“جهاد” من نوع آخر في مأرب… هؤلاء هم رموزه وأبطاله
حيروت – متابعات
ساعات طويلة يظل فيها العمال القادمون من محافظات مختلفة للعمل من أجل توفير لُقمة العيش متعدّدي المهن والصنائع، في الشارع العام أمام جولة “وقاد” بمحافظة مأرب وسط اليمن، بعد أن تحول هذا المكان إلى موقف (حراج) للعمال الباحثين عن عمل.
مجموعة من العمال يفترشون الرصيف بجوار إحدى اللوكندات “منتزه” في مأرب، متكئين على أحجار “البلك” ساندين ظهورهم للجدار، يترقبون القادمين الباحثين عن عمال، في وضع مأساوي، نظرًا لشحة فرص العمل المتوفرة.
تحدث عددٌ من هؤلاء العمال لـ”خيوط” عن حركة سير العمل، منها البناء التي تشهده مأرب بنسبة كبيرة، وعن الظروف الاقتصادية التي تزداد تفاقمًا، نالت من هذه الفئة الكادحة النصيب الأكبر منذ الحرب التي تدخُل عامها السادس.
ومثلث المحافظة اليمنية الواقعة شرقي البلاد ملاذًا آمنًا للكثير من الأيادي العاملة القادمين من مختلف المحافظات والمناطق اليمنية، ممن عبثت الحرب بمناطقهم ومحافظاتهم وشردتهم من حياتهم وأعمالهم وأرزاقهم وحرمتهم من رواتبهم ولقمة عيشهم.
معاناة يومية
حسب عمال وناشطين محليين، فقد احتضنت مأرب الجميع، من نازحين وعمال فقدوا أعمالهم، وموظفين انقطعت رواتبهم، رغم إمكانياتها المحدودة في البنى التحتية والمشاريع التنموية وتشتت مناطقها، وشحة فرص العمل المتوفرة فيها.
حسان محمد، بنّاء طين وحجر، يتحدث عن معاناته وأوضاعه القاسية وتوقفه عن العمل منذ عشرة أيام، إذ يستيقظ حسان في الصباح الباكر عند الساعة السادسة صباحًا برفقه زملائه القادمين من محافظة إب، يتجمعون في مداخل الشارع الرئيسي للمدينة، لعل وعسى يجدوا عملًا، كونهم لا يستطيعون التوقف حتى لو كان عملًا بسيطًا للحصول على مبلغ زهيدٍ يقتضون به حاجتهم اليومية.
يواصل هذا العامل حديثه بالقول: “نشتغل عشرة أيام ونعطل شهر وهكذا. الرزاق الله لكن تعب العيش هنُا في مارب، يشتي جيب مليان”.
وبسبب ارتفاع تكاليف المعيشة في مأرب بشكل كبير، يكابد هذا العامل وجميع عمال الأجر اليومي الأمرّين في توفير متطلبات المعيشة والسكن، يضيف حسان: “نعتمد أنا وزملائي العمال على المطاعم لتناول الوجبات الثلاث وننام في “لوكندة”، وأحيانًا نتعاطى القات ليساعدنا على إنجاز عملنا الشاق وننسى وضعنا الزفت”، إذ يكلفهم ذلك مبالغ طائلة بمقابل أعمال شحيحة وأجور زهيدة.
محمد علي، عامل بالأجر اليومي، يؤكد من جانبه، أن وجبة الغداء تكلفه من 800 ريال إلى 1000، وقات بألفي ريال يراه شيئًا ضروريًّا لإنجاز عمله، ووجبة عشاء أيضًا بـ800 ريال، أما النوم في لوكندة تحت الأرض فتكلفه في الليلة الواحدة نحو 500 ريال.
ومثله بقية العمال في مختلف المهن يقضون تكاليف المعيشة اليومية في مأرب، والبعض منهم يفترش الرصيف “بالكراتين” ويتخذ من “الغترة” وسادة وينام في أمن وأمان في هذه المدينة، لكن مع البرد القارس مؤخرًا، اضطر الكثير منهم إلى المبيت في لوكندة شعبية أو في “صرح” المسجد الكبير للمدينة.
