ستُّ سنوات من العمى: السعودية تُكرّر الخطأ الإسرائيلي
حيروت-متابعات
أظهرت الحرب السعودية على اليمن سوء امتصاص فائض القوة كعنصر حاسم في المواجهة بين قوى غير متكافئة. كان خروج «الجَيب» اليمني من مجال السيادة السعودية يعني أن جيوسياسية يمنية جديدة تتشكّل خارج النفوذ التاريخي للمملكة. وبعد أن كان المصير السياسي اليمني يتقرّر في الرياض، أصبح اليوم في صنعاء، وبيد اليمنيين دون سواهم، وهذا يختصر جوهر المشكلة بالنسبة إلى قوى العدوان عموماً، والسعودية على وجه الخصوص. حرب السنوات الستّ على اليمن أخرجت كلّ أثقال الأرض، وبات الإفلات من التبعيّة الخارجية خياراً شعبياً ومصيرياً. أطاحت بسالةُ اليمنيين في الدفاع عن الأرض والسماء بيقينيّات هشّة في السردية الجيوسياسية الإقليمية، وجعلت مقولات مِن مثل أن قدَر اليمن أن يبقى طرفاً لمركز متخيّل (السعودية)، تابع لمركز أكبر (الولايات المتحدة)، من الأرشيف. فثمّة رواية جديدة تُكتب منذ ستّ سنوات بدم اليمنيين لإقامة يمنٍ بملء كرامة أهله. أشاع المعتدون عقيدة الذلّ، ومفادها أن لقمة اليمنيين وأمنهم مصونان بالتبعية والاستسلام، على قاعدة أن السعودية بصفتها وكيلاً وظيفياً للراعي الرأسمالي هي الممسكة بآليّات التبعية. هذه وغيرها من الأساطير تتبدّد على وقع تراكُم قوّة بوتيرة متسارعة عكستها بجدارة «عمليات توازن الردع» المتواصلة منذ أشهر. الحرب التي أوهم ولي العهد ووزير الدفاع، محمد بن سلمان، بحسمها في غضون أسبوع، تبعث، في ضوء دلالاتها الأخلاقية، على الازدراء، بعد أن كانت مثار سخرية. لا يتسلّح ابن سلمان بمنطق عسكري بقدر تسلُّحه بمنطق استعلائي، وما «تحطُّم» أسطورة التفوُّق العسكري السعودي إلّا بمنزلة انقشاع الوهم بضمان ربح المعركة.
فشلت خطّة القضاء على «أنصار الله» عن طريق الحروب الخاطفة أو الشاملة فشلاً ذريعاً (أ ف ب )
كانت الحرب السادسة على اليمن (2009 – 2010) أشبه بلقطة «سيلفي» لقدرة السعودية العملاتية، فقد خاضت امتحاناً أمام ذاتها، وكانت على موعد مع أوّل مجابهة مع جماعة «أنصار الله» التي أذاقتها ذلّ هزيمة غير مسبوقة، عبّر عنها حينذاك الملك عبد الله بلغة غاضبة على الأمير خالد بن سلطان، نائب وزير الدفاع. وبحسب برقية للسفير الأميركي في الرياض، جيمس بي سميث، في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2009، فإن الملك عبد الله كان غاضباً بخصوص سير العمليات العسكرية لأسباب ثلاثة رئيسة: طول مدّة المواجهات مع «أنصار الله»، وكثرة أعداد الضحايا والإصابات في الجانب السعودي، وفشل القدرة العسكرية السعودية في المعارك، على الرغم من إنفاق مليارات الدولارات في سبيل تحديثها على مدى عقود. حينذاك، كانت الحرب السعودية على جماعة خارج الدولة، بل وعلى خصومة معها. أمّا اليوم، فإن السعودية تحارب جماعة هي المكوّن الأساس في الدولة، وحصنها الحصين. وهذه الجماعة انتقلت من الدفاع عن ذاتها بكلّ متوالياتها (الجماعة السياسية/ الحزبية، والطائفة (الزيدية)، والمحافظة (صعدة))، إلى الدفاع عن الشعب والأمّة والدولة، وهنا يكمن عُقم الحرب الكونية على اليمن.
إن خطّة القضاء أو حتى عزل جماعة «أنصار الله» عن طريق الحروب الخاطفة (2004 – 2010)، أو «المبادرة الخليجية» (2011)، أو الحرب الشاملة (2015 – إلى الآن) فشلت فشلاً ذريعاً، وإن عواقب الفشل زادت من ندرة فرص المجابهة، ليس مع الجماعة فحسب بل مع الشعب اليمني. أراد أقطاب ما يُسمّى «التحالف العربي» جعل اليمن ساحة لحروب الآخرين، ولكن وحدهم اليمنيون مَن جعلوها حرب تحرير وطنية، من خلال رفض منطق الإملاء والوصاية، وهو الذي لا يزال يعكسه الموفد السعودي مرّة والأميركي مرّات. إنها بمثابة حرب استقلال حقيقية يخوضها اليمنيون، في مقابل قوى التبعية والهيمنة. أيّ خطّة تقوم على فكرة الاستحواذ على القرار اليمني هي محكومة بالفشل. إن مقارنة خاطفة وعقلانية بين اليوم الأوّل للحرب (26 آذار/ مارس 2015) وهذا اليوم، كفيلة بإقناع صانع القرار العسكري، قبل السياسي، بأن مواصلة الحرب تعني إضافة رصيد للقوة العسكرية اليمنية التي تنمو بوتيرة متسارعة.
شحّ الموارد الاقتصادية، ونضوب بيت المال، والحصار المطبق على كلّ المنافذ البرّية والبحرية، كلّه كان يمكن له أن يهدم أركان الدولة والنظام الاجتماعي في اليمن، ولكن ثمّة ديناميات أهلية نجحت في تجاوُز كلّ العقوبات والحصار، وأقامت لنفسها اقتصادها الفرعي، حيث تَجري التعاملات المالية والتجارية وانتقال السلع وتبادلها بين المحافظات والعوائل بطريقة أفضت، إلى حدّ كبير، إلى تحييد التأثيرات المباشرة للحصار على الواقع اليومي لحياة الأهالي. في حقيقة الأمر، تُثبت الحرب مجدّداً أنها مصنع فعّال للدولة، ولكن وفق مقاسات ضحاياها، وقد قرّروا عدم السماح لِمَن شنّها بأن يصوغ الدولة بناءً على حساباته ومصالحه، كيف وهو ليس في موقع المنتصِر؟ وهي الرسالة التي يوصلها المفاوض اليمني مرّة تلو أخرى للمعتدين، بأن الحرب لن تنتهي بشروطكم، ولا إمكانية لذلك إلّا بوقف العدوان ورفع الحصار.
إن الإصرار على منطق الوصاية، فيما تميل موازين الحرب لصالح الجيش و«اللجان الشعبية»، يشي ليس بحالة إنكار فحسب، وإنما بِنِيّة العودة المستقبلية إلى مسار الحرب بأشكال أخرى. تمارس قوى العداون سلطتها استناداً إلى إمكانيات وموارد تَحوّلت إلى عبء سياسي وأخلاقي. ولا شكّ في أن هناك جمهوراً عريضاً يعيد السؤال
القديم: ماذا عن مئات المليارات من الدولارات التي أُنفقت على تطوير الآلة العسكرية السعودية؟ رسائل اليمنيين بالغة الفصاحة فجّرت بنك الأهداف الأولى والمعلَنة للحرب: تدمير المخزون الاستراتيجي (الصواريخ الباليستية) لليمن، وتأمين الحدود الجنوبية، وطرد جماعة «أنصار الله» من العاصمة… أهداف أريد لها أن تكون الاستثمار الرمزي لصنع «كاريزما» من قلب الميدان. لم يكن سهواً غياب خطاب البطولات لدى ابن سلمان أو حتى لدى والده، على الرغم من أن الإخفاق في صنع منجَز عسكري يأكل من شرعية حكمه وسط قاعدة أوهمها بأنه سوف يعود من المعارك فاتحاً، وإذ به مثخن بطعنات وجروح غائرة لن تندمل لسنوات وربّما لعقود قادمة.
في الخلاصة، لا مناص من «استراتيجية خروج»، بعد أن طال أمد الحرب، ووصل «الاستنزاف» إلى مفترق خطير، ليس على مستوى ما تأكله من أموال قُدّرت في عام 2018 بنحو 5 – 6 مليارات دولار شهرياً، وإنما على مستوى صورة النظام السعودي، وعلى موازين القوى التي تميل تدريجياً إلى حيث يقترب اليمنيون من تثبيت معادلة ردع مثل تلك التي ثبّتها اللبنانيون مع الكيان الإسرائيلي بعد حرب تموز/ يوليو 2006. فهل يعي السعودي الدرس، أم يكرّر خطأ «الشريك الجديد»؟.
فؤاد ابراهيم – الأخبار اللبنانية