هل ينتشل الوسيط العُماني السّعودية من مستنقع اليمن؟ بقلم| محمد السادة
بقلم| محمد السادة
أثبتت مسقط السَّلام أنَّها وسيط مُحايد يمتلك فائضاً من القدرة على القيام بمساعٍ حميدة، تعدّ محلّ تقدير وثقة من قبل الأطراف المعنيّة بالوساطة، فقد كان الوسيط العُماني، بما يملكه من مواصفات الحياد الإيجابيّ، ومن رصيد من الخبرة والتّجارب الناجحة، عاملاً أساسيّاً في حلِّ عددٍ من القضايا والملفّات الحساسة في المنطقة، منها على سبيل المثال الدور المبكر في الملف النووي الإيراني، واستضافة جولات مفاوضات سرية بين إيران والولايات المتحدة، تكلّلت بتوقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة “5+1” في العام 2015. ولا نستبعد أن تستكمل مسقط جهود الوساطة السابقة، وتكون المنقذ للاتفاق النووي، في حال فشلت محادثات فيينا الحالية من أجل عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي الذي انسحبت منه في العام 2018.
رغم صعوبة الملفّ اليمنيّ، فإنَّ سلطنة عُمان مؤهّلة أكثر من غيرها للقيام بدور الوسيط المُحايد الَّذي يمتلك فرصة نجاح كبيرة، تُعزّزها حقيقة مفادها أنَّها ليست طرفاً في العدوان على اليمن، كما هو حال الولايات المتحدة أو السعودية، اللتين تظلان طرفاً مباشراً في العدوان غير مؤهّل للوساطة وتقديم المبادرات، مهما حاولتا الظّهور بمظهر الوسيط.
لذا، كانت الهزيمة العسكريّة والفشل في تقمّص دور الوسيط عاملين رئيسيّين لبروز الوساطة العُمانيّة، التي ما كانت لتتمّ إلا بطلب من واشنطن والرياض، وبترحيب من صنعاء، يُجدّد الثقة بالوسيط العُماني الذي يحظى بإجماع يمني وإقليمي ودولي.
وفي إطار جهود الوساطة التي تشمل نقل المواقف والمطالب والتقريب بين وجهات نظر الأطراف المعنية، قام وفد المكتب السلطاني العُماني بمهمّة ناجحة في صنعاء استغرقت قرابة أسبوع، أجرى خلالها العديد من اللقاءات مع المسؤولين في الدولة، وعلى رأسهم قائد الثورة عبد الملك الحوثي ورئيس المجلس السياسي الأعلى مهدي المشاط.
وخلال اللقاءات، استمع الوفد العُماني إلى رؤى صنعاء وتصوراتها في الجوانب الإنسانية والعسكرية والسياسية التي من شأنها إنهاء العدوان ورفع الحصار وخروج القوات الأجنبية، مع تأكيد رفضِها الفهمَ القاصر لدى من يربطون الجانب الإنساني بالجانب السياسي، ويعتقدون أن إنهاء العدوان والحصار يُعد تنازلاً من تحالف العدوان يقتضي مقايضة صنعاء وتحقيق المكاسب، فالمقايضة في ما تكفله التشريعات والقوانين الدولية من أبسط حقوق الإنسان تُعد سقوطاً أخلاقياً، إذ إنَّ إنهاء العدوان وإعادة فتح مطار صنعاء الدولي وميناء الحديدة لا يعدو كونه مجرّد وقفٍ لجرائم تحالف العدوان وانتهاكاته للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، الأمر الذي يُعيد تمكين الشعب اليمني من مُمارسة حقوقه في السفر والحصول على الدواء والوقود وغيرها من الحقوق التي كان المواطن يتمتع بها قبل شنّ العدوان.
وبذلك، تكون صنعاء، على امتداد سنوات العدوان وحتى الآن، هي التي تُقدم التضحيات والتنازلات من أجل السلام، وليس الاستسلام الذي يعني وقف الصمود والتصدي للعدوان. لذا، إنَّ الوقف الشامل لإطلاق النار وإعادة فتح مطار صنعاء الدولي أمام حركة الملاحة الجوية من دون قيد أو شرط، إضافةً إلى إعادة فتح ميناء الحديدة، يأتي في إطار إجراءات بناء الثقة بين الأطراف، وتهيئة مناخات العملية التفاوضية بينهم، بما يُعيد الأمن والسلم إلى اليمن والسعودية والمنطقة، وفق مبدأ حُسن الجوار، وعلى قاعدة “لا ضرر، ولا ضرار”.
التناقض بين رغبات واشنطن وأدواتها وتوجهاتهم
تُدرك واشنطن أنّ السّلام الحقيقيّ في اليمن يُشكّل مأزقاً لها ولأدواتها. لذا، تُمارس سياسة الضغوط القصوى على صنعاء كلّما شعرت بذلك المأزق. وفي هذا الإطار، تأتي التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ومبعوثه إلى اليمن تيموثي ليندر كينج، لتُخاطب المجتمع الدولي، وتشكو إليه صنعاء، التي تُظهرها تلك التصريحات بمظهر الرافض للسلام، وتُحمّلها المسؤولية الرئيسية لما تُسميه الولايات المتحدة “رفض الحوثيين العمل الجاد من أجل وقف إطلاق النار واتخاذ خطوات من أجل الحلّ”.
هذا التّصعيد الأميركيّ تجاه صنعاء الرافضة لسياسة الإملاءات وفرض الرؤى الأميركية لإحلال السلام في اليمن، يأتي مدعوماً بسياسة العقوبات وإطلاق التهم التي تستخدمها واشنطن تجاه كل الدول التي تملك قرارها وترفض التدخل في شؤونها، كالصّين وروسيا وإيران.
