القدرات البحريَّة اليمنيَّة بعد 6 سنوات على “العاصفة”.. ماذا تغيَّر؟ بقلم/ محمد منصور
بقلم/ محمد منصور
تكرّرت خلال السنوات الماضية المعارض التي يقدّم فيها الجيش اليمني مبتكرات عسكرية جديدة، لكن ما يميّز المعرض الأخير الذي أقيم منذ أسابيع قليلة، ليس الكم الكبير من المعروضات الذي تعدى بمراحل ما تم عرضه خلال المعارض السابقة فحسب، بل أيضاً إمكانية اعتباره بمثابة مؤشر على التطور المتسارع الذي طرأ على القدرات الهجومية والدفاعية للجيش اليمني وللجان الشعبية خلال السنوات القليلة الماضية، وهو تطوّر نابع بشكل أساسي من التجارب الميدانية التي شملت الميدان البري والبحري والجوي.
لا يمكن بطبيعة الحال أن نقيم بشكل شامل المعروضات الجديدة في هذا المعرض من دون العودة إلى التطورات التي طرأت على التسليح اليمني منذ العام 2015 وحتى الآن. هنا سنركّز على الجانب البحريّ.
امتلك الجيش اليمني في ما مضى قوة بحرية معقولة العدة والعتاد، لكن بفعل الغارات الجوية التي شنتها الوحدات الجوية التابعة للتحالف السعودي على الموانئ اليمنية منذ العام 2015، تم تدمير كل القطع البحرية التي كانت متوفرة لدى الجيش اليمني، ما فرض على المؤسسة العسكرية اليمنية البدء من الصفر في تشكيل قوتها البحرية، لكن هذه المرة كانت الذهنية مختلفة بشكل كلّي عما يفرضه الفكر العسكري التقليدي في ما يتعلّق بالتسلّح البحري، إذ ركّزت البحرية اليمنية على اقتناء وتصنيع ما تحتاجه من إمكانيات قتالية، مستغلّة في ذلك الموارد المتاحة، ومتّخذة من حاجاتها الميدانية والتكتيكية بوصلة لتوجيه توجهاتها في هذا الصدد.
التفكير الأولي في ما يتعلّق بالتسليح انصبّ على محاولة استغلال ما تبقى من إمكانيات قتالية بحرية تقليدية. وقد وجدت البحرية اليمنية ضالتها في الصاروخ البحري الصيني “سي-801″، الذي كان ضمن تسليح زوارق الصواريخ الصينية الصنع التابعة للبحرية اليمنية من فئة “هونان”، فقامت بجمع الصواريخ المتبقية من هذا النوع من المخازن التابعة للقوة البحرية السابقة، وبدأت باستخدامها قتالياً لاستهداف القطع البحرية التابعة للتحالف السعودي، عبر سلسلة من العمليات بلغت 10 عمليات ناجحة ما بين تشرين الأول/أكتوبر 2015 وحزيران/يونيو 2017، تم أبرزها في تشرين الأول/أكتوبر 2016، باستهداف سفينة النقل السريعة من فئة “سويفت”، المؤجرة من جانب البحرية الإماراتية، ما أدى إلى إعطابها بشكل كامل وإخراجها بعد ذلك من الخدمة.
والجدير بالذكر أنَّ هذه العمليات لا تشمل عدّة محاولات لاستهداف الفرقاطة التابعة للبحرية الأميركية “يو أس أس ماسون”، تمت في تشرين الأول/أكتوبر 2016، وكاد أحد الصواريخ اليمنية يصيبها في المحاولة الثالثة.
في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، أعلن الجيش اليمني عن صاروخ بحريّ جديد تحت اسم “المندب – 1″، وهو حصيلة تطوير محلّي تم على الصّواريخ الصينية السالف ذكرها. وقد تمّ استخدامه خلال 3 عمليات رئيسية لاستهداف القطع البحرية التابعة للتحالف السعودي خلال العام 2018، لكن كانت هذه الفترة وما تلاها مسرحاً لاستخدام تكتيكات بحرية هجومية أخرى.
لقد ركَّزت البحرية اليمنية بشكل كبير في عملياتها التدريبية على إعداد فرق من الضفادع البشرية، من أجل تنفيذ مهمّات خاصة قبالة الساحل اليمني وداخل الموانئ التي تتواجد فيها قطع بحرية تابعة للتحالف السعودي. العملية الأولى في هذا الصدد تمت في حزيران/يونيو 2017، حين نفَّذ فريق من الضفادع البشرية هجوماً على سفينة إنزال بحري داخل ميناء المخا، ما أدى إلى إعطابها، وتلا ذلك خلال الشهرين التاليين هجومان على الميناء نفسه، استهدفا كاسحات الألغام التابعة للتحالف السعودي.
العام 2018 شهد 3 عمليات من هذا النوع، آخرها كان في شهر أيلول/سبتمبر، أسفرت عن أضرار في إحدى القطع البحرية الموجودة داخل ميناء جيزان السعودي. والجدير بالذكر أنَّ أحد فرق الضفادع البشرية اليمنية تمكّن في أوائل العام 2018 من السيطرة على الطوربيد المسير “Remus-600” الذي تنتجه مجموعة “كونجبيرج” النرويجية للصناعات الدفاعية، وهو في الأساس مخصّص لأغراض الأبحاث المدنية، لكن الوحدات البحرية التابعة للتّحالف السعوديّ استخدمته في عمليات البحث والمسح البحري وأبحاث الأعماق والمجاري المائية قبالة الساحل اليمني.
من التكتيكات التَّسليحية التي ابتكرتها البحرية اليمنية ما هو مستمدّ من تجربة استهداف المدمرة الأميركية “يو أس أس كول” في ميناء عدن في العام 2000، ألا وهي تكتيك “الزوارق الانتحارية المسيرة عن بعد”.
هذا التكتيك ظهر للمرة الأولى في كانون الثاني/يناير 2017، في حادث استهداف الفرقاطة التابعة للبحرية السعودية من فئة “المدينة”، إذ أظهرت تسجيلات كاميرات المراقبة المثبتة قرب منصّة هبوط المروحيات في مؤخرة الفرقاطة أنَّ زورقاً سريعاً قام بالاصطدام بشكل مباشر ببدن الفرقاطة، ما ألحق بها أضراراً متوسطة.
بشكل عام، تمتلك جماعة “أنصار الله” 3 نماذج من الزوارق الانتحارية المتحكّم بها عن بعد؛ الأول ظهر للمرة الأولى خلال الهجوم على الفرقاطة السعودية، وكذلك في هجمات أخرى تم شنّها في العام 2017، استهدفت منصة نفط سعودية وقطعاً بحرية إماراتية.
هذا النموذج عبارة عن زورق سريع يتم التحكّم به عن بعد، ويبلغ طوله نحو 10 أمتار، ويمتلك محركين يوفران له سرعة قصوى تبلغ 45 عقدة في الساعة، وتم تزويده بشحنة متفجرة تبلغ زنتها 450 كيلوغراماً، يعتقد أنَّها مستخرجة من صواريخ “ستايكس” السوفياتية المضادة للسفن التي امتلكتها البحرية اليمنية في ما مضى.
النموذج الثاني ظهر للمرة الأولى في أيار/مايو 2018، حين حاولت 3 زوارق مفخخة الهجوم، انطلاقاً من ميناء الحديدة اليمني، على قافلة تضم 3 ناقلات نفط وقطعتين حربيتين سعوديتين. هذا النموذج مصنع من الألياف الزجاجية، وتبلغ سرعته 30 عقدة في الساعة، ويستخدم بشكل أساسي في بث الألغام البحرية، لكن لوحظ منذ منتصف العام 2018 استخدامه في الهجمات على القطع البحرية في البحر الأحمر، عن طريق تجهيز عبوات ناسفة داخل بدن الزورق، وتوجيهه بطاقم بشري في اتجاه الهدف المراد تدميره، ومن ثم مغادرة الطاقم المكون من فرد أو فردين الزورق أثناء تحركه، بعد أن يقترب مسافة كافية من الهدف. من أهم مميزات هذا النموذج، بدنه المنخفض الارتفاع الذي يجعل من الصعب رصده أثناء تحركه على سطح الماء، وخصوصاً من مسافة بعيدة.
النموذج الثالث يتمثَّل في تعديل محلي الصنع على زوارق الصيد اليمنية التقليدية، بهدف تحويلها إلى زوارق انتحارية والاستفادة من التمويه الذي يوفّره الطابع المدني لهذه الزوارق التي يمتلك اليمن الآلاف منها على طول سواحله. وقد استخدمت جماعة “أنصار الله” هذا النموذج بشكل مكثف منذ العام 2019، بعد أن زوَّدته بتعديلات تشمل آلية للتحكّم بالتوجيه والدفع عن بعد وكاميرا لنقل المشهد الأمامي للزورق.
وكان الهجوم الأوَّل الَّذي تمَّ فيه استخدام هذا النموذج في نيسان/أبريل 2019، انطلاقاً من منطقة اللحية الساحلية، شمال مدينة الحديدة، وكذلك الهجوم الَّذي تم في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2020 على منصّة تفريغ المشتقات النفطية العائمة قبالة ساحل مدينة جيزان في الحدّ الجنوبي السعودي.
التكتيك الأهم في مجال التّسليح البحري كان موجّهاً بشكل كبير نحو سلاح أثبت جدارته خلال ثمانينيات القرن الماضي في منطقة الخليج العربي، ألا وهو الألغام البحرية. في تشرين الأول/أكتوبر 2018، أعلنت جماعة “أنصار الله” عن بدء إنتاج نوعين من الألغام البحرية الغاطسة تحت اسم “مرصاد 1″ و”مرصاد 2”.
وقد ظهر هذا النوع من الألغام بشكل مكثف قبالة ساحل اليمن خلال المراحل اللاحقة. وكما يبدو، تزايد اعتماد الجماعة على هذا السّلاح، وهو ما اتّضح بشكل كبير من خلال المعروضات التي ظهرت خلال المعرض السالف ذكره.
لقد تضمَّن هذا المعرض 7 أنواع إضافية من الألغام البحرية، معظمها يعدّ تطويراً لألغام “مرصاد”، مثل عائلة الألغام البحرية “كرار” و”أويس” و”مجاهد”، لكن اللافت كان في بعض الأنواع الأخرى، مثل اللغم البحري “ثاقب”، الذي يتميز بآلية مغناطيسية للتثبيت على بدن القطع البحرية المعادية، عبر عناصر الضّفادع البشريَّة، ويمكن لمجموعة منه إحداث ثغرات كبيرة. هذا التوجه يدلّ على أنَّ جماعة “أنصار الله” تعمل على توسيع قاعدة استخدامها للألغام البحرية، بعد أن أثبتت نجاعتها وقلَّة تكاليف إنتاجها وتطويرها مقارنة بالصواريخ البحرية.
يبقى أن نشير إلى أنَّ البحريَّة اليمنيَّة تستخدم حالياً الزوارق الساحلية الخفيفة بشكل موسّع لتنفيذ مهامّ الاستطلاع والدورية، وتعمل على تسليح بعض النماذج منها برشاشات متوسطة وراجمات صواريخ، وهو ما يفي إلى حد كبير بالمهام المطلوبة في المرحلة الحالية من البحرية اليمنية، والتي تتلخَّص في خلق مساحة كافية من الردع البحري لإبعاد نشاط القطع البحرية المعادية عن الساحل اليمني، وبالتالي إفشال أية محاولات من جانب هذه القطع لتنفيذ إنزالات على الشاطئ اليمني، أو تقديم الدعم الناري للقوات التابعة لها على الأرض، وهو ما ساهم بشكل رئيسي في عدم نجاح التحالف السعودي في السيطرة على مدينة الحديدة.
ربما يمكننا أن نعكس ملامح الحرب البحريَّة في اليمن بشكل كبير على مستقبل الحروب البحرية التي سيكون للأنظمة المسيرة فيها دور بارز، جنباً إلى جنب مع القطع البحرية الخفيفة التي كانت حتى وقت قريب من سمات القوات البحرية المحدودة القوة، لكن بالنظر إلى التجربة اليمنية، وترافق هذه القوة الخفيفة مع تكتيكات هجومية ناجعة تجمع بين الألغام والصواريخ والعمليات البحرية الخاصة، لا يمكن بعد الآن وصف البحرية التي تمتلك قطعاً محدودة أو خفيفة بأنها ضعيفة، بل سيتمّ تقييم مدى القوة المتوفرة لها على أسس جديدة كلياً تختلف عن الميزان العددي الذي كان سائداً لسنوات خلت.