تقارير وتحليلات
عدالة كورونا.. هل ينصف الوباء ثوار العالم؟
كتب / احمد اسكندر
من الصّعب أن ندرك التمايز بين المتناقضات داخل مشهد معيَّن عندما نكون منغمسين فيه بشكل تام. الخطّ الفاصل بين البلاء والابتلاء يتجلّى حين يستطيع الإنسان امتصاص لطمات القدر، ويرتكن إلى هدي العقل والحكمة.
“كوفيد-19” أو “كورونا” ليس نتاج معامل بيولوجية في إطار الحرب السرية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، كما تخيل البعض، كما أنه ليس تحوّراً جينياً في مكونات الفيروس، كما فسّره رواد المعامل والخبراء.
دعني أهمس لك، أيها القارئ، ببواطن الأمور، وأخبرك بأن كورونا هو نتاج بشري بامتياز. لم تصنعه الطبيعة مصادفة أو أيادي خبراء الجينوم. هو نتاج حاصلِ جمع مكوّنات حضارة هذا الكوكب في نسختها المابعد حداثية! لا أريد أن أنسج ميثيولوجيا من هذا الفيروس، وهذه السطور ليست قراءة إشراقية أو لاهوتية في دلالات الفيروس العالمي الناشئ.
لكن عالمية هذا الفيروس استطاعت أن تزيح عنه الرداء التقليدي الذي ألبسه إياه ولد آدم كـ”وباء”، وأن تظهر الوجه الفوضوي الحقيقي له. ربما عَجْز أهل الكوكب عن تفجير ثورة عالمية تنشلهم وتنقذ ما تبقى من الحياة في خضمّ الربيع المتناثر هنا وهناك، جعلنا نخلع على الفيروس صفة التثوير؟ يمر موكب كورونا الثائر – كأي ثورة – متلبّساً بالعنفوان والضحايا، لكنه محمّل بالحقائق والاستحقاقات، ولعلّ أهمها السلام والعدل.
مع تفشي الفيروس، خمدت فجأة آلة الحرب على الأرض إلى حد كبير، فضباع الحروب توقفوا إجبارياً، لأن الوفرة الاقتصادية والمالية التي توقظ المعارك والسلاح متأثرة ومتراجعة كسبب رئيسي وجوهري، فما أغبى حاسوب النظام العالمي الذي يفرز الإرهاب والحرب مع رخائه الاقتصادي وتقاربه الاتصالي!
إن بورصات المال والطاقة والنفط التي تدهس ملايين العمال والموظفين يومياً تحت عجلات الإنتاج والاستهلاك تراجعت وانهارت، فكانت الحصيلة مشهداً تراجكوميدياً من صنع الفيروس العجيب، فإمبراطوريات المال والإنتاج التي شيّدت صروحها على أكتاف العمال والموظفين وحقوقهم وطاقاتهم وحرياتهم، تقدم اليوم الراحة والسلام والحقوق للعاملين على أطباق من فضة، وكأن منطق الديالكتيك الماركسي أصبح يمشي إلى الوراء
أتذكّر في هذه اللحظة حركات التمرد والثورة في وول ستريت وباريس وغيرها من البلاد الصناعية الكبرى، حيث كان المطلب الراديكالي للثوار تجاه النظام السياسي الاقتصادي القائم يتمحور “حول خفض عدد ساعات العمل، حتى يتسنّى للمواطن الفرد وقت للعيش والسعي وراء أشكال من القيمة، فكانت الحاجة – ولا زالت – إلى إبطاء وتيرة عمل آلات الإنتاج، لأن المهمة الحقيقية للحياة ليست المساهمة في شيء يُسمى الاقتصاد، بقدر ما أننا جميعاً مشاريع للإبداع المتبادل”، بحسب وصف ناشط وول ستريت والباحث بول غريبر، فهل ينصف فيروس كورونا الثوار الآن؟!
قد يستطيع أصحاب قوى المال المعولم الذي يتعدّى القارات والحكومات المحلية في النظام الرأسمالي النيوليبرالي تفادي الصدمات والحروب التي تؤثر في أرباحهم، من خلال انتقال رؤوس الأموال عبر القارات، والفرار سريعاً من أي مركب يدركه الغرق، لكن ماذا عن عالم اليوم الذي لم يتبق فيه مكان آمن؟ هل تتجه هذه الأموال وبورصاتها إلى دول أفريقيا القليلة المتبقية والناجية حتى الآن من ضربات الفيروس، حيث لا خزائن، أو أسواق مثمرة، ولا منتجعات فارهة للاستجمام؟
المفارقات عديدة، لكن المؤكد لدينا أن القلاع الآمنة التي يتحصّن بها ضباع وذئاب الاستبداد والمال والسلاح، في مرمى الفيروس الآن، من دون حوائط صدّ. أصبحت السجون ومعتقلوها خطراً على سلامة السجان. رجال الأمن يهرعون لبسط الأمن وتأمين الغذاء للرعايا. بورصات المال تنزف خسائر بلا توقف. ساحات الحرب بلا ذخيرة ومعونة، وربما فقدت الهدف. تجّار الأديان بلا بضاعة اليوم في سوق لا بيع فيه ولا شراء.
استند النظام العالمي الجديد في مشروعيته إلى أكذوبة إمكانية السعي والوصول نحو حضارة إنسانية عالمية يتشارك فيها الجميع بشتى ثقافاتهم، وإن كان مركز الثقل يتمثل في الحضارة الغربية.
انتظر سكّان العالم هذه الحضارة العالمية المبشّر بها بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وبعد أن بشّرنا ساداتها بنهاية التاريخ وسجالاته، في ظل وفرة اقتصادية واتصالية لم يشهدها العالم من قبل. وانتظر الجميع شيوعية الرفاه الرأسمالي المنتصر وروايات الألفية السعيدة، لكنها لم تأتِ، ولا مؤشر في الأفق على قدومهالقد أجبر كورونا اليوم العالم على شيوعية جديدة؛ شيوعية الأزمة والخطر، بعد أن رفض قادة العالم المتحضر أن يشاركوا بقية أهل الأرض في رخائهم وسلامتهم.
العالم اليوم يرضخ ويقبل بأن يتعايش مع نقائض الهندسة الاجتماعية التي صاغها وفرضها كحتمية طبيعية واجتماعية على سكانه!
نعم، يستطيع بعض الضباع أن يمرّروا مخطّطاتهم وسط زحمة الكوارث الجارية، لأنهم متطفّلون على الجيفة بطبعهم المعهود، إلا أن رياح الخسائر تبدو أقوى منهم، ويستطيع الفقراء والمعدمون أن يجدوا عزاءهم في معركة النجاة من الفيروس في جداول القدر السماوي والراحة من غبن آلة الإنتاج الرأسمالية وانتظار هبات الآخرة، وهذا أشدّ ما يزعج أباطرة المال والسياسة في العالم، ويجعلهم يسارعون في طلب النجاة لضحاياهم وزبائنهم، فلا بأس بأن تتوقف آلة الإنتاج ومصارف الديْن الآن!
بالطبع، لن تتوقف فصول هذا الفيروس الذي جعل سكّان العالم يتابعون أخبار معامل الأدوية والباثولوجي ومنظمات الصحة بانتظام وشغف، بعد أن هجروا مشاهير الفن والرياضة والدين والإعلام.
فصول من التراجيديا ترتقي لتصبح مسرحاً سوريالياً بامتياز، ستكون حكراً وبراءة اختراع لهذا الفيروس الذي سيؤطّر نفسه يوماً ما مُلهماً ونبياً للبشرية.
الآن، أصبحت السياسة تنوب عن الفن في تقديم مشاهد سوريالية. لهذا، سيجد مؤرخ الأدب بعد زمن أن ما كان من صميم الثقافة والإبداع اختطفته السياسة، وقام أباطرة المال والسياسة بالدور غير المنوط بهم على الإطلاق.
صحافي وكاتب مصري
المقالة تعبر عن رأي صاحبها حصراً