مش وقته…! بقلم| عبدالرحمن بجاش
بقلم| عبدالرحمن بجاش
وقفت في المكتبة أكتب إهداءً لصديق في كتابي الأخير. كان هو يقلّب العناوين بالقرب مني، سمع اسمي يردده صاحب المكتبة، اقترب مني، أحسست أنه يريد أن يكلمني، فتحت الباب أنا:
– كتابك جميل يا أستاذ، بس…؛ قطعته، وقلت:
– بس الاسم عنصري… وما يصِحّشْ الآن؟
قال: – أيوه.
– هل قرأته؟
– لا!
يا إله السماوات والأرض احكم بيننا؛ كيف لإنسان أو بالأحرى، قارئ يحكم على كل شيء من خلال عدم إعجابه بشيء واحد، ولم يطلع على هذا الشيء ولم يره. كذلك الصديق لحسام الذي كتب عنه متّهمًا له، وعاد ليعتذر، ولما سأله؟ أجاب: “قالوا لي”. كان ذلك مونولوج داخلي، ابتسمت، قلت: “خذ هذه النسخة على حسابي وهذا إهداء؛ ما اسمك؟”، “فلان”، “اقرأه، وهذا رقمي، عندما تكْمل، اتصل بي، وقل: ثبت شرعًا أن كتابك لم يعجبني، وسأرد عليك بكل احترام: هذا حقك”. ذهب، وأنا منتظر، سمعته يهمهم: “مش وقته”!
ما “يصحش”، “ما يجوزش الآن”… كثيرون يردّدون هذا المحذور، وطول أعمارنا ونحن نكرر وننافق بعضنا، وفي مجالسنا الخاصة نئن ونشكو ونتبرم، وعندما نلتقي من نشكو منهم ترانا نبتسم ونجامل، قل ندسّ رؤوسنا في الرمل أو في الرمال.
أوروبا وأمريكا وصلوا إلى ما وصلوا إليه بعد سنين من حروب “البسوس” و”بكر” و”تغلب”. في النهاية، وعندما تعبوا، قالوا لأنفسهم ولبعضهم: تعالوا نجرب الحوار مش المغالطة، تعالوا في كل بلد نرفع كل ما تحت الطاولة إلى فوقها، ونتناقش ونختلف، ونصل إلى قواسم مشتركة، حتى الدِّين نضعه على الطاولة ونتناقش، كمذاهب وطوائف ونخرج إلى طريق.
خرجوا إلى طريق، اتفقوا على أن يكون أمر التدين في أي دين، أمر شخصي بينك وبين خالقك، وكل المحرمات التي كانوا يهمسون بها، وضعوها على الطاولة ووجدوا الحلول لها، وها نحن نراهم اليوم.
نحن لا نزال في “حرب البسوس”، وهي حرب، بسبب ناقة، أكلت الأخضر واليابس طوال أربعين سنة، حتى إذا نادى المنادي بمقتل المهلهل، كانت “بكر” و”تغلب” قد كرهت نفسها وكرهت السلام، فقد مات الرجال وتيتّمت النساء وصار المعاقون أكثر عددًا!
بلد دُمّر فيه كل شيء، ليس بسبب” اللُّغْلُغي” ككتاب، بل بسبب عوامل التعرية التي تراكمت في الدست. لقد ظللنا طوال سنين نرقّع ونناور باسم الوحدة الوطنية، ولو كنا تحاورنا مجتمعيًّا أولًا، وتواجهنا واختلفنا وقبِلنا بعضنا وناقشنا كل المحرمات، ما وصلنا إلى حرب تقضي على الأخضر واليابس وطنيًّا، بعد حوار وطني، كما قالوا، استمر عامًا كاملًا تقريبًا.
تحت مبرر “ما يصحشْ”، “ما يجوزش”، “مش وقته”، أهدرنا فرصًا كثيرة. الآن أقول لكم: إذا أردتم الخروج من المأزق الكبير، فناقشوا كل ما ترونه محرّمًا، أو لتضلّوا كالنعامة.
وبقي شيء واحد، وهو أنني عدت أقرأ وثيقة مبادئ حقوق الإنسان العالمي، فلم أجد “اللغلغي” من بين المصطلحات المحرّمة والعنصرية، ولم أجد منظمة حقوق إنسان في الكون تقول بعنصرية اللفظ.
وأهمس في أذن من علّق: أنا لُغْلُغِي وافتحر، أن أصحاب صنعاء عندما كانوا يردّدون اللفظ أو المصطلح، فتحوا لنا بيوتهم ليكرمونا؛ لأن الأمر لم يكن يتجاوز النكتة أو ردّة الفعل الاجتماعية الطبيعية، مثل “جبلي”، “خباني”… إلخ.
واجهوا بشجاعة، وضعوا “ما يصحش” “مايجوزش”، “مش وقته”، جانبًا. لو كنا، ومن غداة إعلان الوحدة اليمنية العام 1990، وضعنا كل أوراقنا على الطاولة، ومنها:
صيغة حكم البلاد
حوار “مطلع” و”منزل”،
ما كنا وصلنا إلى حرب 94، وارتداداتها وامتداداتها في كل اتجاه، ما كان حصل ما حصل، لكننا ظللنا نرفع شعارات من وحي عاطفة لا تبني ولا تؤسس لمشروع، ظللنا نرقّع ونخادع ونتذاكى ونلفّ وندور، ونراكم الأخطاء والخطايا، حتى انفجر القدر في الوجوه المجدورة.
الآن نمرّ بمنعطف لا تدري إلى أين يصل بنا أو نصل به. وتقول كل المؤشرات إننا سائرون إلى نفس النقطة والصيغة، لنجد أنفسنا وقد أضعنا عمرًا سيتسيّد ما بعده رؤية لاتجاه واحد يريد أن يقود القطار والآخرين مجرد ركاب. هنا سيكون علينا أن نهيئ أنفسنا لجولات صراع لا تبقي ولا تذر. وقتها ردّدوا: “ما يصحش”، “ما يجوزش”، “مش وقته”! خيوط.