مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بقلم| عبدالباري طاهر
بقلم| عبدالباري طاهر
في النصف الأول من القرن العشرين الماضي، دعا اليسار الصهيوني إلى دولة فدرالية يهودية – عربية؛ أي دولة تضم الفلسطينيين العرب واليهود، بما يعني رفد العقل الإسرائيلي بالمال العربي، وهو ما دعا إليه ملك المغرب، وتنفذه الآن بعض الدول الخليجية رغم استمرار الصراع. دعا حزب راكاح اليساري الماركسي الذي ضم قيادات يهودية وفلسطينية إلى دولة فدرالية فلسطينية – يهودية.
لم يكن اليسار الصهيوني العلماني مخلصًا لشعار الدولة اليهودية العربية؛ لأن رهانه كان على الحرب. أسّس اليسار الصهيوني الدولةَ الإسرائيلية، وكانت العصابات الصهيونية الأكثر يمينية وتشددًا وإرهابًا، أحد أهمّ أذرع هذه الدولة. نكبة 1948، أسهمت في تعزيز، وقوة الاتجاهات الصهيونية الأكثر يمينية وفاشية، وفي حرب 1967، انتصرت القوة المدعومة من الإمبريالية الأمريكية والاستعمار الأوروبي.
المواجهات العسكرية المفروضة من قبل الاحتلال الاستيطاني مع الشعب الفلسطيني والأمة العربية، أسهمت في إبقاء القضية حية في نفوس أبناء الشعب الفلسطيني والأمة العربية والرأي العام الدولي. أربع مواجهات مع “حماس”، وثلاث انتفاضات شعبية في الضفة الغربية، تمازجت مع مواجهات عسكرية في غزة، وكانت تنتهي دائمًا بتدمير غزة وتقتيل العشرات من المدنيين الذين غالبيتهم العظمى من الشيوخ والنساء والأطفال. المواجهة الأخيرة كانت الأكثر بربرية وهمجية؛ فالقتلى أكثر من 250 شهيدًا، منهم 66 من الأطفال، وغالبيتهم من المدنيين.
الاحتلال الاستيطاني لفلسطين منذ النصف الأول من القرن العشرين الماضي، قام على الإرهاب والعنف والحروب المتكررة؛ ففي نكبة 1948، وهزيمة 1967، كان الجيش الإسرائيلي -بسبب الدعم اللامحدود من الدوائر الاستعمارية الأوربية، وبالأخص الأمريكية- يترك آثارًا عميقة في الوعي الشعبي الفلسطيني بخاصة، والعربي بعامة. نكبة 48 نجم عنها ثورة 23 يوليو 1952، في مصر بقيادة الزعيم العربي جمال عبدالناصر؛ فقد كانت النكبة من أهم أسباب بروز الحركات القومية والتيارات اليسارية، ونشأة وتزايد نفوذ المنظمات الفلسطينية، وتصاعد المقاومة ضد الكيان الإسرائيلي.
هزيمة 1967، كانت نتائجها في البلدان العربية والإسلامية أكبر في ظهور اتجاهين مختلفين: تياسرت الاتجاهات القومية، وتزايد نشاط اليسار بشكل عام، وبرز دور اليمين والإسلام السياسي والاتجاهات الإسلاموية الأكثر تطرفًا. الاتجاهات القطبية في مصر والعالم، وتزايُد نفوذ أيديولوجية المصطلحات الأربعة لأبي علي المودودي، ليس في باكستان وحدها، وإنما في مصر وإيران وتركيا، رغم اختلاف المذاهب: سني شيعي. الانتصار العسكري المحدود في حرب 6 أكتوبر 1973، جُيِّر لصالح الحلول السياسية: اتفاقات “كامب ديفيد”، وفيما بعد “وادي عربة”، و”أوسلو”، و”مدريد”.
الانتفاضتان: الأولى 1987، والثانية 2000، فتحتا أفقًا جديدًا في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني؛ فلأول مرة تحقق الانتفاضة الأولى نتائج نوعية أدّت إلى الاعتراف بمنظمة التحرير الوطني الفلسطيني، والقبول بفكرة الدولة الفلسطينية، ومبدأ التفاوض بين إسرائيل وممثلي المنظمة. التفاوض حقق عودة قيادة منظمة التحرير إلى الضفة الغربية، رغم المآخذ الكثيرة.
تراجعَ الكفاح المسلح، وتصدّرَ النضال السلمي في الانتفاضة الأولى. وفي الانتفاضة الثالثة [انتفاضة القدس 2021]، تضافرت الاحتجاجات السلمية كمقاومة شعبية في الضفة الغربية مع المواجهات العسكرية في غزة، والمواجهات في المدن الفلسطينية المحتلة في فلسطين 48؛ في “اللَّد” و”يافا” و”حيفا” و”النَّقَب”؛ مما يؤكد أن القضية الفلسطينية كلٌّ لا يتجزّأ، وتؤكد تقارير المنظمات الحقوقية والإنسانية، ومنها الـ”هيومن رايتس ووتش”، وجود فصل عنصري (أبارتيد).
هذا التمازج الرائع بين الانتفاضة في الضفة الغربية ردًّا على محاولة تهجير أُسَر من الشيخ جرّاح، ومضايقة المصليّن في القدس و”باب العمود”، ومنع إجراء الانتخابات في القدس، وتفجير المواجهات في المدن الفلسطينية في الداخل والمواجهات المسلحة في غزة، أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وأبرزَ دور مصر، وأخفت هوجة التطبيع، ومحاولات تصدّر المشهد بتحالف بعض الدول الخليجية مع إسرائيل، وإعطاء الصراع مع إيران الأولوية؛ وهو ما تريده الإدارات الأمريكية المتعاقبة والصهيونية العالمية.
المظاهرات في العديد من مدن العالم، وبالأخص في أوروبا وأمريكا، سندٌ مهمّ للقضية، وكشف لطبيعة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي؛ فما هي الأسباب الحقيقية وراء التفجير الحالي، وما النتائج المنتظرة؟
نتنياهو مهدد بالسجن والخروج من اللعبة كلها، واليمين الصهيوني بجناحيه: الديني والعلماني، يبحر عكس التيار، وهو مهدد بالسقوط، وتفجير نتنياهو للمواجهات والحرب، يهدف إلى:
- خلط الأوراق في إسرائيل؛ لقطع الطريق على تشكيل الحكومة، وتحشيد المجتمع للمواجهة والحرب، وإعادة الاعتبار له، وتجنب المحاكمة.
- التطبيق على الأرض لصفقة القرن، واغتنام حالة التلبّك والارتباك في دولة بايدن، وفرض نهج ترامب.
- قطع الطريق على الحوار الأمريكي – الإيراني، والتشويش على مناخ الحوار في المنطقة؛ حرصًا على استمرار الحروب والتوتر في المنطقة كلها.
ماذا بعد الحرب؟
سيقدم نتنياهو نفسه كبطل قوميّ يهوديّ دمّر غزة، وأعادها إلى ما قبل التاريخ طامحًا لتشكيل الحكومة، ولكن عدم حسم المعركة في غزة يعني -فيما يعني- الهزيمة، رغم الانتصار الراعب؛ فكل انتصارات إسرائيل منذ 1948، و1967، وحروبها ضد لبنان، والحروب الأربعة ضد غزة- كانت كارثية على المنطقة كلها، وعمّقت الأزمة أكثر فأكثر داخل إسرائيل.
أزمة اليمين تتصاعد، والخلافات المستعصية مآلها الذهاب لانتخابات لن ينتصر فيها طرف، والمتوقع أن يبدأ تعافي اليسار والاتجاهات غير المتشددة، ويستعيد ممثلو فلسطين قوتهم وتوحّدهم، ثم إن الصورة الإسرائيلية تتشوه أكثر فأكثر كل يوم، والمواجهات في الداخل الفلسطيني، والانتفاضة الثالثة، ونتائج الحرب الكارثية على غزة، أكدت مصداقية تقارير المنظمات الحقوقية الدولية، وبالأخص تقرير “هيومن رايتس ووتش” حول ممارسات الفصل العنصري والاضطهاد ضد الفلسطينيين.
الاحتجاجات المتزايدة والمستمرة في العديد من مدن وبلدان العالم، وبالأخص في أوروبا وأمريكا، تفضح الطبيعة العنصرية للفاشية الإسرائيلية. ما بعد الحرب ليس كما قبلها؛ فالمواجهات في المدن المختلطة مرشحة للتصعيد، والانتفاضة الثالثة تقوى وتشتد، والغزّاويون يضمّدون جراحهم، ويشعرون بالزهو أمام عجز خامس جَيشٍ في العالم عن كسر إرادتهم، رغم التدمير الشامل وحرب الإبادة.
القوةُ المفرطة للجيش الإسرائيلي شاهِدُ الضعف والتدهور الأخلاقي والتوحش، ومن المتوقع بروز دور أكبر للمقاومة الشعبية بمختلف أساليبها، من الاحتجاج السلمي إلى المواجهة والردّ على العدوان، وتعبير اليسار الأمريكي عن دعم القضية الفلسطينية، وإن كان في مستوى معيّن، إلا أن دلالته مهمة، وارتفاع أصوات الإدانة والاحتجاج في المدن الأوروبية مهم أيضًا، والأهم منه الدور المصري اللافت، والمسنود من أمريكا وأوروبا، والمرحب به فلسطينيًّا وعربيًّا، وهو ما يعوّل عليه كثيرًا، ويعرقل طموح بعض دول الخليج لخلق علاقات خاصة مع إسرائيل؛ لحمايتها ومساعدة طموحها في الهيمنة والتغوّل على شعبها وجوارها وأمتها، والاحتمال الأهمّ، أن الفشل في الحرب يعني الفشل في السياسة، وبالتالي في الانتخابات، كمؤشر لبداية سقوط اليمين الصهيونيّ بجناحيه، ما يفسح السبيل أمام احتمالات كثيرة أهمها وأخطرها، تصعيد التوتر في الضفة، والمواجهات مع فلسطينيي الداخل، وجرّ غزة مجددًا إلى الحرب.