لذا، لا غرابة في أن تقوم واشنطن مرتين خلال شهر واحد باستخدام هذه السياسة العقيمة ضد صنعاء، إذ قامت في المرة الأولى بتصنيف عدد من قياداتها في قائماتها للإرهاب، بحجة عرقلة جهود السلام في اليمن وما تسمّيه “استهداف مأرب”. وفي المرة الثانية، قامت بفرض عقوبات على بعض الأشخاص، بحجة تقديم الدعم والتسهيلات المالية لمن تسمّيهم “الحوثيين”.
هذه التصريحات والإجراءات الصادرة عن واشنطن تدل على الإرهاب الذي تُمارسه، وتعكس صلابة صنعاء وموقفها الرافض للمقايضة والابتزاز الأميركيّ الّذي يسعى لتتويج عدوانه على اليمن بحلول سلام ترقيعية قاصرة، لا تضمن سوى استمرار مصالحه وتدخّلاته مع أدواته السعودية – الإماراتية على حساب اليمن وحقوق أبنائه، كما تؤكّد توجّهاتُ واشنطن التصعيدية صواب التوجّه والمشروع اللذين تخطّهُما صنعاء في معركتها للتحرّر وإسقاط الوصاية.
لا تختلف توجّهات الأدوات كثيراً عن توجهات واشنطن “المُشغّل لها”، فقد ظهر مؤخراً مندوب السعودية لدى الأمم المتحدة عبد الله المعلمي في حالة انفصام وتناقض فجّ مع توجهات قيادة بلاده، ففي الوقت الذي يحاول ولي العهد محمد بن سلمان خطب ودّ صنعاء، مشيراً إلى أنَّ مكوّن “أنصار الله” لديه نزعة عروبية، يأتي مندوبه لدى الأمم المتحدة ليصف من يُطالبهم بالحوار (أنصار الله) بأنهم منظمة إرهابية، متجاهلاً حقيقة أن هذا المُكون أضحى أكبر المكونات وأبرزها حضوراً في المشهد اليمني، وهو من يقود الدولة ويُدير شؤون أكثر 75% من سكّان اليمن.
لذا، بقدر ما تعكس تلك التوصيفات والتهم حالةً من التخبط في السياسة الخارجية السعودية تجاه صنعاء، فإنها لن تُضيف شيئاً إلى حقيقة الثقل الكبير الذي يُمثله مُكون “أنصار الله” محلياً وإقليمياً، وتوجهه الثابت في قيادته مشروع اليمن النهضوي.
حكومة الرئيس المنتهية ولايته عبد ربه هادي تعيش أيضاً حالة إنكار للواقع، ناجمة عن التغييب والجهل بتطورات المشهد اليمني، التي لا يُمكن لوزراء هادي رصدها وتحليلها من فنادق الرياض، وهم في حالة استجمام مُستمر.
تؤكد هذه الحالة التصريحات الأخيرة لأحمد بن مبارك، وزير خارجية حكومة هادي، الذي لا يزال عالقاً في شباك مصطلح المرجعيات الثلاث (المبادرة الخليجية، ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني، وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216)، التي طالب بها في تصريحاته كأساس للحل، رغم إقرار المجتمع الدولي بواقع المعطيات الجديدة التي تجاوزت مصطلح هذه المرجعيات، ومطالبته بقرار أممي جديد يستجيب لتلك المستجدات، حيث من المُتوقع أن تكون بريطانيا، قد أنجزت مسودة القرار، بانتظار المخرجات النهائية لحراك مسقط الدبلوماسي بين الأطراف المعنية، ليتم استيعابها في القرار المُزمع صدوره.
ختاماً، إنَّ مسقط التي رفضت بالأمس طلب الرياض للانضمام إلى تحالف العدوان الذي تقوده على اليمن، تقبل اليوم طلبها للقيام بدور الوسيط. وما كان لهذا الطلب السعودي أن يتم لولا الصمود المُتعاظم لصنعاء وإسقاطها كل رهانات تحالف العدوان، وفي مقدمتها الرهان العسكري الذي كسر غرور الرياض ووضعها أمام خيارات محدودة، الأمر الذي اضطرها في نهاية المطاف إلى البحث عن حلول للخروج من المستنقع اليمني، ولو باللجوء إلى وساطة من لا يتفق معها في سياساتها الخارجية.
ولا شكّ في أنَّ قبول مسقط القيام بدور الوسيط لم يكن من باب مجاملة الرياض وواشنطن أو صنعاء، بل يأتي في إطار وجود فرصة سانحة للسلام، تهيأت لها الأرضية المشتركة لمختلف الأطراف المعنية، بما يُمكّن الوسيط العُماني من تقديم الدعم لإجراءات بناء الثقة، ونقل المواقف والمطالب، والتقريب بين وجهات النظر، وصولاً إلى اتفاق يُحقّق السلام العادل.
لذا، إنَّ استكمال عوامل نجاح الوساطة العُمانية يرتبط بشكل رئيسي بسقف الجدية لدى الطرف المُعتدي، ممثلاً بالرياض وواشنطن، ومدى القدرة على وقف انتهاكاته للقوانين الدولية الإنسانية، مع الوفاء بالتزاماته وفق ما يتم من تفاهمات واتفاقيات، إضافة إلى التسليم بحقيقة أن ما عجز عن تحقيقه تحالف العدوان على اليمن بالترسانة العسكريّة الضّخمة وجحافل المرتزقة لن يناله بالسياسة والدبلوماسية وشعارات السّلام الزائف.