فنّ الغِناء اليمنيّ بين الوحْدة والتنوّع.. بقلم / ليسا جاردنر
حيروت – ثقافة وفن
بقلم الكاتبة/ ليسا جاردنر
أصوات البشر ما هي إلا لغات مختلفة، وما يميز البشر هو استخدامهم للغات عدّة، و بهذه اللغات يحص التواصل المخاطبة و التحدث و التعارف، و قد نجانب الصواب إن قلنا إن البشرية تتحد في اللغة وتختلف في الألسن على اعتبار انّ اللغة Langageخاصيّة كونيّة في حين أن اللسان Langueخاصيّة اجتماعية ويتطور الانسان بنطقه ;وبانتمائه للسان معين وتبقى ميزته الخصوصية الشخصية في أسلوب كلامه ونوعيّة خطابه Discoure ou la paroleو الكلام بقدر ما يعكس أسلوب الشخص وقدرته على اختيار الألفاظ والكلمات التي تجعله يختلف من فرد إلى فرد، ويصدق أيضا في نظم الكلام الذي يظهر بوضوح في التغنّي بالشعر حيث تولد ظاهرة فنّ الغناء والطرب. ونجد في كتاب “معجم المعاني” شرحا لمعنى الغناء بما هو طرب وترنُّم بالكلمات أي بالكلام الموزون فالأشعار “وهي ضرب من الكلام” وكذلك الأمثلة وغيرها من الحكم يطرب لها الناس ويترنّم بها… وفي نفس السياق يشرح معجم كامبريدج الانجليزي أن الغناء هو صوت وفعل وإنتاج للأصوات مع تداخل بعض الآلات الموسيقية وانسجامها مع الصوت الإنساني، وعادةً ما يُشكّل نغمٌ ما في تناغم صوتي أي كلاميٍّ وموسيقيّ في آن. وقد يستخدم البشر الغناء في مراسم عدّة وأعظمها هي الاحتفالات العائليّة والاجتماعيّة والوطنيّة، وهو ما يجعلنا نلاحظ مدى ترنّم الناس بالغناء في كافة انحاء الأرض، لكن هذه الشموليّة في التعبير الغنائي لا تجعلنا نغفل عمّا تتميّز به العمليّة أو الظاهرة الغنائيّة من ازدواجية البساطة والتعقيد في نفس الآن. إذ هي تستجيب أو تجسّد في نفس الوقت ما يعيشه الإنسان من حالات نفسيّة ووجدانيّة واجتماعية مختلفة وفي بعض الأحيان متناقضة شكلا ومضمونا فهناك من يغني للتّعبير عن الفرح وآخر ليعبر عن شجنه وحزنه … لذلك يختلف الغناء في أنماطه وألوانه اختلافا عميقا تستجيب له الايقاعات والأساليب والأدوات الموسيقية من مجتمع الى آخر ومن حضارة إلى أخرى إلى حدّ أننا كدنا نجزم أن في الغناء بأنماطه المتنوعة عامل ثراءٍ حضاريٍّ لا ريب فيه.
وفي هذا المجال بيَّنت منظمة اليونسكو بأن الغناء اليمني الصنعاني هو من التراث الثقافي اللاّمادي الإنساني الكوني وأكّدت على ضرورة المحافظة علية و إبرازه للعالم، و قد لا نبالغ حين نقول بأن الأغاني اليمنية لها من الجذور التاريخيّة ومن الأصالة ما يميّزها عن غيرها فهي تعود إلى القرن الرابع عشر للميلاد، هذا بالإضافة إلى ما لألوان الغناء اليمني من سحر وانجذاب، فهي بديعة تبهج القلوب و تطرب السامع فينقل مع الغناء اليمني إلى عالم اللاوعي حيث اختلاجات النفس في حكايا حميمية وحوار روحاني موسيقي مع ذاتها وفي تناغم فعلي فيصبح المستمع في حالة نشوة وانبهار فريد من نوعة . ولعل هذا ما أراد تأكيده الفيلسوف الألماني في كتابه ” ميلاد التراجيديا” حين أعلن أنه “لو لم يكن هناك ابتكار للموسيقى وللغة لما استطعنا نحن البشر التواصل والتأقلم فيما بيننا البتة.” لهذا نجزم أن الغناء هو فنّ التعبير الجدلي و المحسوس للعواطف و المشاعر البشرية بتوسط الأصوات البشرية المتناغمة مع الآلات الموسيقية، و هنا تتّضح الرؤية لتأكيد أن الغناء هو عاملُ خلق للشعور الإنساني ووسيلة تعبير عن تجربة وجود فردي وجماعي قد تخفف من معاناة البشر و أحيانا أخرى قد يكون عامل انسلاخ من الذات أو بعبارة علم الاجتماع “الانسلاخ من النفس”، لنعيش النغم و وجمال الصوت في تعبيره عن حالة فرح، أو حزن، أو وجدان رومانسيّ ، وهنا بالذّات يتربع الغناء اليمني على عرش الثقافة البشرية، و ينتشر الغناء اليمني بألوانه المختلفة، ليكسو أرض اليمن بجماله و انواعه وأنماطه المتعددة، فهناك أنماط مختلفة من الغناء اليمني لا يمكننا عدها جميعا و لنذكر منها الغناء الصنعاني، العدني، التهامي، التعزي، اللحجي، الحضرم… وغيرها من الألوان الغنائية المتنوعة، وعلينا ألا ننسى فنّ غناء الاناشيد ، و الزامل، و الموشحات الدينية و الموالد.. و تحتلّ الموشحات اليمنية الصدارة في فن الالقاء و العزف، و أبيات الشعر الغنية الزهيّة، التي لا نضير لها بين الدول العربية، و لنا أن نذكر هنا أن أوّل شاعر يمني غنى نمط الموشح هو الشيخ الصوفي أبو بكر بن حنكاش، و تبعه الكثير و انتقل هذا النمط من الغناء إلى ربوع اليمن و الدول المجاورة ثمّ العالم الإسلامي. ولا نبالغ حين نقول بأن الغناء اليمني يتميز بثرائه وتنوعه وجماله، فهو يتلون كلوحة بديعة بألوانها الشجية، وفرادته، ليسلب العقول والقلوب. وترتبط الاغاني اليمنية ارتباطا وطيداً بالإنسان اليمني، وحضارته العريقة فيغني الناس في الأفراح، وفي الحقول، وفي جلسة المقيل، ويقترب الغناء بالنساء والرجال معاً، حيث يشدو جميعهم بأصواتهم العذبة بين السهول والوديان اليمنية، في موال صنعاني يمني مهيب لتطرب بجذورها أعماق التاريخ، وكيف لا واليمن مهد الحضارات وأصل الثقافة، والفن.
ولآلة العود مكانة الروح في جسد الفنّ اليمني، وقد تميز المطربون اليمنيون بمعارض استخدام العود، إلى حد أصبح العود يصاحب الفنان اليمني كملازمة الظل للجسد كأنه عيني الفنان وقلبه النابض به يعزف أجمل الالحان ويغنّي بصوت رخيم تهتز له القلوب وتنحني له الروح في انسجام تام.
وقد سيندهش القارئ حين يعلم أن هناك اغاني صنعانيه عمرها أكثر من 500 سنة، وطبعا لكلّ أغنية قصّة خاصة بها وتختلف كل اغنية عن اخواتها الموروثة عن الأجداد، وتتفرَّد بكلماتها والحانها، وايقاعاتها، ولهجتها القويّة، المستوحاة من لسان اليمن، لسان العزّة والإباء. ويعرف الغناء الصنعاني واليمني حالات من عذوبة الإيقاع واللهجة القويّة المستوحاة من صنعاء وأرجاء اليمن كافة، فيترجم الغناء اليمني لون التضاريس، والجبال الشامخة، والأرض الطيبة، ويتبلور كل هذا ويندمج مع غناء الفنّان اليمني ليصبح الفنّان واليمن لحن خالد على مدى الازمان، ونسمع صوت ” الدان” الحضرمي يدن دن، في قلوبنا ” وااااا دان، وااا دان دانة” لتتراقص على أنغامها الصبايا بين الحقول والوديان الخضراء وتحت سماء اليمن الزرقاء. اندمج إذن الغناء اليمني مع الإنسان اليمني وأصبح طُقُسا من طقوس عيشه ونبراس سرمديّ من حياته…ويرتبط الشعر الحميني بالغناء الصنعاني الذي اشتهر بغناء الفاظه، وفصاحته، وغزله ويُختم البيت الشعري عادةً بالصلاة على النبي، لتبجيله المصطفى وذكره في كل الحالات. تقول سارة البردوني وهي تتحدث عن آلة العود الصنعاني، ” لقد ارتبطت الآلات الموسيقية بالغناء الصنعاني منذ نشأته على بلاط الدولة الرسولية قبل خمسة قرون….” ومن خلال نقوش ورسوم سبئية قديمة يرجع بعض المؤرخين بأن عمر هذه الآلة قد تعود إلى الألف الأولى قبل الميلاد. هذا الفن العريق الذي جمع بين فن الكلمة والعزف يعبّر عن هوية وعظمة الإنسان اليمني، وقد كتب الدكتور “جان لامبير” عالم الانثروبولوجيا وموسيقى الاعراق، كتاباً أطلق عليه اسم الغناء الصنعاني، وكتاب دواء الروح الغناء الصنعاني في المجتمع اليمني، وقد استغرق بحث هذا العالم الجليل في البحث عن الفن وأصول الغناء الصنعاني 20عاما، وقد أخرج فيلماً وثائقيّا عن الغناء الصنعاني.
إنّ الغناء اليمني يعكس تراث وحضارة شعبه، وقد عُرفت اليمن بموسيقاها منذ العصور القديمة واشتهر اليمن وفنّه بخاصية نادرة وهي عبقةْ الفريدة لهذا يمكنني أن اختم بالقول:” ارفع رأسك إنك يمنيّ”.