الصين صدقت نبوءة مونتجُمري! بقلم| عبدالرحمن بجاش
بقلم| عبدالرحمن بجاش
لم يقلها عبثًا قائد انتصار العلمين في الحرب العالمية الثانية، وذلك بعد أن مدّت على يده عاملة التنظيف في الفندق ما ظنته شيئًا ثمينًا، ولم يكن يعدو عن كونه غلافًا لم تره من قبل لشفرات حلاقة الذقن! إذ بينما كان يهم بالصعود مودعًا من قبل مضيفيه الصينيين في محطة القطارات، تناهى إلى سمعه صوت يردد اسمه، التفت ليرى عاملة التنظيف تقف لاهثة وتسلمه العلبة الفارغة التي وجدتها في سلة القمامة. لم يقل لها إن ما أتت من أجله لا يساوي شيئًا، بل شدّ على يدها شاكرًا، بعدها أطلقها: “الجنس الأصفر قادم”! وقبله كان نابليون قد حذر العالم: “التنين الأصفر نائم، فلا تيقظوه”، أو هكذا قيل.
لم يأتِ “ماو تسي تونغ” في نهاية المسيرة الكبرى على صين لا تمتلك حتى بديهيات بلد مبتدئ من بلدان العالم الثالث، بل بلد منهك، مخدر! تركه البريطانيون غارقًا في المخدرات حتى أذنيه بسبب حرب الأفيون التي شاركت فيها فرنسا وخسرت الصين هونج كونج جراءها لصالح الإمبراطورية التي غربت عنها الشمس لاحقًا، لكنّ الصينيين انتصروا بفضل الحزب الذي قاده “ماو تسي تونغ”، الذي قاده منتصرًا على “تشان كاي تشيك”، الذي خرج بالصين الوطنية كمحاولة من المستعمر أيضًا، إبقاءها شوكة في حلق الصين الشعبية التي تأسست في 1 أكتوبر 1949، بإعلان من ماو، الذي لم يكن أمامه والحزب الذي لا يزال يقود مسيرة الصين نحو قمة القمم، إلا أن يختط لنفسه خطًّا بعيدًا عن الحزب الشيوعي السوفيتي. فخصائص الصين تختلف عن خصائص الواقع السوفيتي، وبسبب ذلك حدث صراع أدى في نهايته إلى التخلص من “عصابة الأربعة” وانعطاف الصين نحو العصر الآخر. في الطريق وبسبب ذلك الصراع فقدت، إلى حين، تايوان، التي تعهد الرئيس الحالي مدى الحياة “شين جين بينغ” باستعادتها بالقوة، بعدما استعادت هونج كونج عبر شعار “دولة بنظامين”.
لم يأتِ كل ما حققته الصين عبثًا؛ فقد بدأ الصينيون المعاصرون نقاشاتهم الجادة باحثين عن الجواب، عن أي صين يريدون، منذ السبعينيات ومن المكان الصحيح (الجامعات)، ولم تكن “الثورة الثقافية” مجرد عملية إلهاء رغم قسوتها، فقد كانت هي الأخرى مهيأة لصين جديدة، حيث أعادت صياغة الإنسان هناك وبقسوة، وكانت هي الأخرى محاولة من محاولات حثيثة للخروج إلى البر الآمن. في المقابل كان الحزب الشيوعي السوفيتي يتحول يومًا عن يوم، إلى آلة ضخمة هائلة، لكنها صدئت للجمود الذي طبع حركتها، عكس الصيني الذي ظل يبحث عن المخرج، خاصة أن عدد سكان الصين ظل يتزايد يومًا عن آخر، فوجده عبر حراك نشط كانت بعض فصوله قاسية جدًّا، لكنها كانت آلام المخاض.
الحزب الشيوعي الصيني أسسه في العام 1921: تشن دوك سو، ولي تاتش أو، وماو شواين لاي، وآخرون. ويقوم الحزب كأيديولوجيا على خط واضح: “اشتراكية بخصائص صينية” من وحي الماركسية اللينينية، ولكن بما يناسب الصين، قائمًا على المركزية الديمقراطية، ويعقد مؤتمره كل خمس سنوات، وبين كل دورة وأخرى تراه يضيف جديدًا من وحي تراكم حققه خلال مسيرته التي لم يتنكر لرموزها عبر مراحلها المختلفة، بل استطاع نتيجة لذلك أن يتجدد ويقود الصين إلى آفاق تطور يشهدها العالم اليوم فاغرًا فمه معجبًا بعضه ومصابًا بالغيرة بعضه الآخر، حيث يرى فيه الغرب خصمًا لا بد من إيقاف استمراره، وهذا هو المستحيل بعينه.
أطلق “دينج شياو بينج” صرخته أو شعاره: “ليس المهم لون القطة، المهم أنها تأكل الفئران”، من وحي “الممارسة هي المعيار الوحيد للحقيقة”، بعد أن أقدم 18 فلاحًا في قرية نائية على خروج محسوب عن سياسة الحزب، ولكنها بشّرت بما بدأ يعمم على الصين كلها، كان “ماو” قد أطلق قبله شعارًا عبر عن المرحلة التي أطلق فيها: “دع ألف زهرة تتفتح”.
في الذكرى المئوية لتأسيس الحزب التي صادفت الخميس 1 يوليو 2021، احتفل الحزب والدولة، وألقى الرئيس الصيني خطابًا في ساحة “تيانانمن”، حيث لا تزال صورة ماو تسي تونغ تهيمن على الميدان الذي جرت فيه عملية سحق حركة الطلبة في العام 1989، التي رأى الحزب أنها محاولة غربية لزعزعة توجه الصين يومها.
الرئيس الصيني، لأول مرة وبلهجة حادة، هاجم ولم يدافع، حذّر من أي محاولة لـ”اضطهاد الصين”، “هؤلاء يضربون رؤوسهم في سور من الفولاذ”!
قيل انتظروا الصين إلى العام 2020، فلم تكذب خبرًا، وها هي تعلن في العام 2021، أنها القادم الكبير. ويكون السؤال الأهم:
كيف نجحت الصين في الوصول إلى ما هي عليه وإلى آفاق القادم؟
لجأت إلى قيمها الأخلاقية. سيقول قائل: والإيغور؟ سيكون الجواب: نعم، هم مسلمون، لكنهم صينيون، وأمرهم شأن داخلي، والصين ليست ملائكية، لكنها لا تتدخل في شؤون الآخرين.
قرأ الحزب خصائص الواقع الذاتية والموضوعية، وانطلقت الصين بتجربة تتم مراجعتها على الدوام، وقالت للآخرين: هذه خصائصنا وخصوصياتنا، ولن نقطع معكم علاقة، لكنها العلاقة المتكافئة التي ترعى حق الجميع. ونجحت، في الوقت الذي وصل الحزب الشيوعي السوفيتي إلى طريق مسدود؛ لأن التطبيق كان في وادٍ، والنظرية في وادي أحزاب العالم الثالث العقيمة والعربية منها بالذات؛ “قبائل وعشائر الماركسية”، التي قفزت على الواقع واصطدمت بالدين بدون مبرر، نقلت الكتب الحمراء بحذافيرها إلى واقع في عالم آخر، لتنتهي تجربتها هي الأخرى بالفشل، وغالبًا بالدماء.
لم تتدخل الصين في شؤون الدول الأخرى، فلم تفخخ لها أحزابًا عقيمة، ولا سلّطت مخابراتها على شؤونها، فنالت احترام الجميع في مقابل أنها لم تسمح وبالمطلق، من الإيغور إلى التِّبْت، إلى حركة طلابها، لم تسمح لأحد بأن يتدخل في شؤونها.
أخذت من الاشتراكية ما يناسبها، ومن الرأسمالية ما يصلح لها، ولم تقل إن الحزب إله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولم تقل إن النظرية الماركسية اللينينية قرآن منزل.
الصين تتبوأ مكانها ومكانتها، ولأنها ليست أنانية فقد قالت الحكمة الصينية إن القمة ليست مدبّبة، بل مسطحة، بمعنى أنها تتسع للجميع.