الوعل السبئي المسروق مجرد نموذج لتاريخ مستباح بقلم/ عبدالرحمن الغابري
بقلم/ عبدالرحمن الغابري
أجيال وحكام ما بعد دخول اليمن في الإسلام، لم يكن همهم الحفاظ على تاريخه الحضاري، ولا على إرث تلك الحضارات ثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا. قلة من المفكرين والمؤرخين، كنشوان بن سعيد الحميري وأبي الحسن الهمداني والحسين بن أحمد السياغي (قبل حوالي 300 سنة)، ومؤخرًا الدكتور جعفر الظفاري والأستاذ مطهر الإرياني، والدكتور يوسف محمد عبدالله، والدكتور عبده غالب عثمان، والدكتور سامي الشهاب، والدكتور محمد عبدالقادر بافقيه… قلة قليلة ممن ظل مهتمًّا بالآثار والموروث اليمني الحضاري الضخم، لهم الشكر ومنهم العذر إذ لا تحضرني أسماؤهم كاملة الآن. هؤلاء من تجرؤوا وكتبوا وبحثوا وألفوا، رغم عدم اهتمام السلطات المتعاقبة بهم، بل ربما تم عن عمد محاربة أعمالهم وإخفاء بحوثهم الجريئة التي تبين الحقائق التاريخية.
منذ دخل اليمنيون في صراعات مذهبية، تشتتوا وحاربوا بعيدًا عن وطنهم كأتباع، وتركوا البلاد لكل غازٍ يهدم ثقافتهم وموروثهم الحضاري كيف شاء. تعاقب الحكام على اليمن، كل اليمن، منهم المتخلف الرجعي والعصبوي، ومنهم القومي واليساري، لكن الجميع كان هدفهم الأول هو السلطة وتكريس مفاهيمهم التي كانت أضيق من الوطن الكبير؛ فهم -وأعني الحكام- من مخرجات إما القبيلة التي لا تفهم في الوطن سوى تعاضدها ضد غيرها، وإما أتباع لحركات راديكالية دينية ومذهبية طُبخت ضد الحضارات خارج اليمن، وإما قومية تؤمن بالعربية قبل اليمنية، وإما يسارية أممية تؤمن بالعالم الحر ككل، ولم تثبت نفسها كأمة يمنية عريقة. لست هنا ضد أحد، فأنا أؤمن بوطنيتي اليمنية قبل سواها، ولست هنا ناقدًا سياسيًّا بقدر ما يجتاحني الغضب على ما حدث ويحدث لتاريخ وثقافة وهوية وطني اليمني العظيم وتراثه الحضاري الكبير، من عبث ممنهج منذ عصور، بينما حكام هذا الوطن الكبير يتقوقعون في دهاليز سياسية عرجاء، لا تقدم للوطن أي خدمات سوى خدمة ذاتها كمجموعات وحركات وقبيلة وأحزاب.
ما بعد ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر، أنشئت وزارات للثقافة والسياحة والإعلام، لكن مهمتها ظلت مدمجة كإعلام يروج للسلطات، والثقافة مجرد ملحق غير ضروري، بل ومحتقرة لدى بعض المسؤولين، وموازنتها لا تتعدى ربع موازنة مصلحة شؤون القبائل وأقل من حصة حزب من المال العام. والمثقف الباحث والمؤرخ والأديب والفنان، هم أشخاص زائدون عن حاجة شيخ الدين والقبيلة والسياسي ورئيس الحزب. والسياحة منذ زمن بعيد اعتبروها مجونًا وفسقًا، ولا داعي للسياح والسياحة حفاظًا على التقاليد.
شاهدت وسمعت حوارات الأحزاب وتجمعات القبائل، وسمعت خطب ونعيق رجال الدين، وجميعها كانت تتحدث بحماس شديد عن معتقدها، عن تنظيمها، عن رموزها في الخارج وأتباعها في الداخل. عن أهدافها التي أثبتت اليوم أن لا هدف لها سوى التكتل خلف من يدفع ويدعم حروب الموت للإنسان اليمني وتاريخه.
مؤخرًا دار جدل حول تهريب مجسّم لوعل سبئي، بِيعَ أو أهدي لأحد أمراء الخليج. الأمر تم بصورة عادية جدًّا منذ زمن بعيد، ولولا أن الخبراء الفرنسيين وغيرهم من الآثاريين الأجانب بشكل عام، كشفوا عن هوية هذه القطعة الأثرية، لاعتُبر من إرث تلك الرقعة الجغرافية الملتهبة بالنفط والغاز، والخالية من أي أثر للإنسانية. أيضًا لست ضد هذه الدولة الصغيرة، فمن حقها أن تصنع تاريخًا لها، لكن ليس على حساب تاريخ بلد آخر. فقط، أنا ضد الرخص وأربابه الذين تهون عليهم اليمن مقابل حفنة تافهة من المال.
الوعل السبئي المهاجر والحزين سبقته وعول وتيجان ملوك، وأجساد منحوتة على الحجر، وحلي وجواهر ملكات، ولوحات وجداريات مسندية قتبانية، معينية، أوسانية، سبئية، حضرمية وحميرية. سبق تهريب وبيع كل تلك الآثار الثمينة وتحطيم ما ثقل وزنه. سبق تحطيم عروش وتدمير مدن تاريخية. سبق الوعلَ خيولٌ ومجسمات لقادة يمنيين كبار، سبقه ثيران وسيوف ذهبية ودروع وتيجان وجرار فخارية مليئة بالذهب والياقوت والزمرد والعقيق اليماني. جميعها إما نهبت أو هُرّبت أو بيعت بثمن بخس، وبعضها تم إهداؤها بطريقة “خذ هذا الأثر. حق الكفار للكفار”. وهذا ما شاهدته بأمّ عيني في متحف تاريخ الفن في ميونيخ بألمانيا. كتب ذلك الباحث النمساوي الذي زار اليمن في سبعينيات القرن العشرين، تحت أحد النقوش المهمة، أن مسؤولًا يمنيًّا متدينًا قال له ردّاً على طلبه شراء النقش للحفاظ عليه: خذه.. حقّ الكفار للكفار. ذلك ما ترجمه لي موظف في المتحف. لقد كان النمساوي “الكافر” حريصًا على النقش اليمني أكثر من اليمني “المؤمن”.
هذه الصور التقطتها منذ سبعينيات القرن العشرين الماضي، وبالتتالي حتى وقت قريب. التقطتها بكاميراتي المتواضعة، وكنت أذهب إلى تلك المواقع الأثرية والمتاحف غالبًا على نفقتي، إلا ما ندر حين أُستضاف أو أكون ضمن وفد ثقافي، كما في ألمانيا وسويسرا. هذه الصور تثبت جرائم دامغة ارتكبها مسؤولونا ومشائخنا القبليون والدينيون ضد هذا البلد دون اعتبار لإرث الشعب الذي تم تجهيله وتغفيله عن حضارة بلده، عبر منظومة تعليم لا يمت للمستقبل بصلة. الشعب الذي تمت هزيمته ومحو تاريخه والعبث بمقدراته وبحياته حتى صار شعبًا مستباحاً وأرضًا تتناهشها المكونات الطارئة على التاريخ.
*جميع الصور داخل المادة من أرشيف الكاتب عدا الصورة الرئيسية، “خيوط”.
عبد الرحمن الغابري
مصور يمني ومخرج مسرحي، أحد مؤسسي نقابة الصحفيين اليمنيين، وعضو اتحاد الصحفيين العرب، وعضو منظمة الصحفيين العالمية، ورئيس اتحاد المصورين العرب-إقليم اليمن.