السّلام في اليمن.. بين التكتيك واستراتيجيّة الحلّ الشامل بقلم/ محمد السادة
بقلم/ محمد السادة
قد يكون تعثّر الجهود الدبلوماسية للمبعوث الأميركي إلى اليمن تيموثي ليندركينج في بداية مهمته أمراً متوقعاً، ولكن ما لم يكُن مُتوقعاً هو سقوطه المبكر في أول اختبار لجدية النيات الأميركية في إحلال السلام في اليمن. منذ إعلان الرئيس الأميركيّ بايدن توجّه إدارته نحو تفعيل جهودها لإنهاء الحرب على اليمن، تقود واشنطن بمعيَّة وكلائها في المنطقة مناورة سياسية ودبلوماسية شاملة ضد صنعاء بأدوات إنسانية مُعلنة وأهداف سياسيّة غير مُعلنة.
أعلنت واشنطن عن مسارين في التعاطي مع الملف اليمني؛ الأول إنساني والآخر سياسي. مُلخَّص المسار الإنساني ما قاله وزير الخارجيّة الأميركيّ أنتوني بيلنكن في كلمته أمام مؤتمر المانحين حول اليمن في بداية آذار/مارس الجاري: “المساعدات الإنسانية لوحدها لن تُنهي معاناة اليمن، بل يجب إنهاء الحرب”، ولكن مع كلِّ تصريح إنساني تجاه اليمن، هناك عمل أميركي مضاد، فإعلان واشنطن القيام بجهود لتخفيف المعاناة الإنسانيّة واستئناف ما أسمته مساعداتها للمناطق الشمالية، تُرجم من خلال فرض أعلى مستويات الحصار منذ بدء العدوان في العام 2015، ومنع دخول سُفن الوقود الحاصلة على تراخيص أمميّة إلى ميناء الحديدة بشكل كلّي، ما فاقم الوضع الإنساني، ولا سيّما في القطاع الصحي، بل إنَّ ليندركينج، المقرب من الرياض، يتمادى ويسخر من ضحايا الحصار، بوصفه قيادة تحالف العدوان بأنها متعاونة.
المُناورة في المسار السياسي لا تختلف عن المناورة في المسار الإنساني، فتصريحات وزير الخارجية بلينكن وجهود المبعوث ليندركينج وجولاته في المنطقة، تُوّجت بسقطة مكشوفة لتعقيد المسار السياسي، من خلال إعلان وتبنّي خطّة أمميّة قديمة للسّلام تختزل مصالح طرف واحد فقط، هو تحالف العدوان، وتقديمها للطرف الآخر، صنعاء، التي رفضتها شكلاً ومضموناً.
أما اشتراط ليندركينج عودته إلى المنطقة بقوله: “عندما يكون الحوثيون مستعدين للسلام”، فهو سقطة ثانية، وإن اعتقد مخطئاً أنه بذلك يرمي الكرة في مرمى صنعاء، التي أعادتها إليه من خلال تسليمه رؤيتها وموقفها الثابت لإحلال السلام وخوض أيّ مفاوضات من خلال الفصل بين ما هو إنسانيّ وما هو سياسيّ وعسكريّ، والتزامها بأي مبادرة لوقف شامل لإطلاق النار مُتزامن مع الرفع الفوري للحصار، كأرضية مشتركة تُعبّر عن النيات الحسنة لكل الأطراف.
ما عدا ذلك، من المُستحسن أن لا يعود ليندركينج إلى المنطقة. وعليه توفير الوقت الضائع في تبنّي مبادرات ورؤى تتجاهل المعطيات الجديدة التي فرضتها صنعاء بقيادة مكوّن “أنصار الله”، الذي وصفه ليندركينج بأنه “لاعب أساسي، ولا يُمكن العمل من دونه”، لتكون هذه الحقيقة الوحيدة في مُجمل طرحه. وقد فشل المبعوث في محاولة الظهور بمظهر الوسيط الراعي للسلام، ليُثبت أنه طرف مُفاوض وخصم يُمثل دول تحالف العدوان.
صنعاء صاحبة اليد الطولى في السلام
بعد 6 سنوات من الحصار والعدوان على اليمن، والمعاناة الإنسانية التي يعيشها هذا البلد، وحقيقة الفشل العسكريّ، بدأ الحديث الأميركي السعودي الرسمي عن مبادرات السّلام وإنهاء المعاناة الإنسانيّة التي لن تُنهيها مجرّد تصريحات ومبادرات للاستهلاك الإعلامي والسياسي، فواشنطن تسعى إلى إيهام المجتمع الدّوليّ بالسلام، من خلال تسويق رغبتها في إحلاله في اليمن، ولكنَّ الوقت كفيل بكشف أنَّها مُجرد رغبات تعوزها الإرادة في العمل.
صنعاء هي السباقة إلى طرح المبادرات ومدّ يد السلام، إذ قدمت في أيلول/سبتمبر 2019 مبادرة الرئيس المشاط التي تتضمن وقف استهداف الأراضي السعودية. وقد تبع ذلك طرحها وثيقة مبادرة الحلّ الشامل في نيسان/أبريل 2020، وهي تتفوَّق في مضمونها على المبادرات التي قدمتها دول التحالف والأمم المتحدة، رغم أنها لا تُمثل سوى الحد الأدنى من تطلّعات اليمنيين.
وفي ما يخصّ مأرب، استبقت صنعاء التباكي الأميركي والأممي عليها بطرح مبادرة تحفظ أرواح أبنائها المدنيين والنازحين، إذ أطلقت في أيلول /سبتمبر 2020 مبادرة النقاط التّسع، الأمر الَّذي يشهد بأنَّ معركة مأرب كانت، وما تزال، مستمرة، ويدلّ على النيات الصادقة للسلام لدى صنعاء التي ترفض الانتقائية الأميركية والأممية والنظر بعين واحدة في التعاطي مع الوضع الإنساني القائم في كامل الرقعة الجغرافية لليمن، وليس مأرب فقط.
إنهما مبادرتان تكتيكيتان بفاصل زمني قصير، صادرتان عن واشنطن والرياض، ولا تحملان أي جديد، ما عدا المناورة والتلميع السياسي والإعلامي أمام المجتمع الدولي، مع محاولة إظهار صنعاء بأنّها المُعطل لجهود السلام، لممارسة ضغوط دولية عليها لوقف الانتصارات في مأرب والعمق السعودي، ومنعها من تحقيق مكاسب سياسية أخفقت الترسانة العسكرية الضخمة لتحالف العدوان في تحقيقها.
لذا، ليس من المُستبعد محاولة تتويج تلك المناورات السياسية لدول التحالف بقرار من مجلس الأمن الدولي ضد صنعاء. وعليه، نعتقد أن من الأهمية بمكان قيام حكومة صنعاء بعقد مؤتمر صحافي لإيضاح موقفها أمام المجتمع الدولي، وإعادة طرح مبادرتها للحل الشامل بعد تنقيحها، إن تطلّب الأمر ذلك.
وبالوقوف على مبادرة الرياض، نجد الآتي:
- لم تأتِ هذه المبادرة بجديد، لكونها مستمدة من مبادرة الإعلان المشترك للمبعوث الأممي، وتُعد خطوة شكلية تهدف إلى رمي الكرة من جديد في مرمى صنعاء، التي تتطلّع، رغم رفضها المبادرة، إلى تحريك المياه الراكدة، من خلال استمرار التواصل مع الرياض ومسقط وواشنطن، للتوصّل إلى اتفاق سلام عادل ومُشرف يُنزل النظام السعودي من برجه العاجي.
- المبادرة سعودية – أميركيّة – أممية تمثل أطراف العدوان وتحالفه، بمن فيهم ما يُسمى الحكومة الشرعية اليمنية.
- تعكس المبادرة إصراراً غير منطقي على إضفاء الصبغة المحلية على الأزمة اليمنية، وتصويرها بأنها حرب يمنية – يمنية، وإسقاط تحالف العدوان كطرف رئيسي في الحرب.
- المبادرة سطحيّة وغير واضحة، وتفتقد التفصيل وآليات التنفيذ. لذا، لا تعدّ مبادرة لحلّ سياسي شامل.
