وداعاً أيها الماضي… هل ترون المستقبل؟ بقلم/ نصري الصايغ
بقلم/ نصري الصايغ
الماضي يجب أن يموت. مئة عام عربي مؤهلة للدفن. قرن من الخسائر والضياع والانهيارات والانكسارات والتفتت. قرن جدير باللعنة ومؤهل فقط، للنسيان والنكران.
العالم العربي بلا نوافذ. لن تشرق شمسه من شرفة. انه ميت يجرجر جثته كأنه صخرة سيزيف. أنقاض فوق أنقاض. مئة عام من الاحقاد والدماء والعداوات والسرقات والانتهاكات والكراهية والحروب، بكل الحقارات والاسباب الملعونة… كيانات تكتسب حضورها من صخب عدائيتها او من صمتها المتآمر على كل قضية.
هذا هو اليوم أنقاض. إن سياحة ذكية في الخريطة العربية، تدفع السائح إلى الذهول والتساؤل: هل هذه دول؟ هل هذه شعوب؟ ثم، السؤال الأصعب: هذه إلى أين؟ هناك شعوب معاقبة بلا ذنب. حُذفت من السياسة. دربت على الطاعة. وإذا خرجت وتمردت، حملت هراوة الدين، وفتكت بالشقيق. مجرد النظر المحايد إلى هذه الجغرافيا تدفعك إلى فتح قواميس الشتائم. انها تستحق أكثر من ذلك، وسلالات حكامها، مدنيين وعسكريين وتقدميين وملكيين واماراتيين وجمهوريين، ليسوا إلا هذيان سياسي. يتقنون حراسة الكلمات ويتفوقون في فرض الصمت على الكلام الحقيقي، ويبذرون نفاقهم عبر واجهات اعلامية حديثة، والمشاهدون يكظمون صدقهم، وينخرطون في احزاب الصمت، خوفاً من عقوبة تصل إلى محاكمة النوايا.
هذا الماضي يجب أن يموت. سجله أكثر سواداً من عتمة التخلف. لم يسجل في هذا الماضي العربي البائس انتصار واحد يتيم. الحرية موؤودة. الشعوب منقادة بقوة القمع وفتات الاغراء وحذاقة النفاق. بلاد مغلقة على اهلها وعقولها وبكارتها، ومفتوحة لاستقبال الاعداء، بسلعهم واسلحتهم ومحاورهم واسواقهم. المواطن الصالح هو “المواطن” الصامت. هو الذي يعمل ولا يتذمر يأكل ولا يلتذ، طموحه الكبير، القليل من الحرية. أكبر سجن في العالم، هو هذه البلاد الراكعة، من المحيط إلى الخليج. السكوت والصمت هما بطاقة التأمين والأمان. شعوب تعيش تحت قبضة الامرة. الحرية هي العدو الدائم لأنظمة المئة عام العربية. هل يصح عليها لقب الموت؟
كي لا يكون هذا الكلام مندبة بلا دموع، او تضخيماً لمرض عابر، على العربي أن يتساءل بسره أولاً. ما هو سجل هذه الكيانات. ما عدد حروبها الاخوية؟ كم بلغت نسبة الخلافات البينية؟ كم كانت فلسطين رجساً فاجتنبوها؟ أين الثروة النفطية؟ ما حصة الفقراء والمعوزين والمشردين والطافرين في شوارع البؤس ومناطق التشرد والجوع؟ ما نسبة الأمية؟ لم كل هذه الحروب وما كلفتها؟ لماذا لا سماء عندنا بل جحيم! وألف سؤال وسؤال إلى أن نصل المفتاح المرمي: أين هو الانسان العربي؟ اين هي ثروته؟ اين مجال حيويته؟ اين منتديات ابداعاته واسهاماته؟
فلنترك الصمت يجيب عن هذه الاسئلة وسواها. الانتماء هو الصمت السامي الذي تعيشه شرائح واعية وحساسة وخلاقة، ولكنها مقطبة الشفاه ومحطمة المبادرات… قلة سافرة وسافلة، تتحكم بخريطة بلاد جميلة ومعطاءة، من المحيط إلى الخليج.
هذا الماضي يجب أن يموت. هذا الحاضر يلزم أن نهجره. فلتبدأ مواسم الهجرة إلى المستقبل. لا نفع يرجى من ماض آثم وفاشل ومعيب. لا نفع يرجى من حاضر بلغ القعر الاقصى. لبنان نموذج. انه يراود العدم. سوريا محطمة ومجزأة وغارقة في دمها. فريسة بين أنقاض. العراق يُحتل من اعراق وعشائر وطوائف ومذاهب برعاية دولية واقليمية متذابحة، وثروة منهوبة عن بكرة اجيالها القادمة. مصر العظيمة، قائدة الامل الوحيد في زمن ما، باتت مشهداً سورياليا منفوخاً. لا كلام البتة يعلو على كلام الرئيس، والديموقراطية محمولة على رؤوس الحراب والديموقراطية رجس من قبل الشيطان فاجتنبوه. ليبيا لم. السودان يا حرام، الخليج ينفق على حروبه وحروب الآخرين. يدفع الجزية صاغراً. اليمن دموع وثكالى وكراهية وأله ممزق الولاءات. البقية الباقية تعيش على كفاف الرغيف والكرامة… شيء واحد تجمع عليه هذه الكيانات: كرهها الشديد للإنسان والحرية والعدالة واحترام الشعب. سياسة هذه الكيانات. هي في أن يُداس الشعب وان يكتم كرامته. أما عن الحياة الفكرية فلا تسأل. لقد ساد عهد الاملاء. ممنوع الانشاء. تباً: الحياة هي نفسها كل يوم شيء قريب من الموت بعيون مفتوحة.
بلاد جميلة في اقبح هيئة.
بلاد عريقة في عراء انساني.
بلاد لم تعد تؤمن بالأمل. نشعر بالأسر من أُسرٍ وراثية، ولدت من رحم غرب مغاصب، تعرف أن النوافذ تطل فقط على ارض مكفهرة وشعوب تتقن الصبر حتى الثمالة.
خلص. ما لنا ولهذا الماضي. بلاد ميؤوس منها راهناً، حاضرها اسوأ من ماضيها. نماذج كثيرة تبعث في الشعوب العربية، بذرة اليأس البناء. الحاضر، اين ذلك الماضي، لا حياة فيه. هناك صخب كلامي وانسلاخ قيمي. بلاد لا تفكر بصوت عال… أعلى من صوت اللبنانيين في 17 تشرين لم نعرف. أعلى من حناجر المصريين لم نعرف، أسقط مبارك فحل مكانه مرسي. قيل، الكحل أفضل من العمى. ثم جاءنا العمى المطلق. ديكتاتورية كاريكاتورية طاحنة. خليج مقيّد بشروط الصمت ومقاد إلى معارك خاسرة ومدمرة. أعلى من صوت السودانيين لم نعرف. طار الرئيس، وغط عوضاً عنه، نتنياهو. يا للعار. فلسطين متروكة عمداً. لها “يهوه” يرعاها الديانات الابراهيمية كلها تتفق على الفلسطيني. فلتصلبه. وسيضع العرب الحجر على باب القبر. فلا مسيح قام ولا فلسطين تقوم.
ماذا بعد؟
الماضي مات والحاضر رث ومبعثر وبلاد بلا نوافذ.
إذا ماذا؟
لا يبقى لهذه الشعوب غير المستقبل. لقد حلم رواد النهضة العربية. بمستقبل عربي حر، ديموقراطي، تقدمي، عادل، مدني، كتبوا في الحرية. حرية الانسان وحرية المرأة. كتبوا في السياسة واستقلال الشعوب والامة. كانوا يتقدمون ببسالة القلم ووضوح الكلمات لصناعة مستقبل سياسي اجتماعي قوامه المواطنة والحرية والسيادة والتقدم… حلموا. كتبوا. حملوا هم النهضة الاولى… لقد خيبت “النخب الملتزمة” هذا الهاجس. فضلوا الاستعباد والاستبداد والظلم.
ليس امام من يؤمن أن يشير بأصبعه إلى المستقبل.
هل من رواد جدد؟ المستقبل امامنا بكر. لقد قتل الماضي. لقد عاثوا بالحاضر موتا… ماذا بعد؟
لا تدعوهم يسرقون المستقبل.
المستقبل مشروع جديد. العمل من اجله دليل على اننا لسنا امواتا، بل احياء عند شعوبهم يرزقون.
فلنبدأ القطيعة اولا، مع هذا الارث المنحط. مع هذه السنوات العجاف. مع هذه السلالات المضرجة بدمائنا واحلامنا وحقوقنا.
من اراد منكم أن يمضي إلى المستقبل، فليستقل اولا عن هذا الماضي المنكر. عن هذا الحاضر النتن. عن السلالات والعشائر والمذاهب والطوائف والاعراف وليبدأ بممارسة ما يطالب منه من زمان.
اذا فقدنا المستقبل.. فلنقف ولنتقبل التعازي بوفاتنا.
انما لا. والف لا… سنبقى احياء. لن ندعهم يقتلون المستقبل أو يحتلونه، كما هم فاعلون اليوم. تعالوا نفكر بصوت عال. ” لنرفع قبضاتنا عاليا، وليكن دليلنا إلى المستقبل، خريطة طريق مضادة لكل الخرائط الانهزامية التي كرسها السلف السياسي السافل.
اذن: إلى اللقاء غداً. الحياة ليست نفسها دائماً. فكروا بصوت مرتفع. في المستقبل، عالم آخر، لا يشبه ابداً هذه الجثة المترامية، من المحيط إلى الخليج. ولنا عيون، ليست للبكاء، بل لكي ترى الطريق، ولكي تفتتح انتظارات الصباح، ولكي نشاهد آثار القطيعة الحاسمة مع الماضي والحاضر.
كل ما كان يجب أن يتغير.
هل هذا ادعاء؟ هل هذه احلام يقظة؟
لا. هذا واجب من يشعر أن الحياة ملكنا، وأننا اسياد على حياتنا.
وحياتنا، اقدس من كل المقدسات المعتقلة والمرتهنة.