معاناة بسبب رسوم الحوالات
يشكو هؤلاء العمال من ارتفاع رسوم عمولة الحوالة المالية، بسبب التجزئة الحاصلة في العملة وفارق الصرف بين المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا، التي تعتمد بصورة كبيرة على العملة الجديدة المطبوعة، والمناطق الخاضعة لسلطة أنصار الله (الحوثيين)، التي تمنع تداول العملة الجديدة وتعتمد على العملة القديمة.
نتيجة لذلك، أصبح العامل اليوم يحسب كم سيتقاضى من أجر، والمبلغ الذي سيستقطعه لأسرته وعمولة الحوالة النقدية التي عليهم دفعها لإرسال مساعداتهم لأسرهم، والتي تلتهم نسبة كبيرة من المبلغ الذي لا يتبقى منه سوى مبلغ بسيط، كما يرونه، بالنظر لتردي الأوضاع المعيشية والغلاء الفاحش في الأسعار حيث لا تكفي حوالاتهم بين الفترة والأخرى أسرهم.
صلاح الكوماني، كهربائي، يتحدث بقهر عن هذا المعاناة المستمرة منذ أكثر من سنة بقوله “أرسل لأسرتي في ذمار 50 ألفًا”؛ تأخذ رسوم التحويل نصف المبلغ، وما يتبقى لا يكفي احتياجات أسرته التي تعتمد عليه بشكل رئيسي.
يعمل صلاح من الساعة السادسة صباحًا حتى الخامسة والنصف مساءً، ويتقاضى مبلغًا زهيدًا يصل من سبعة آلاف ريال إلى عشرة آلاف ريال. وردية العمل واحدة لكل أصحاب المهن، وتختلف في أجورها فقط.
الرسوم المالية الباهظة التي تتفاوت قيمتها بين الفترة والأخرى، تثقل كاهل هؤلاء الكادحين لطلب العيش، فهي قد حالت بينهم وبين زيارة ذويهم والعودة إلى أعمالهم، ناهيك عن تكاليف المعيشة الباهظة في مأرب.
الفئة الأكثر سحقًا
يرى العمال الكادحون أن الأطراف اليمنية المتنازعة تتلذذ في تعذيب معيشتهم كل عام أسوأ مما كانوا عليه، وهم الفئة الأكثر سحقًا حتى سنوات ما قبل الحرب.
أيادٍ معذبة في سبيل لقمة العيش الكريم يجهلها الكثير، بدءًا من رحلة السفر من مدنهم إلى المناطق التي وجدوا فيها فرصة عمل متاحة، مثل مأرب، رغم ظروف المحافظة الصعبة، التي تشهد معارك طاحنة بشكل متواصل منذ منتصف الشهر الماضي.
يختتم هؤلاء حديثهم عن المغامرة والحرمان في السفر والتنقل من محافظة إلى محافظة أخرى، لأسباب التجزئة في العملة الورقية ونقاط التفتيش في الطريق التي تعيق سفرهم غالبًا، يصفونها بالمعاملة السيئة والتهم “السخيفة” التي تطلقها كل نقطة لأطراف النزاع، لكنهم يجتازون المغامرة التي تستمر لساعات ويكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة.
ويقدر اتحاد عمال اليمن أن ما نسبته 80% من القوى العاملة فقدوا أعمالهم، فضلًا عن توقف العديد من الأعمال والشركات والمؤسسات الخاصة والحكومية، وتوقف بعض الصناعات الغذائية والمواد المعدنية والبلاستيكية، وهو ما أثر على وضعية الكثير من العمال الذين باتوا عاطلين عن العمل في بلد تشهد أكبر أزمة إنسانية في العالم، حسب تقارير الأمم المتحدة.
ويبدو جليًّا أن الملف الاقتصادي مغيب تمامًا في طاولة الأطراف اليمنية التي فشلت الأسبوع الماضي في التوصل إلى حل بشأن ملف تبادل الأسرى والمعتقلين في العاصمة الأردنية “عمان”، استمرت نحو شهر كامل.