الحارة العتيقة…! قصّة قصيرة بقلم ليسا جاردنر
بقلم ليسا جاردنر
في زمن ما عاشت حارتنا الجميلة و كأنها تحفة من العقيق اليماني العتيق معتقة كأنها قلعة ازلية من حصون القرون الوسطى، شامخة الحضارة و البهاء .. هناك في سوق الملح وباب السباح كنا نصرخ مع الباعة ونتزاحم مع ضجة الشارع وأصوات الجزارين وتقطيع اللحم، ممزوجة مع أصوات بائعي الخضار والورود والريحان ولا نستطيع أن ننسى بائع ” الرومي” الذرة المشويّة ورائحتها التي تفطر الصائم كما تقول جدتي بصوتها الرحيم. كنا نهرب إلى الشارع أو يهرب الشارع إلينا لا أدري! لكن تبدو حارتنا البهية كأنها عروسة منقشه بنقش حنّاء يمني حميري الأصل، وفاتنة كأنها بلقيس فوق عرشها أمام سليمان ترفع عن ساقيها الجميلتين ردائها مثلي لأمشي ببطيء فوق الحجارة التي نبتت في رصيفنا منذ الأزل. هناك يغني صوت هديل اليمام وزقزقة عروس الهدهد و كأنه يُأذن مع جامع الابهر.. في حلة رمضانية روحانية! هناك كُنّا أطفالاً نلعب تحت كل سماء عليل، نتأرجح على أرجوحة الراجعين من الحج.. تغني جدتي و هي تتأرجح بكل تناغم و تردد بصوتها الجميل ” يا المدرهة، يا المدرهة، قد جيت ادرهه و اعتني قد جيت ادرهه عاني ، يا المدرهة يا المدرهة ما لصوتك واهي ” و بينما جدتي تترنم فوق الارجوحة الخاصة برجوع الحجاج كان صديقي محمد ذو العينين العسلية يمسك بيدي ويقول تعالي بسرعة،!! فأهرب معه و يدفعني إلى جانب الحائط العتيق ليقول لي اغلقي عينيك الخضراء.. وهنا أشهق بعمق وأغْمض عيني ويتوقف كل شئ ..! و لا يبقى في الكون غيري و عيناه و قلبي … يقبلني فجأة فأذوب مثل قطعة السكر في قهوة القشر اليمنية … وعندها يقول لي أنتِ حبيبتي و حين أكبر و أصبح دكتورا سأتزوجك .. و هنا أهرب منه و أجري بخجل و قلبي يصرخ نعم سأتزوجك سأكبر و أكون دكتورة مثلك و نتزوج مثل جارتنا عزيزة وألبس الأخضر و الأبيض و أتنقش و أرتدي تاج الملكة بلقيس و احيي روحها في روحي و نتنفس الحب معا.. كنا نتوسد الحب مع التسبيح والفرح الأخضر ونلعب “لعبة الاستغماية” وندور في الحي العتيق نردد” يا رمضان روحي، روحي، رسول الله ممدوحِ” ويخرج الجيران ببسماتهم ويعطوننا نقود رمضان ونهرب أنا و صديقي متّجهين إلى البائع لنشتري حلوى “الرواني” الرمضانية و نرجع للبيت… و تسألني جدتي أين كنت المغرب على وشك الآذان؟! اغسلي يديك سنفطر الآن!! هياااا يا محمد أنت أيضا تعال و افطر معنا .. يسرق محمد النظر الى شفتي وانا افطر بالحلوى ويهمس في أذني أنتِ الذّ من الحلوى…! فابتسمت جدتي وهي تقدم لنا طعام الإفطار لأنها كانت تعلم بحبنا الصغير… وبعد صلاة المغرب ناكل بنت الصحن و الشفوت ” و نعطي الجيران الخبز و” اللحوح و اللبن ” و ندق على بيوت الحارة لنهديهم طعام جدتي الشهي .
هناك كانت حارتنا العتيقة تلبسنا من الرأس حتى أخمص القدميّن و كأنها واحدة منا نحبها ، و تعرفنا و تعزف لحنا صنعانيا و تغزل حرير أحلام المساكين بأنامل الطُّهر والنقاء، وكانت تطرز الرداء الصنعاني وجهاز العروس … ها أنا سأتزوجك يا محمد على نور قمر حارتنا و انا بدر، يضيء قلبك و قدرك ..! حين كنا أطفالا، كباراً وصغاراً، نلعب في حارتنا وتتسابق أيادينا الصغيرة على اللمس ونسرق الحب ونحترم العادات ونتقاسم ثمار التين والعنب من أشجارنا و كانت جدتي تعطينا الحب و تسقينا الحنان و تقطف لنا التوت لنأكله و يقبّل محمد شفتي الحمراء بنكهة التوت اللذيذة…!
ها نحن اليوم نستعد للزواج في حارتنا الجميلة والشمس تشرق من كفّي المنقوش راضية وسعيدة بحبنا … نشتاق لبعضنا .. نحتاج لبعضنا.. نحب بعضنا… أريدُك قلتَ لي.. أهديتني زبيب و لوز و قلت لي هذا ما خبأته لكِ من هدية عقد قراننا… رمينا اللوز و الزبيب في مكان عقد زواجنا فتناثر بفرح في كل مكان يزغرد لنا و يبارك زواجنا .. يا لها من طقوس جميلة و عندها قرأ محمد علي آيات الكرسي ليحميني من العين..! لكن محمد لم يكن يعرف أنه لا يستطيع أن يحميني من طائرات السعودية الحربيّة التي باغتتنا لتبارك عرسنا و زمجرت بكل عنف و أطلقت صواريخها .. و أحرقت كل شيء..! فتطايرت بقايا الزبيب و اللوز على أشيائي وملابسي …وتساءلت بذهول أين رحلتِ حارتنا العتيقة..!؟ ومن لطّخ ملامحك الجميلة بدماء الأسى..!؟ من أحرق ضفائرك الطويلة وسرق وجّهك المشمس من العيون الكحيلة، لماذا قتلوك يا عروس الجنة ؟؟