لا أزال أتذكر اسمها كما قالها لي: “حارة النور”! طيّب، من الذي رخّص وسمح؟ ومن ابتسامته تعرف الجواب! ابن سيناء أبو الأطباء كما هو معروف عنه، اعتُقل في قلعة “فردقان” بسبب كتاب له عن العسكر، فيه أشار لضرورة ألاّ يبقون في المدن لتماهيهم مع السكان ومع مرور الوقت يتحولون إلى عبء عليهم! بمجرد الإعلان عن برج جديد يسارع الجميع متزاحمين يدفعون، معظمهم هروبًا من مشاكل الأراضي، ليقعوا في فخ أبراج ستتحول إلى قوالب عقيمة مع مرور الوقت!

في زمن ما بعد ثورة 26 سبتمبر62، لم يتنبه أحد إلى أن الحياة لا يمكن أن يعلو مبناها سوى بالقانون، والقانون والقضاء حُماة الحمى، لتحلّ العشوائية محلّ كل شيء، وتنعكس مدنًا هي بالأصح تجمعات لكتل من “البُلُك” لم يقترب منها التخطيط وبالمطلق.

خذ تعز أنموذجًا، خذ صنعاء نموذجًا، وأكبر دليل مدن الليل التي وُلدت من رحم المعسكرات المحيطة! بمرور الوقت تفيض صنعاء بسبب البناء الأفقي العشوائي، تجمّع مساكن ضخم اسمه صنعاء بلا مرافق. الحي الذي أسكنه والمخطط للبلدية، اختفت المرافق التي ظهرت على الورق! حتى أرضية المسجد تحوّلت بقدرة قادر إلى مدرسة بُنيت بالحجر الأسود، وتبرّع أحدهم بأرضية أخرى للمسجد، لتختفي الحديقة والمدرسة، ولا توجد مساحة للخضرة بالمطلق، ويلعب الأطفال في الشوارع بين المطبّات!

بالقرب من الحي الذي أسكنه برج ضخم، بُني على شارع ضيق وقصير الطول، لا يوجد حوله أو بداخله أي مرفق ضروري. تهافت الجميع على شراء الشقق، ولا أحد منهم سأل عن المرافق التي سيحتاج إليها كساكن! هنا يبرز غياب الدولة التي يفترض أنها تمثل مصلحة المواطن وحاجته، وهي الغائب الأبرز دائما! الآن تتحول الدولة المنشودة إلى “جابٍ” للأموال بكل الطرق، الآن تبرز عشوائية من نوع آخر وباسم تصحيح ما اختل إبان النظام السابق والذي غيّر جلده فقط! والقادمين في الصف الأول يتعلمون!

ولذلك ترى مكتب الصناعة وقد حلّ محلّ مكتب الصحة، ومدير مكتب المحافظ صار بديلًا عن مكتب الأشغال المشغول بملاحقة من قام بكنس درَج بيته الداخلي، والذي عليه أن يدفع ضريبة قبل أن يحمل المكنس بيده! قال جمال: كنت ربما أشكو من الهدوء الممل حيث بنيت سكني عند سفح الجبل، أنا الآن، والحديث له، أهيئ نفسي للإزعاج والزحمة بسبب برجين نبتا فجأة، بدون مرافق! وهكذا هي معظم الأبراج.

عشوائية تضاف إلى عشوائية والنتيجة تشوُّه في نفوس أطفالنا. وكما توزعت جامعة صنعاء نِسبًا للدفاع والداخلية والأمن والشيخ، توزعت صدور الجبال مدنًا عشوائية- “هكذا تسمى تجاوزا”، و”فَلَخَت” الأبراج ساقيها بلا حسيب أو رقيب معظم الوقت.

فهي لم تأت كحلّ بقدر ما هي طريقة جديدة للكسب السريع، إذ بمجرد الإعلان عن برج جديد حتى يسارع الجميع متزاحمين يدفعون، معظمهم هروبًا من مشاكل الأراضي، ليقعوا في فخ أبراج ستتحول إلى قوالب عقيمة مع مرور الوقت! وقبل أن ينتصب عمود يكون قد جمع صاحبه تكلفة البناء والفوائد، وذهب يبحث عن أرض جديدة ليبني برجًا آخر بأموال الناس. هنا الدولة غائبة لأنها غُيّبت! على ذلك تُكحّل الآن العيون لتصاب بالعمى، والسبب أن الكل يشوّه كل شيء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى