مقالات

أصدقاء الأرصفة.. أطفال تنساهم النظرات الخاطفة بقلم| إنصاف أبو راس

بقلم| إنصاف أبو راس

كنت أقترب منهم بخطى مترددة، ليس لأني لا أرغب بذلك، بل لأني كنت دائمًا أشعر بأن التقدم منهم والغوص في تفاصيل ما يعيشون يجرح كبرياءهم؛ ذلك الكبرياء الذي كنت أراه يضج في ملامحهم البسيطة. لطالما مررت بمحاذاتهم، أراقبهم من خلف زجاج نافذة سيارتنا، نعم كنت أكتفي بمراقبتهم يمرون سريعًا كلحظة خاطفة يقتطعها الزمن ليرميها وراءه، لتُنسى كما ينسى كل شيء هامشي. أظن بأن الأغلبية هكذا يرونهم؛ كصورة أو لوحة رسمت بألوان باهتة، بتفاصيل عشوائية لا تثبت في عين الناظر إليها إلا لحظة عبور مآقيه بها، فلا تحرك فيه شيئًا فيما بعد، تنتهي تلك الرأفة لحالهم بمجرد أن تبرز صورة أخرى بألوان مبهجة، تنسينا ما تركناه خلفنا قبل لحظة خاطفة.

اليوم أردت أن أقترب أكثر، أن أمعن التدقيق في تلك الألوان التي تلامس تلك الأرواح، يملؤني اليقين بأنها تضج بالدهشة. فضّلت أن أضع هاتفي ساكنًا في حقيبتي، رغبت بأن يكون قلبي فقط، هو العدسة التي تلتقط تفاصيلهم وتحتفظ بها. رغبت بأن أتوحد بهم ولو لبعض الوقت. كانوا يشبهون أشجار الزيتون في عزّ الخريف؛ أغصانها عارية إلا من بعض وريقات تقاوم السقوط، تعصف بها رياح العبث فتفتتها دون رحمة، تبقى الأغصان كسيرة عارية، قد لا تغري العابرين ليتوقفوا تحت ظلها، لكنها تبقى رمزًا للسلام. يا إلهي، ألم يكن لها أن تستعيد اخضرارها، فقط، لو توقف أحد ما ليصب على جذرها بعض محبة فتؤتي أكلها!

جلست بالقرب منهم، ولم يكن الرصيف قاسيًا. هذا ما لفت انتباهي! نعم كنت أظنه يشبه أرواحًا عرفها أولئك الصغار الذين ما أن شاهدوني حتى تقدموا نحوي يوجهون إلي تهمة التعدي على حقهم! نعم كان ذلك المحيط مملكتهم. كانوا كبارًا رغم صغر سنوات أعمارهم، ملوكًا على مملكتهم الخاصة، وإن لم يرتدوا الملابس الفاخرة، قادةً لحماها وإن لم يكن لهم سوى سلاح الغضب الذي اعتلى جباههم المتصببة عرقًا، كشاهد على أيام الشقاء والتعب.

أمعنت النظر في كفوفهم الصغيرة المتشققة، تلك الخرقة المبللة بالتعب تخضع لعظمة عزيمتهم، وتؤدي عملها بإتقان على زجاج السيارات التي لا يمنعها من مواصلة طريقها سوى إشارة حمراء!

أرى إصرارهم وعدم استسلامهم، فأتخيل كيف كان سيكون مستقبلهم لو أن الحياة تبنّتهم وغمرتهم بعطائها؟ فكرت ماذا لو أن الأرض التي يعيشون عليها منحتهم حيزًا صغيرًا وضمتهم إليها؟ ماذا لو أن هناك أكفًّا تجود عليهم ليخرج منهم من به يصبح للمستقبل وجهًا جميلًا؟

ظلت الأسئلة تزدحم في عقلي وعيناي تحدقان بهم، مضى الوقت دون أن أشعر به، وقد صنعت لهم في خيالي قصصًا ونهاية تليق بتلك الأرواح التي فرضت عليها الأقدار عيش واقع غير الذي كان ينبغي أن يكون، واقع كان يمكن تغييره فقط، بأن يُمنحوا فرصة ليكونوا أصدقاء للوطن لا محض أصدقاء للأرصفة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى