تقارير وتحليلاتغير مصنف

هل ستتجاهل شعوب العالم درس كورونا بعد زواله؟

كتب / يافث القرشي

تصاعد الحديث في الآونة الأخيرة عن أن العالم الذي سيتشكّل بعد انتهاء الوباء العالميّ الحالي سيكون مختلفاً تماماً عن العالم الذي كان قبل هذه الأزمة.

يدور الحديث في الكثير من وسائل الإعلام عن صعود الصين باعتبارها قائدة العالم الجديد، ويعلن هنري كيسنجر في مقال له في “وول ستريت جورنال” بأنّ العالم بعد هذا الوباء لن يكون كما قبله، وهو الأمر الذي يؤكّده من سلوفينيا المُفكّر اليساريّ سلافوي زيزاك، بإعلانه أنّ الأمور لن تعود كما كانت عليه. تتكرّر هذه الفكرة العامّة كثيراً و بصِيَغٍ مختلفةٍ لكن لا يبدو أحدٌ ممّن يطلقون هذه التصريحات مُهتمّاً بالتفصيل أكثر بخصوص الأسباب التي ستجعل من العالم مختلفاً إلى هذه الدرجة.

فلنبدأ بالفكرة القائلة بصعود الصين كقائدةٍ للعالم بعد انحسار الأزمة. إذا ألقينا نظرة خاطفة وعامّة على توزيع الثروة،  وبالتالي السلطة، في العالم، سنلاحظ بأن عوامل القيادة هذه  لا زالت متمركزة في الغرب واليابان إلى حدّ بعيد، مع حال شبه ستاتيكيّة. لم تزدد سرعة انتقال رؤوس الأموال من الغرب إلى الشرق بسبب الوباء الحالي، وحتى حينما كان هذا الأمر يحدث، فإنّه كان ينتقل بوتيرةٍ بطيئةٍ ورديئةٍ وغير كفيلة بزحزحة الغرب عن مركزيّته. إنّ مَن يقولون بأنّ قيادة العالم ستذهب إلى الصين بعد انحسار الوباء مطالبون بأن يشرحوا كيف سيحدث ذلك. كيف سيُسرّع هذا الوباء العالميّ من عمليّة انتقال رؤوس الأموال نحو الصين؟ وكيف ستُعيد الثروة إعادة التمركز من الغرب إلى الشرق بفضل الوباء؟ بل، كيف سيؤذي هذا الوباء كلّ دول العالم اقتصاديّاً، ويستثني الصين التي صرفت أزيد من 100 مليار دولار على محاربة الوباء؟

حسب أطروحة الاقتصاديّ الأرجنتينيّ رؤول بريبيش  وزميله البريطانيّ هانس سينغر، وهي الأطروحة التي تشّكل أحد أعمدة نظريّة التبعيّة الاقتصاديّة لما تحتويه من دليلٍ استقرائيّ وتُعرَف بنظريّة بريبيش سينغر، فإنّ الدول الصناعيّة مُصمِّمة على شفط الثروة من الاقتصادات المبنيّة على تصدير الموادّ الأوليّة، فمع ارتفاع الدخل الفرديّ لكلّ مواطن في العالم، يرتفع الطلب على السلع المُصنّعة، كالهواتف والحواسيب والسيارات، وهي التي تحتكر صناعتها دول المركز، ولكن بالمقابل  لا يرتفع الطلب على المواد الأوليّة التي تتكوَّن منها هذه السلع المُصنّعة، وهي التي تعتمد عليها أغلب اقتصادات دول الهامش. 

هذه القاعدة وضعت سدّاً فولاذيّاً أمام دول العالم الثالث التي ترغب في ”الالتحاق” بدول العالم الأوّل عن طريق استجداء الاستثمار الخارجيّ، أو تتبّع وصفات صندوق النقد الدوليّ والبنك الدوليّ وهي وصفاتٌ للفشل الاقتصاديّ كما ثبت في كلّ الدول التي جرّبتها. 
إنّ الدول التي حاولت التركيز على التصنيع بنهج مُخطّطات اقتصاديّة ذات طابع اشتراكيّ (تُعرَف أيضا بدول العالم الثاني)، مثل كوريا الجنوبيّة والصين وروسيا وكيان الاحتلال الإسرائيليّ، أو الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي سابقاً، ثم قامت بالانتقال إلى منظومة الاقتصاد النيوليبراليّ، هي وحدها التي استطاعت كَسْر هذه القاعدة جزئيّاً.

السبب الثاني الذي يجعل البعض يعتقد بنهاية النظام الرأسماليّ القديم هو انهيار الشركات الكبرى وإغلاقها للأبواب وتسريحها للعمال، ممّا يترتّب عنه من تدخّل حكوميّ. يسوّق هذه الفكرة المُفكّر السلوفينيّ البارز سلافوي زيزاك، إذ يرى عدم قدرة على الرجوع إلى النظام القديم،  وأنّ النظام الرأسماليّ قد بدأ يدخل مرحلة جديدة. يُفسّر سلافوي دخول هذه المرحلة الجديدة بإرجاعه إلى التدخّل الحكوميّ الهائل لإنقاذ الاقتصاد الأميركيّ، بسبب الأزمة. هذا التدخّل، في نظره، لا يُبرّره المنطق الرأسماليّ المبنيّ على فكرة رفض تدخّل الدولة وترك رؤوس الأموال تنافس بعضها على السوق، وبالتالي حقّ الحديث عن نهاية نسخة من الرأسماليّة وبداية نسخة جديدة.

لا يوجد جديدٌ لدى الرفيق سلافُويْ. فالدعم الحكوميّ للشركات الأميركيّة كان يحدث منذ عقود، حتّى قبل أزمة 2008. يبدو الأمر ثابتاً في علاقة الرأسماليّة الحالية  بالدولة، كلّما حصلت أزمة ماليّة بفعل الديناميّة الداخليّة للنظام الرأسماليّ، كأزمة 2008، أو أزمة صحيّة تهزّ الأسواق العالميّة، تتدخّل الدولة بثقلها، ضاربة عرض الحائط مبدأ السوق الحرّة ومبدأ المُخاطرة في سبيل الربح، لتنقذ تلك الشركات الكبرى،  وبمجرّد أن تعود تلك الشركات قادرة على المضيّ وحدها، تنزوي الدولة إلى إشعار آخر. 

في أزمة العقد الماضي، أنقذت الحكومة الأميركيّة كُبريات البنوك الأميركيّة بحزمة تقدّر بـ700 مليار دولار، وهو مبلغ غير مسبوق إلى ذلك التاريخ، وما إن استعادت تلك البنوك عافيتها حتّى عاد النظام الرأسماليّ إلى عمله، كما كان تماماً، حرّاً في الرخاء، محميّاً من الدولة أيّام الضرّاء. لا يسوّق سلافوي أسباباً تجعلنا نعتقد بأنّ الذي يحصل الآن مختلف عمّا حصل سنة 2008.

لكنّني أؤكّد بأنّها فرصة لمُثقّفي العالم لفَضْح تعفّن النظام الاقتصادي العالميّ، والسياسات النيوليبراليّة المُملاة على الدول، وفضح المُدافعين عنها على مستوى أمّمي.

من الواضح أنّ هذه الأزمة قد أظهرت فشل اليمين، المحافظين،  ومجمل المعكسر البرجوازيّ المُدافِع عن السياسات النيوليبراليّة كخصخصة التعليم والصحّة باعتبارها قطاعات غير مُنتجة. 

السؤال هنا، هل ستنتج لنا هذه الأزمة نزوحاً سياسيّاً دوليّاً نحو اليسار بعد ثبوت فشل الإيديولوجيا الحاكمة حالياً في حُكم دول العالم؟ أم إنّ هذه الأزمة لن تكون إلّا أحد الدروس التي ستنجح شعوب العالم بشكلٍ مذهلٍ في تجاهلها؟
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى