مقالات

مسارات محتملة للجهود الأمريكية في اليمن بقلم/ مصطفى ناجي

بقلم/ مصطفى ناجي


تبدي الإدارة الأمريكية الجديدة اهتمامًا كبيرًا بالملف اليمني، وتعتني بالحرب الجارية كمدخل لهذه العناية، على عكس المقاربات السابقة التي تنطلق من ملف مكافحة الإرهاب، وإن كان هذا الملف مايزال قائمًا. وهو متغير كبير في العلاقة اليمنية الأمريكية منذ ما لا يقل على عقدين من الزمن.
في حقيقة الأمر، يمثل ملف اليمن بداية مناسبة لتأكيد عودة واشنطن إلى المشهد الدولي دبلوماسيًا، بعد سنوات من تعامل الرئيس ترامب عبر مقاربة انعزالية وتشكيل فراغ استراتيجي كبير، خصوصًا في المنطقة العربية، والاكتفاء بحسابات الربح والخسارة، انطلاقًا من ذهنية تجارية صرفة، والتي خلقت شروخًا دبلوماسية كبيرة في العالم.
شرعت إدارة الرئيس بايدن في تغيير مسار تعاملها بوجهة معاكسة كليًا لتوجهات سلفه. فقد أسرعت في بداية فبراير في تعيين الدبلوماسي الأمريكي المخضرم السيد تيموثي ليندركينغ مبعوثًا أمريكيًا خاصًا لليمن. يعيد هذا القرار موضعة الولايات المتحدة الأمريكية من شريك أساسي في الحرب، إلى جانب السعودية، من خلال الدعم اللوجستي وبيع الأسلحة إلى طرف قابل لأن يكون وسيطًا، ويمكن لمبعوثه الخاص أن يتواصل مع الجماعة الحوثية على هذا الأساس.
وهذا الدور لن يكون فاعلًا في ظل التمسك بتصنيف جماعة الحوثي كجماعة إرهابية خارجية، لذا مهدت الإدارة الجديدة لمهمة مبعوثها بأن عاكست توجه إدارة ترامب من خلال إزالة الجماعة الحوثية من التصنيف بشكل مجاني استنادًا إلى مسوغات إنسانية كافحت منظمات حقوقية وإنسانية محلية ودولية لتأكيد تبعات التصنيف على الوضع الإنساني في اليمن، متجاهلة دور الجماعة الحوثية في تفاقم الأزمة الإنسانية.
كانت إدارة ترامب من خلال إدراج الجماعة الحوثية ضمن قوائم الجماعة الإرهابية الخارجية، ولّدت قرارًا ميتًا في آخر لحظة من لحظاتها. لكن إزاحة القرار لم تكن مفاجئة كخطوة دبلوماسية، إنما في سرعة الإزاحة التي تعد أسرع حالة إزالة من قائمة الإرهاب في الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن هذا التعيين يأخذ دلالات حساسة، سيما وقد وصلت جهود المبعوث الأممي إلى طريق مسدود، وعدم تمكنه من تحقيق أي اختراق سياسي منذ سنتين. فضلًا عن ارتفاع الاهتمام الروسي بالمنطقة عمومًا وبالشأن اليمني كما سنرى لاحقًا. إلا أن النقطة الأهم هي التبدل في السياسات الأمريكية تجاه الملف النووي الذي لا يمكن فصله عن سياسات إيران في المنطقة العربية، فهل تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى الأخذ بزمام الأمور في اليمن، لتجعل الملف اليمني ورقة أمريكية للتعامل مع معالجة الملف النووي الإيراني؟

لن نخوض طويلًا في سياق تعيين المبعوث الأمريكي الذي لن يخرج عن الموقف الظاهر للإدارة الجديدة من المملكة العربية السعودية، خصوصًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وعلاقته الوثيقة بالإدارة الأمريكية السابقة من جهة، أو من منطلقات إدارة بايدن في التعامل مع الملف النووي الإيراني، لكننا سننطلق مباشرة في تدارس فرص نجاح هذا المبعوث، وانعكاسات التعيين على الشأن اليمني من جهة، وعلى الجهود الأممية التي يخوضها المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة السيد مارتن جريفيث.

تعيين مبعوث هو سلاح ذو حدين

باشر المبعوث الأمريكي -كبير المعرفة بمنطقة الجزيرة العربية بحكم عمله وأسفاره السابقة في المملكة ودول الخليج- مهامه بتنقلات وزيارات، منها زيارة رئيس الجمهورية عبد ربه منصور هادي -لم يحظَ بها المبعوث الأممي في الوقت نفسه- بالإضافة إلى قيادات خليجية، ومؤخرًا لقاء -ربما غير مباشر- جمعه بممثل جماعة الحوثي في مسقط.
في حقيقة الأمر، هناك جملة نقاط ينبغي الإشارة إليها في تناول مهمة المبعوث الأمريكي إلى اليمن؛ أولًا أن أمريكا لديها قدرة أكبر على التأثير سياسيًا، خصوصًا على الدول الخليجية، ومنها المملكة العربية السعودية ذات الانخراط الأكبر وربما الأوحد عسكريًا في الشأن اليمني، بعد أن أعلنت الإمارات العربية المتحدة تقليص تدخلها في اليمن على حدود أدنى، قبل أكثر من عام.
من منظور إقليمي، ستكون الضغوط على السعودية ترجيحًا لكفة البلد الآخر المضاد المتدخل في الشأن اليمني، وهو إيران.
نجاح هذه الضغوط يعتمد على قدرة السعودية على المناورة السياسية، والوقوف في مواجهة أمريكا بالاستناد إلى مخاوف مشتركة من إيران مع إسرائيل. ويعتمد أيضًا على حجم التضحية بالأبعاد الاستراتيجية السعودية الأمريكية التي يمكن للأمريكان تقديمها في سبيل معالجة الملف الإيراني. صحيح، تؤكد أمريكا وقوفها إلى جانب المملكة في الدفاع عن أمنها، وهو موقف يفصح عن رغبة تجارية للاستثمار في أمن المملكة، وليس رغبة في إزالة مهددات أمن السعودية كشريك استراتيجي.
النقطة الثانية هي أن انخراط أمريكا في الملف اليمني يعني بشكل أو باخر إخراج الملف اليمني من الإجماع الدولي كما هو واضح في مجلس الأمن، نحو مسارات منفردة، وهذا سيدفع إلى تدخل روسيا، وربما الصين، لتغدو اليمن مسرحًا أكثر تعقيدًا للتدخلات الدولية وصراع القوى، ويتقارب الوضع اليمني مع السوري والليبي في تعقيداته، وربما كلفته الإنسانية.
مرحليًا، تسعى روسيا إلى أن تكون قبلة جاذبة للأطراف اليمنية، وقد رأينا استقبالها لسياسيين يمنيين سواء حوثيين أو من المجلس الانتقالي. لكنها أيضًا تبدي رغبة أكبر في أن تضع لها بصمة في العملية السياسية اليمنية، كما تشهد على ذلك تصريحات وزير خارجيتها الذي يقوم بتحركات دبلوماسية في المنطقة أثناء زيارته لعواصم خليجية عديدة، ويضع اليمن ضمن محاور تصريحاته.

الثالثة، وهي على صلة بالثانية؛ المسار الأمريكي يعني خلق منافسة جديدة واستقطاب وطرح رؤى جديدة قد تكون مغايرة لما خطه مسار المبعوثين الأمميين إلى اليمن منذ بداية الحرب. وهذا قد ينعكس بالحد من فاعلية المسار الأممي، وفقدانه الجاذبية وقدرته على ربط الأطراف اليمنية به. أو في أحس الأحوال تحوّل المسار الأممي والجهود الأممية إلى تابع كلي لمقترحات وتصورات المبعوث الأمريكي.
يمتلك ليندركينغ معرفة كبيرة وعميقة بتعقيدات الملف اليمني، وربما وجوده في المملكة العربية السعودية جعله يدرك السردية السعودية وسردية الحكومة اليمنية الخاصة بالأحداث في اليمن. لكن توجهات إدارة بايدن الخاصة بالملف النووي، ورغبتها بالعودة إلى الاتفاق وتفضيل المسار الدبلوماسي، ستفرض ضغوطًا على المملكة. بالتالي يمكن أن تدفع بالأمور نحو وجهة ما، وتكبح تدخل السعودية عسكريًا في اليمن، بما يعني تخفيضًا للتصعيد وحدة المواجهات من خلال إغلاق ماسورة مدفع الطيران السعودي. ولكن هذا لا يعني بالضرورة وقف مجريات الحرب داخليًا. ومعيار نجاح مهمة المبعوث في عين المواطن اليمني، هو إيقاف الحرب، وليس إخراج السعودية من اليمن.

وهنا نأتي إلى الشق الآخر من المشكلة. نجاح مهمة المبعوث يعتمد على سلوك الجماعة الحوثية وقدرتها على التقاط السوانح السياسية خارج حسابات المحور الإيراني. إلى حد اللحظة لا تقدّم الجماعة الحوثية بوادر نحو السلام. إذ ماتزال تكثف حملتها العسكرية على مأرب، وتواصل قصف المملكة بالصواريخ الباليستية والطيران المسير.
عمليًا، ازدادت شراسة الحملة الحوثية على مأرب عقب رفع اسمها من قوائم الإرهاب، كما لو أنها تشجعت أكثر لتمضي في خيار الحرب. وهي بهذا تنسف السردية الرائجة بأن الحرب في اليمن هي حرب سعودية على اليمن. بل إنها تدفع إلى إعادة النظر في سدادة قرار إزاحة الحوثية من قوائم الإرهاب.
بالمقابل، لا يحمل تغيير التوجهات في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط واليمن تحديدًا، علامة سوء بالمرة إذا ما أخرجناها من حسابات الملف الإيراني. ستكون هذه الإدارة أمام امتحان مصداقية من ناحية معيارية تجاه التزامها بمهمة رسالية من صميم نشاط الديمقراطيين، تتمثل في دعم التغيير والتحول الديمقراطي ودعم حقوق الإنسان.
ستتضح هذه الوجهات في خيارات المبعوث الأمريكي وتصوراته للحل في اليمن. إذا كانت كذلك يمكن لليمنيين إجمالًا، وعلى رأسهم الحكومة اليمنية، استثمار جهوده في هذا الاتجاه، والدفع بأن يكون السلام في اليمن يصب لصالح هذه القيم. هذا يعني التزامًا أكبر من طرف واشنطن بالقرارات الأممية الخاصة باليمن، وعلى راسها القرار 2216، ومخرجات الحوار الوطني التي تؤسس لتحول ديمقراطي وعدالة انتقالية في اليمن.
لكن هذا غير مضمون، إنما ينبغي طرق هذا الطريق والتقارب مع الجهد الأمريكي انطلاقًا من هذه الزاوية.
عمليًا، لا تجمع اليمن مصالح اقتصادية كبيرة لتقدم إغراءات للانخراط الأمريكي في اليمن. عدا ملف مكافحة الإرهاب، فإن القيم هي القاسم المشترك الذي يمكن التأسيس عليه بعد الأبعاد الاستراتيجية لموقع اليمن.
في خلاصة الأمر، يتضح أن الدور الأممي يمضي نحو الترهل، لأسباب كثيرة، منها عدم تفعيل المجتمع الدولي لأدوات العقاب والثواب في إنفاذ إرادته في اليمن، وتطبيق القرارات الخاصة باليمن، وعدم إحراز تقدم نتيجة لممانعة الأطراف اليمنية نحو إنجاز تسوية سياسية، إيمانًا من البعض بقوة السلاح في تحقيق المآرب السياسية.
بالنسبة للدور الأمريكي فهو مرهون بتفاعلات إقليمية تتجاوز الملف اليمني، منها أولًا إعادة صياغة العلاقة الأمريكية مع المملكة، وتشذيب جموح ابن سلمان، مع التودد لإيران، وتفهم مطامعها أو كبحها، سيما وقد بلغت إيران مرحلة استخدام ملفها النووي في لي ذراع العالم ليعترف بنفوذها ويستسلم لمعادلتها الإقليمية.
*المشاهد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى