مقالات

الاستعمار الداخلي يجلب الاستعمار الخارجي… العراق أنموذجاً بقلم/ البروفيسور أبو بكر السقاف

بقلم/ أبو بكر السقاف

قيام الدولة العراقية المعاصرة، بدأ بصورة هي مزيج الاستهتار المفرط والتسلط الامبريالي، فقد رسمت السيدة جريزود بل، التي تعرف في العراق بـ(الخاتون) بالمسطرة والفرجار حدود الدولة الجديدة بعد الحرب العالمية الأولى، التي انتصر فيها الحلفاء، وجاءت بفيصل الأول ملكا على العراق ، بعد أن أخرجه المستعمرون الفرنسيون من سوريا.

أراد فيصل أن دولة حديثة تكون دولة لمواطنيها، وكان يدرك، كما جاء في بياناته منذ وصوله الى سوريا، أن العروبة يجب أن تكون جامعة يوحد المسلم والمسيحي بل وخاطب من وصفهم بالموسيين ليطمئنوا على مكانهم في الوضع الجديد.

العراق المتعدد قومية ودينية، الذي يتكون من العرب الشيعة والسنة والمسيحيين، ومن الأكراد والتركمان، واقلية آشورية، كان أحوج ما يكون إلى دولة عصرية، ولكن تخلف بناه الاجتماعية كان ولا يزال تحديا خطيرة يواجه هذه الحاجة الحلم. ومن جانب آخر كانت ثنائية الريف والمدينة، والبداوة والتحضر قائمة في قلب كل التكوينات الاجتماعية والدينية والثقافية، ولعل أسوأ مظاهرها كان وجود قانونين أحدهما للريف والبادية وآخر للحضر حتى انقلاب الجيش عام 1958، ويقدم المؤرخ الفلسطيني الراحل حنا بطاطو وصفا تفصيليا وتحليليا مسهبا لهذا اللوح الفسيفسائي، في ثلاثيته المعروفة عن العراق الحديث وتكويناته الاجتماعية وتاريخ الحركات السياسية فيه. كما أن عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي، قد وصف ناقدا ظاهرة البداوة والتحضر في العراق الحديث، ولم يتنبه الباحثون العرب الى خطورة آرائه وأهميتها إلا بعد الكارثة.

يمكن تكوین تصور أقرب الى الدقة التاريخية بالاستناد إلى مؤلفات الاثنين، لقراءة تاريخ العراق الحديث. أراد فيصل جعل الجيش مصهرة أو بوتقة لتشكيل الكيان الجديد، وواجه في هذا الميدان تحديا موضوعيا خلقه الاستعمار البريطاني، فقد كان ما لدى العشائر الاسلحة أكثر من ما لدى الجيش الرسمي، ولكنه رغم ذلك وظف مركزه ومهارته لبناء الجيش والادارة.

كان الدولة الاستقلال كل ملامح الدولة التقليدية، التي لا تختلف في شيء عن الانموذج العثماني، فقد تربى الساسة الجدد في تلك الدولة، وتخرجوا في مدارسها وكلياتها الحربية، و تدربوا في مؤسساتها، واذا كان نوري السعيد، الوجه الأبرز لهذه الطبقة السياسية الجديدة، فإن الآخرين كانوا على شاكلته. وجوهر عدم الاقرار بحق كل المواطنين في الثروة والسلطة أي اقتسامها في ظل دولة لكل مواطنيها.

أصبح الجيش منذ الثلاثينات طرف في النزاع على السلطة، بدلا من أن يكون سياج وحافظا للسلام ال الأهلي، وكان انقلاب بكر صدقي ۱۹۳۹م الذي غامر سياسيون ينادون بالديمقراطية بتأييده بناء على وعد منه بتسليم السلطة الى منتخبين هو الذي شكل السابقة الأولى في أفراد الزعيم الانقلابي بالسلطة، ولم يغادرها إلا مقتولا. وقام الجيش حتى عام ۱۹۶۲ بخمس وعشرين حملة عسكرية على المواطنين في الشمال والجنوب والوسط، أي أن الحكم حتى في ظل وجود حكومة مدنية كان ممارسة عسكرية للسياسة بامتياز، بوساطة حملات التأديب الدموية.

أدى هذا الفشل الذريع في تحويل مجتمع تقليدي الى مجتمع حديث يجعل دور الجيش محصورا في حماية الوطن، ويفرد للسياسة مجالا مستقلا تسود فيه مبادئ وقيم السياسة المدنية، والعقلانية السياسية، أو السياسة العقلية كما كان يصفها ابن خلدون وان بدلالات عصره، الى احتكار القوة المجال السياسي. وهكذا غابت السياسة ليكون الاستبداد العسكري، أسوأ نقيض للسياسة يمكن تصوره ، فالجيش ليس جيشا حديثا يشارك في السياسة داخل مجتمع حديث ، كما كان في اسبانيا مثلا ، بل كان جزءا من الانقلابات التي تسبق المجتمع الحديث ، ويمتد تاريخها في تاريخ الجند وامارة الاستيلاء المعرفية في تاريخنا العربي الإسلامي ، ولأنه مكون من الذين ينتمون إلى ما قبل الحداثة و التكوينات الاجتماعية ، فإنه أصبح حلبة الصراع بين هذه التكوينات فلم يكن الجيش مصهرا سهرة بل ساحة قتال بين أجنحته ، التي نقلت صراعات المجتمع إليه.

وضاعت قضية الشرعية في خضم هذا الاحتكام المجنون الى السلاح، وحلت محلها شرعية القوة، التي تكون دائما ضدا على الحق والحقيقة، وسواء كان الانقلاب موحى به من الخارج كما حدث في انقلاب حسني الزعيم عام 1949 في سوريا أم كان نابعا من داخل الذهنية السياسية المحلية كما في انقلاب بكر صدقي والكيلاني بعد ذلك، فإنه عزز الإيمان بمبدأ القوة بدلا من مبدأ الحق. وهذا حد فاصل بين المجتمعات القديمة والجديدة في التاريخ. إن الجيش باعتماده مبدأ القوة يشل المبادرة الذاتية في المجتمع، ويفرض الطاعة بدلا من الحوار والإقناع، ويرى في الأفراد أدوات لا غايات ووسائل في وقت واحد، وأقل بحث نبيل عن المعني، الذي يحدد دائما مصير الثقافة والمجتمع، ويوكل إلى السلطة الشريعة التنظيم الاجتماعي للمعنى.

أهمية العراق الاستراتيجية والنفط جعلاه في مركز اهتمام القوى الكبرى في مرحلة الحرب الباردة، وتمخضت دوامة الصراع الدولي والعربي عن انقلاب البعث، الذي قال أحد قادته / علي صالح السعدي: إن البعث جاء في قطار أمريكي .. وما هو جدير بالاهتمام هنا هو أن الحزب الذي جاء الى السلطة بالانقلاب، كان حزب أقلية ، ويجمع مؤرخوه أن عدد أعضائه لم يتجاوز ۵۰۰ عضو عندما تسلم السلطة ، بعد استهلال دموي ، وسع دائرة القتل والتعذيب في « قصر النهاية » إلى درجة أسطورية ، تذكر بروايات استوریاس وماركيز عن أمريكا اللاتينية ، وكان الحزب الشيوعي الذي صب عليه البعث نار العذاب والتعذيب حزبا عريقا ويمثل قطاعات واسعة من الجمهور العراقي ، وله حضور قوي في الجيش في مستوى الضباط الكبار والصغار ، ولكنه لم يكن يملك ذهنية انقلابية ، وقام السوفييت بدور حاسم بإقناعه بعدم اللجوء الى الجيش ، لأسباب تعود الى توازنات الحرب الباردة.

الانقلاب العسكري بفرض أقلية مغامرة على تاريخ شعب. ويكون ضعف القائمين بالانقلاب دائما حافزا أساسيا في المغالاة في ممارسة العنف، فهو طوق النجاة الوحيد.

وإذا ما تجاوزنا مراحل تطور البعث في السلطة، فإنه استقر في خاتمة المطاف في سياسة التوجه نحو الأشكال السابقة على الوطن والوطنية .. إلى العشيرة والقبيلة، وأصبح النظام قبل سقوطه المدوي على يد القوات الامريكية الغازية، كياناً متخشب عماده الأسرة الصغيرة، والأسرة الممتدة، والعشيرة. ولم يعرف التاريخ العربي، إلا في أحط عصوره، تركيزا مماثلا للسلطة ومصادر القوة والثروة في يد أقلية بحجم قرية في عراق بعث صدام حسين، الذين حول البعث الى أسرة ومخابرات.

إن كل الشعارات لا تخفي هذه الحقيقة الفاجعة: بلد بحجم العراق ومكانه في تاريخنا أصبح خادما لجنون طاغية ومطالب أسرة ضالة وعشيرة أشد ضلالا. وبدلا من أن ندخل في مدارج العصر الحديث، عدنا إلى عناصرنا الجيولوجية المكونة، وتحللنا حتى العفن إلى عناصرنا الأولية. وكانت ذروة التدمير محليا وإقليميا وعربيا احتلال الجيش العراقي الكويت.

جعل النظام البائد الأغلبية طائفة، وهم شيعة العراق من العرب (60 من السكان) وجعلهم أعداء بالتعريف، وشن حرب إبادة على الأكراد الشركاء في التاريخ والوطن، واستخدم لهزيمتهم غاز الخردل.

إن الأغلبية لا يمكن أن تكون طائفة، ولكن الاستبداد جعلها كذلك، كما أن الأغلبية لا تحتاج الى كل هذا البطش وانطلاق الغرائز، الذي يلازم حكم الأقلية، لأنها تحتمي به من خوف المصير. اذا كان الاستعمار استبدادا خارجيا، فإن الاستبداد استعمار داخلي.

يكفي نظام البعث خزيا أنه جعل الاستعمار منقذا، ولا يمكن ان يفرض على العراقيين، أما الفاشية أو الامبريالية فهو يرفضهما، وعلى البعث أن يبدأ مسيرة استعادة الاستقلال والسيادة من يد المحتل الامريكي الممسوس، الذي ينتدب نفسه لرسالة كونية رسولية .. هي علامة جنونه ومآله الأكيد نحو هزيمة محققة في نيسان 2003.

هامش:

*قرأت بعد كتابة هذه الصفحات في تشرين الأول 2003 في الحياة مقالات لرفعت الجادرجي يدافع فيها عن والده كامل الجادرجي قائلا آن موافقته على انقلاب بكر صدقي كانت خطأ سياسيا وليس مبدئيا، ويبدو لي أنه دليل على هشاشة البداية في وعي الجادرجي. وقد عارض عضو يساري الانقلاب في جماعة الأهالي هو ابراهيم عبدالفتاح وقد كرر سیاسیون عرب بعد ذلك خطأ الجادرجي، الذي أثبت أنه تعلم من تجربته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى