كورونا و”مالثوسية” العقل الإمبريالي المتوحش ..
بقلم / موفق محادين
كاتب ومحلل سياسي أردني
سواء كانت كورونا جائحة طبيعية أو مصنّعة في إطار حرب الإمبريالية الأميركية ضد الصين، على غرار حرب الأفيون التي شنّتها الإمبريالية البريطانية ضد الصين أيضاً، لوقف صعودها السريع في القرن التاسع عشر، فإنّ الأخطر من كل ذلك هو توظيف هذه الجائحة التي صنّفتها منظمة الصحة العالمية في مستوى الوباء.
إن العقل الإمبريالي لا يترك ظاهرة كهذه من دون توظيفها لتعميق فلسفته المتوحشة، التي لا تميز بين أمم الشرق وشعوبه، وبين الأمم الصناعية الشمالية أيضاً، ومن ذلك:
1- جنباً إلى جنب مع إعادة إنتاج متوحشة لليبرالية عبر فلاسفة السوق الخالص (فون هايك صاحب كتاب “دستور الحرية”، وميلتون فريدمان صاحب كتاب “الرأسمالية والحرية”)، فإن أقلام الاستخبارات الإمبريالية ومختبراتها راحت عبر الحرب الجرثومية، تصنيعاً أو توظيفاً، تعيد إنتاج أخواتها الإيديولوجية، وفي مقدمتها المالثوسية الجديدة، كتعبير عن حاجات داروينية اجتماعية جديدة.
ونحن نعرف أن المالثوسية، نسبة إلى مالثوس (1766 – 1834)، تدعو إلى تحقيق التوازن بين ما أسمته المتوالية الحسابية للغذاء والموارد والمتوالية الهندسية للسكان، عبر الحروب والكوارث والأوبئة.
وقد وفّرت عبر هذه الأدوات القذرة، المصنعة أو الطبيعية، الغطاء الوحشي لكلّ حروب الإبادة الاستعمارية، ووصل بها الانحطاط حدّ تشكيل منظمات إغاثة إنسانية مزعومة للهنود الحمر، أغرقتهم ببطانيات الجدري، ثم بالأدوية السامة، كما ورد في رواية “ظلام الإلدورادو”.
ونعرف أن هذه المالثوسية كانت الجرعة الإيديولوجية للداروينية الاجتماعية في جذرها التوراتي اليهودي، وتجلياتها في المركزية الثقافية الأوروبية، ثم في فكرة صراع الحضارات عند الأميركي هنتنغتون.
وبحسب الجذر التوراتي، ينقسم العالم إلى قسمين، هما الشعب المختار الذي يستحق الحياة والسيادة، والذي حوّله فلاسفة يهود إلى مواز أو مكافئٍ لفكرة الحالة الحضارية مقابل الحالة البدائية. أما القسم الثاني، فهو الغوييم أو الأغيار، الأقرب إلى بهائم برسم القتل والاستباحة والسبي، كما عند الوهابية، الوجه الآخر لليهودية.
وتظهر فكرة صراع الحضارات كجيل جديد للمالثوسية، التي لا تتوقف عن إعادة انتاج الأدوات اللازمة لحرب الإبادة كلما ظهر تحدٍ جديد للعنصر الأشقر واليهودي.
وبقليل من المبالغة، ومع انتشار السلعة الجديدة من الحرب الجرثومية في كل زاوية من العالم، بما في ذلك العالم الرأسمالي الأنجلو سكسوني، تعالوا نربط بين أفكار هنتنتغتون والانتشار الواسع لفيروس كورونا؛ الطبعة التالية من السارس المصنع في المختبرات الأميركية.
ألم يقل هنتنغتون إن جبهة الأعداء تضم طيفاً واسعاً من: الكونفوشية (الصين)، والكاثوليك (إيطاليا وإسبانيا وفرنسا)، والإسلام الراديكالي المناهض للغرب مثل إيران، والأرثوذكس، وخصوصاً روسيا، مقابل الأنجلو سكسون البروتستنت والإنجيليين واليهودية العالمية (الأميركيين والإنجليز وبعض مناطق أوروبا الغربية)؟
2- التوظيف الثاني للعقل الإمبريالي وليبراليته المتوحشة هو تحويل كورونا إلى أداة لتحطيم المجتمعات وتفكيكها، وإشاعة ثقافة الفردية الأميركية، التي شوّهت الوجودية في كل مصادرها، القديمة السقراطية والحديثة (سارتر وهيدغر)، وراحت تمزق كل محاولات التواصل الاجتماعي التي أطلقتها التيارات الإنسانوية، ومنها بقايا مدرسة فرانكفورت النقدية الفلسفية (هابرماس).
إن كورونا وما تؤدي إليه إجبارياً من سياسات للعزل والتشظي الاجتماعي، تبدو قرينة للفايسبوك وما يقال عن تأسيس متدرج لعالم بلا تواصل؛ عالم من الجزر الفردية المنعزلة المتناثرة مثل كريات زجاجية على سطح أملس.
وثمة ما هو أسوأ بكثير، حين يتخطى الاغتيال الفردي الجماعة، ويحول أفرادها إلى أرقام ومكعبات صماء مثل الروبوتات تماماً، على نحو ما جاء في النبوءات الروائية عند هكسلي (عالم طريف)، وأورويل (1948)، وسارامارغو في أكثر من رواية.
3- التوظيف الثالث لهذا الوباء هو إشاعة الهلع وثقافة الخوف، مقدمة للإبادة الرخيصة.
وقد أظهرت دراسات عديدة على عالم الحيوانات، أن أكثرها خوفاً أسرعها اضطراباً وموتاً، تاركةً ما تبقى من لحمها وجلدها وعرقها لأكثرها افتراساً، مثل الإمبريالية المتوحشة التي حوّلت العالم إلى غابة جديدة.
يخبرنا المخرج الياباني الراحل، أكيرو كيرو ساوا، في سيرته الشخصية، أنَّ اليابانيين اكتشفوا خلال الحرب أن أفضل علاج للحروق هو العرق الذي تفرزه الضفادع في حالة الخوف، فحوّلوا الآلاف منها إلى مختبرات لهذه الغاية، كما هو العقل الإمبريالي إزاء ملايين البشر.
ونحن نعرف أن قرود الشمبانزي استمرَّت لأنها مقاتلة، فيما انقرضت قرود البونوبو لأنها كانت تستسلم أمام الأخطار، ولم تعرف المقاومة قط، بيد أن الملاحظة الأخطر هي التي أصبحت لقية العديد من الأنظمة التابعة، والتي تتعلَّق بالاستثمار برائحة الخوف أكثر من الخوف نفسه، وفحواها أن الحيوانات المفترسة لا تجرؤ إلا على الكائنات الخائفة التي سرعان ما تفرز رائحة خوف مع أقل خطر تتعرّض له.
وتنقسم هذه الحيوانات إلى نمطين؛ نمط خائف بكليته الجمعية وبطبيعته، ونمط يتفاوت عنده الخوف من عضو إلى آخر في القطيع.
وبوسع الذين شاهدوا أفلاماً وثائقية من هذا النوع، ملاحظة أن الحيوانات المفترسة تركّز على عضو بعينه من القطيع، هو الأكثر إفرازاً لرائحة الخوف.
ومن المؤسف أن هذه الظواهر تجد تعبيرات لها في عالم البشر، فثمة مجاميع بشرية هلعة أقرب إلى سلوك البونوبو، وثمة مجاميع أخرى مثقلة بإفرازات كامنة للخوف.
وقد وجدنا، على سبيل المثال، أن غالبية قبائل الهنود الحمر التي أبيدت في الحرب الرأسمالية الاستعمارية البيضاء ضدها كانت أقرب إلى البونوبو.