- لا تنصّ المبادرة صراحةً على إنهاء كل العمليات العسكرية للتحالف في اليمن، كما لا تنصّ صراحة على رفع الحصار البري والبحري، إذ تُشير إلى إعادة فتح مطار صنعاء الدولي لعدد من الرحلات فقط، وتخفيف الحصار على ميناء الحديدة، وليس رفع الكامل للحصار عنه.
- تستند المبادرة إلى مرجعيّات لا تؤسّس لسلام عادل، ولا تواكب المتغيرات، وتتجاهل المعطيات الجديدة، كما أنها محلّ رفض قاطع من قبل المجلس الانتقاليّ الجنوبي، الشّريك الرئيسيّ في حكومة هادي، والبديل الذي يجري تهيئته ليحلّ محلّها في الجنوب.
- تجاهلت المبادرة النظام السعودي كطرف يقود التحالف، في تنصّل واضح من المسؤولية القانونية والأخلاقية تجاه ما ارتكبه من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الآلاف من اليمنيين، وتدميره البنى التحتية، مسبباً خسائر مادية فادحة بمليارات الدولارات.
لا يقبل منطق العقل أن يكون الخصم هو الحكَم، و”لا مبادرة” في ما تكفله التشريعات والقوانين الدولية من أبسط حقوق الإنسان، فالمقايضة في الجانب الإنساني الذي تضمَّنتهُ مبادرة الرياض تعد سقوطاً أخلاقياً وجريمة تُضاف إلى الجرائم التي تُقرّها المبادرة في فرض الحصار الإنساني، كإغلاق مطار صنعاء ومنع دخول سفن الوقود والغذاء إلى ميناء الحديدة، في انتهاك صارخ للقوانين الدولية ذات الصلة.
لذا، إنَّ الرفض المُتبادل بين صنعاء ودول تحالف العدوان للمبادرات الصادرة عن الطرفين يدعو للتطلّع إلى إطلاق مبادرة من طرف دولي ثالث “مُحايد”، مع تأكيد الحاجة المُلحّة لإجراءات بناء الثقة من قبل كلّ الأطراف المعنية، تمهيداً لاستئناف عملية المفاوضات من خلال ما يلي:
- إعلان قيادة تحالف العدوان إنهاء كلّ عملياتها العسكرية الجوية والبرية والبحرية في اليمن، مع رفع الحصار الشامل، وإعادة فتح مطار صنعاء الدولي أمام حركة الملاحة الجوية، إضافة إلى رفع الحظر عن ميناء الحديدة أمام حركة الملاحة البحرية.
- بدورها، تُعلن صنعاء وقف كلّ عملياتها العسكرية الجوية والبرية والبحرية تجاه السعودية.
- وقف شامل لإطلاق النار في كلّ الجبهات العسكرية الداخلية في اليمن.
ختاماً، إنّ صنعاء التي تستعدّ لإحياء الذكرى السادسة لليوم الوطني للصمود في وجه العدوان، تُبدي استعدادها للتواصل المباشر مع واشنطن والرياض، كمحاولة لالتقاط أي فرص للسلام، وإن كانت احتمالات نجاحها ضئيلة، لكونها صادرة عن أطراف معتدية، وتفويت الفرصة على أولئك الّذين يُجيدون الصيد في الماء العكر، ويسعون إلى إظهار صنعاء بمظهر المُعطل لجهود السلام، وإن كانت “زائفة”، ولكن استمرار المُناورات السياسية والإصرار على اختزال السلام في الرؤى الأميركيّة – السعوديّة قد يضطر صنعاء إلى مقاطعة مُبكرة لمُمثل تحالف العدوان المبعوث الأميركي ليندركينج، على غرار مقاطعتها زميله الأمميّ غريفيث، الذي ابتعد في مُهمته عن المهنية والحياد.
عندها، لن يبقى لدى صنعاء سوى تعزيز المضي في خياراتها العسكرية ورهاناتها على عدالة قضيّتها التي ستنتصر في نهاية المطاف، وستفرض الحلول التي أخفقت في تحقيقها الخيارات السياسية والدبلوماسية.