ماذا كان قرار صنعاء لو طال أمد العدوان الإسرائيلي على غزة؟ بقلم| علي ظافر
بقلم| علي ظافر
تابع اليمنيون، باهتمام بالغ، يوميات العدوان العسكري الإسرائيلي على غزة، وقبلها القدس والأقصى، وحيّ الشيخ جراح. وبينما كانوا يشتاظون غضباً، وهم يشاهدون صُوَر الإرهاب والإجرام الإسرائيليَّين، كانوا يتابعون بكل فخر واعتزاز عمليات المقاومة الفلسطينية – قي كل فصائلها – وهي تُمطر “تل أبيب” وعسقلان و”أسدود”، وتغطي سماء فلسطين المحتلة، من شماليّها إلى جنوبيّها، فارضةً معادلات وقواعد اشتباك لم يعهدها العدوّ الإسرائيلي منذ سبعينيات القرن الماضي، إذ وضعت المقاومة “تل أبيب” في مقابل القدس، ثم وضعت لاحقاً “تل أبيب” قي مقابل منازل غزة وأبراجها والمدنيين فيها.
في يوميات العدوان الإسرائيلي الأخير، نسي اليمنيون أنهم هم في واقع حرب وحصار أكثر قسوة، وكانت قلوبهم ووجدانهم مع الفلسطينيين ومقاومتهم الباسلة، لحظة بلحظة وخطوة بخطوة، وهيمنت تلك التطورات على اهتمامات وسائل الإعلام اليمنية التابعة لصنعاء، وتمركزت في صدارة نشراتها الإخبارية، واستحوذت على تغطياتها على مدار الساعة، ليلاً ونهاراً، بل كانوا يعتبرون المعركة معركتهم، وهي كذلك معركة كلّ الأمة.
إن مئات آلاف اليمنيين كانوا يتمنون لو أن الظروف تمكّنهم من أن تكون سيوفهم مع الفلسطينيين في معركة “سيف القدس”، ليقاتلوا العدو الإسرائيلي معاً “جنباً إلى جنب وكتفاً بكتف”، وأنا هنا أستعير جملة شهيرة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، تمنى فيها مشاركة المقاومة الفلسطينية في القتال المباشر مع العدو الإسرائيلي، وأبدى استعداده لذلك.
ذلك الموقف ليس مجرد شعارات، فاليمنيون من أكثر الشعوب العربية، إن لم يكن الأكثر، تفاعلاً وجدانياً وأخلاقياً وإنسانياً مع الشعب الفلسطيني، ومن دون مبالغة، إذ ظهر السيد عبد الملك، في بيان متلفز من دقيقتين فقط، مجدِّداً ذلك الموقف، بقوله: “سنبقى إن شاء الله في حالة استعداد لكل الاحتمالات، وتجاه كل التطورات، وبحسب اللازم إن شاء الله”، في إشارة ربما إلى المشاركة العسكرية، وفق الطريقة التي تراها صنعاء ملائمة في حال طال أمد العدوان على الفلسطينيين واقتضت الحاجة. ودعا، في الخطاب ذاته، على الرغم من الظروف المادية الصعبة التي يعيشها اليمنيون في ظل الحصار، إلى حملة تبرعات كبيرة للشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة كخطوة أولى، تلتها تظاهرات مليونية في أكثر من 13 ساحة في العاصمة صنعاء والمحافظات. وهي خطوات عملية تمهّد لخطوات أهم، بالتنسيق مع المقاومة الفلسطينية ومحور المقاومة. و لا نذيع سراً اذا قلنا إن صنعاء كانت تراقب تطورات الأحداث، وتجهّز نفسها لاتخاذ أي قرارات إضافية تواكب مستوى التحديات وطبيعة الخطر، كما أعلن السيد عبد الملك ذلك صراحة، في خطابه الأخير في 23 أيار/مايو 2021.
ذلك الموقف نابع من منطلق الإيمان بأهمية توحيد الجبهات والساحات، وتوحيد الجهود والطاقات، في مواجهة التحديات التي تهدّد الأمة ككل. ونجزم بأنه لو تطلّب الأمر، لَما تردد اليمن، لحظة واحدة، في المشاركة بطريقته في مساندة الشعب الفلسطيني ومقاومته عسكرياً وبما يلزم، لولا أن العدو الإسرائيلي رضح باكراً تحت نيران المقاومة الفلسطينية، ومفاجآتها التي لم تكن في حساباته الأمنية والعسكرية. وكان العدو يخشى توسيع دائرة نيران المواجهة وتدخّل دول المحور، فجنح إلى السِّلم، واستجدى وساطات عربية ودولية لوقف إطلاق النار، اضطرت معها المقاومة إلى الاستجابة لتلك الوساطات بعد أن فرضت القدس ضمن قواعد الاشتباك.
لقد فرح اليمنيون بالنصر التاريخي والإلهي، والذي حققته المقاومة، كما لو كانوا هم من سجَّلوا هذا الانتصار، نتيجة عدة اعتبارات، أولّها أن معركة “سيف القدس” هي معركة الأمة كلها، والمقاومة في الخط الأمامي لهذه المعركة. ثانياً، لأنها أعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمامات الدولية؛ إلى صدارة المشهد، بعد أن اعتبرها عرب التطبيع قضيةً هامشية لا تهمهم، وعملوا وفق استراتيجية التيئيس والإحباط والتطبيع مع العدو إلى حدّ التماهي به وتقاطع المصالح معه، فجاء هذا الانتصار ليدفن تلك الاستراتيجيات، وليدفن صفقة ترامب؛ “صفقة القرن”، وليحطّم أسطورة “الردع الإسرائيلي”، ويسلب الأمن والطمأنينة والنوم من قلوب الصهاينة وعيونهم، وليرسم معادلة ردع ورعب جديدة لها ما بعدها في طريق التحرير الشامل، بعد أن أعاد الأمل إلى الشعوب في أن في مقدورها أن تنتصر لخياراتها.
ومثلما أسقط هذا النصر الإلهي رهانات دول التطبيع، شكل أيضاً هزيمة استراتيجية لها، تماماً مثل “إسرائيل”، ووجدنا كيف انحازت تلك الدول المطبعة، سياسياً وإعلامياً، إلى صفّ “إسرائيل”، وتجاهلت في إعلامها الرسمي والرديف، مظاهر ابتهاج الفلسطينيين بانتصارهم التاريخي، والذي مثّل، بحسب حكومة صنعاء، “نقطة تحول في تاريخ الأمة”. واعتبر المكتب السياسي لـ”أنصار الله” أن انتصار المقاومة “قضى في 11 يوماً على ما حيكَ طوال سنوات، من مخططات خبيثة لتصفية القضية الفلسطينية من جانب أميركا وإسرائيل والمطبِّعين الخونة … ووضع كيان العدو على حافة الهاوية”.
وهنا، لا بدّ من أن نلفت النظر إلى نقطة جوهرية، ونمايز بين مواقف اليمنيين أنفسهم من قضية فلسطين، إذ إن هناك، للأسف الشديد، مَن انقلب بالمال أو بأطماع أخرى على الثوابت الدينية والوطنية والقومية والإنسانية، وبات يتبنّى السرديات والمواقف للرجعيات العربية من دول التطبيع وعرب وارسو، وبات يتخذ موقفاً معادياً من حركات المقاومة. بل إن وزراء في حكومة هادي لم يجدوا حرجاً في الجلوس إلى طاولة وارسو، جنباً إلى جنب، مع نيتنياهو. وهناك حلفاء للإمارات أبدوا استعدادهم للتطبيع المجاني مع العدو الإسرائيلي، فاليمنيون أنفسهم ليسوا سواءً في نظرتهم ومواقفهم من فلسطين والمقاومة.
في مقابل انقلاب كثير من الشخصيات اليمنية، سواء من الأحزاب والتوجهات الإسلامية، أو من الأحزاب والتوجهات القومية، ظلت صنعاء، في كل مكوناتها، وفي مقدمها “أنصار الله”، متمسكةً بفلسطين قضيةً مركزية ومحورية في الصراع، عاى الرغم من إكراهات الواقع الصعب في اليمن، وما حمله من ظروف بالغة التعقيد في ظل عدوان وحصار دوليين يلجان عامهما السابع. لم يختبئ اليمنيون خلف أزماتهم، ويُعْفُوا أنفسهم من تحمّل المسؤولية تجاه فلسطين، تاريخياً وأخلاقياً ودينياً وإنسانياً، بل تحملّوها في الزمن الصعب، على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعوه من دمائهم ومعيشتهم، ولاسيما في المناطق الخاضعة لسيطرة المجلس السياسي الأعلى.
تتربَّع القضية الفلسطينية في صدارة اهتمام اليمنيين، وتحديداً في المناطق الخاضعة لصنعاء، قيادة وشعباً. ولا مبالغة إن قلنا إنه أكثر الشعوب العربية على الإطلاق، التي خرجت من أجل فلسطين. فخلال سنوات الحرب وما قبلها، وفي ذروة تفشي كورونا، ملأ اليمنيون الساحات عشرات المرات وبالملايين، وهتفوا للقدس وفلسطين، وأبدوا استعدادهم الصادق للقتال مع المقاومة الفلسطينية، جنباً إلى جنباً وكتفاً بكتف.
ذلك ما يثير مخاوف الإسرائيليين منذ وقت مبكّر، من قبلِ اندلاع الحرب التي جاءت لاحتواء مخاوف “تل أبيب” ومواجهتها، بعد أن أعلن نيتنياهو قلقه العميق من ثورة الواحد والعشرين من سبتمبر عام ٢٠١٤م، والتي أطاحت رموزَ الوصاية والارتهان لأميركا ودول التطبيع لاحقاً.
ثمة عوامل كثيرة ترفع منسوب القلق الإسرائيلي، أوّلها إطلالة اليمن على مضيق باب المندب، أحد أهم الممرات المائية في العالم، وما تحمله صنعاء من عداء شديد لـ”إسرائيل” باعتبارها عدواً تاريخياً، و”غدة سرطانية” في جسد الأمة العربية. ويزداد قلق “تل أبيب” من تعاظم القوة العسكرية للقوة الصاعدة في اليمن ـ “الجيش واللجان الشعبية” ـ التي تضع “العلم الإسرائيلي” هدفاً للرماة في معظم المناورات العسكرية، بل سَمّوا أحد أهم صواريخهم الدقيقة بـاسم “قدس”. وبات اليمن الجديد، والذي شكّل بحسب السيد حسن نصر الله إضافة نوعية لمحور المقاومة، صداعاً يؤرّق دوائر صنع القرار في “تل أبيب”، ويشغل اهتمامات مراكز الأبحاث المقرّبة منها.
ومن ذلك دراسة صدرت مؤخراً عن مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، مطلع هذا الشهر، تحذّر من “هجمات حوثية مفاجئة وسريعة على إسرائيل، أو ضرب سُفن إسرائيليّة في البحر الأحمر أو المُحيط الهندي… وأنه لا بد أن تركّز إسرائيل قَدْراً من مشاركتها في اليمن لمراقبة قدرات حركة “أنصار الله” وإحباطها، بل إن نتنياهو نفسه عبَّر قبل عامين عن مخاوفه من “ضربة يمنية محتملة”.