تواجه المهرة صراعين… على الأرض وآخر على الهوية
حيروت – متابعات
على الرغم من موقعها الاستراتيجي كبوابة شرقية للجمهورية اليمنية، إلا أنها ظلت لسنوات من المحافظات المهمشة.
تتميز محافظة المهرة في نواحي عدة، من بينها تمسُّك سكانها بلغتهم الأصلية التي تُعد واحدة من أهم ست لغاتٍ عربيةٍ جنوبيةٍ متبقية منذ آلاف السنين. وتتمتع المهرة بثروات لم يتمّ الكشف عن معظمها، لكن الحرب التي ما تزال تدور رحاها في اليمن، كان لها تأثير على مستقبل الأرض هناك، ومستقبل استمرار التحدث باللغة المهرية. وعزز تحذير منظمة “اليونسكو” من أن “المهرية” لغة مهددة بالانقراض، مخاوف أهالي المهرة من اندثار لغتهم. وهو الأمر الذي دفع الآلاف من المهريين الذين ما يزالون يتحدثون بها، إلى الاهتمام بإنشاء مراكز أكاديمية وتجمعات قبلية بهدف الحفاظ على لغتهم.
منطقة غنية
تُعد المهرة ثاني أكبر المحافظات اليمنية مساحة، حيث تبلغ مساحتها حوالي 67,297 كيلومتر مربع. ومع ذلك، فهي من أقل المحافظات من حيث عدد السكان، إذ يبلغ عدد سكانها 88594 نسمة، يشكلون ما نسبته (0.55%) من إجمالي سكان اليمن. ويتوزع السكان في 9 مديريات، يتجمع غالبيتهم في مدينة “الغيضة”عاصمة المحافظة، وفقًا لنتائج التعداد السكاني لعام 2004.
تحد المهرة من الشمال صحراء الربع الخالي، ومن الشرق سلطنة عُمان، ومن الجنوب خليج القمر والبحر العربي، ومن الغرب محافظة حضرموت، وقد سُميت المهرة بهذا الاسم نسبة إلى “مهرة بن حيدان بن عمر بن لحاف بن قضاعة بن عمرو بن مُرَّة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ”،وغالبة سكان المهرة الأصليين هم من العرب القحطانية، وفقًا لما جاء في كتاب الإكليل” لأبي محمد الحسن الهمداني.
صيد الأسماك والزراعة وتربية الثروة الحيوانية، من أهم الأنشطة الرئيسة التي يمارسها سكان المهرة. كما تقع المحافظة على شريط ساحلي طويل يصل إلى (500) كيلومتر، غني بالأسماك والأحياء البحرية. ويوجد في أراضي المهرة موارد طبيعية وإمكانات اقتصادية متنوعة، حيث تشير المعلومات الأولية إلى وجود بعض المعادن، من أهمها الذهب، والرخام، والجرانيت، والرمال السوداء، وفقًا لموقع “المركز الوطني للمعلومات”. وتشتهر المهرة بأشجار اللبان وصناعة البخور. ويغلب على تضاريسها الطابع السهلي والصحراوي، ويتميز مناخها بأنه حار في فصل الصيف ومعتدل في فصل الشتاء.
لغة حية
يتحدث أهالي المهرة اللغة المهرية بجانب اللغة العربية، وهي لغة غير مكتوبة، يتوارثها أهالي المهرة شفويًا، وتكثر فيها الأشعار والقصص والمساجلات. وتختلف اللغـة المهرية عن العربية، ومن مظاهر هذا الاختلاف وجود خمسة حروف للمهرية لا توجد في العربية، وهي:”ڛ، پ، ڞ،ڟ، چ” (اقترح رسم هذه الحروف باحثو مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث). ووفقًا للباحث والصحفي اليمني عبد الكريم المقالح، فإن اللغة المهرية “تنقسم إلى عدة لهجات، فسكان الشريط الساحلي يتميزون بلهجة خاصة عن سكان مرتفعات الهضبة الوسطى، وهؤلاء أيضًا يتميزون بلهجتهم عن سكان السهل الصحراوي الشمالي؛ وبذلك نجد بعضهم يجيد لهجتين إلى جانب اللغة العربية” .
في منطقة حوف جنوب محافظة المهرة، يحرص الشاب الثلاثيني ناجي بلحاف على أن يتحدث التلاميذ الملتحقين في المدرسة الحكومية التي يديرها، لغتَهم المهرية في فصلهم الدراسي، رغم أن المناهج التعليمية تُـدرّس لهم باللغة العربية.
ويضيف بلحاف: “نحرص على أن تكون اللغة المهرية متداولة على ألسنة الجيل الجديد من أهالي المهرة، فاللغة المهرية تعتبر من خصوصيات الهوية التي نتمتع بها. لكن ثمة أشياء تعرقل مساعينا في الحفاظ عليها، من بينها الحرب الحالية التي جلبت للمهرة آلاف الوافدين الذين نزحوا من عدة محافظات يمنية”.
في ذات السياق يرى المواطن الحمادي المهري أن التنافس بين السعودية والإمارات وعُمان، على التواجد في المهرة، يُعد أهم تحدٍ يواجه لغة وثقافة المهرة. ويقول الحمادي: “قبيل فترة الحرب الحالية كانت المهرة تشهد استقرارًا نسبيًا من الناحية الأمنية، وكان الناس يعيشون فيها حياة بسيطة بعيدًا عن المشكلات والنزاعات السياسية”.
وبحسب المهري، كان عدد من الباحثين غير الأكاديميين من أهالي محافظة المهرة يعملون خلال السنوات الماضية على “تجهيز مؤلفات معنية باللغة المهرية، من بينهم الباحث أحمد بن حريزي، والقميري، وكلشات، لكن جهود هؤلاء لم ترى النور لأسباب غير معروفة”.
في بداية شهر أيلول/ سبتمبر 2016، عكف عدد من الناشطين والباحثين الأكاديميين المنتمين لمحافظة المهرة، على إقامة ندوات وورش عمل، بموجبها تمت بلورة فكرة إنشاء مركز بحثي يُعنى باللغة المهرية تحت مسمى “مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث”، بحسب “خيوط”.
في هذا الصدد قال الأستاذ الجامعي سعيد القميري (وهو أيضًا المدير التنفيذي للمركز): “إن إبراز وترويج الموروث اللغوي لأهالي المهرة بحثيًا وعلميًا، يُعد من أهم أهداف إنشاء المركز، إضافة إلى هدف السمو باللغة المهرية تقديرًا لبقائها على ألسنة متحدثيها، وإثراء المكتبات العربية والعالمية بالدراسات والبحوث العلمية المتعلقة باللغة المهرية وبالتاريخ والتراث المهري، كما يهدف إلى توعية أهالي المهرة بتراثهم اللغوي والتاريخي”.
ويرى أكاديميون في المهرة أن النظام الذي حكم اليمن طيلة 33 سنة، كان يعتقد بأن مفهوم الوحدة هو صناعة هوية واحدة بعيدة عن التعددية، وفيها يتم إخضاع المواطنين لمفاهيم غير قابلة للنقاش؛ بسبب الاعتقاد بأن التعددية خطر يهدد وجودهم، وهو الأمر الذي يفسر إهمال الدولة للغة المهرية، وفقًا لحديث محمد المحفلي، وهو زميل باحث في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة لوند السويدية.
ويقول المحفلي: “يجب الحفاظ على اللغة المهرية، اللغة الحية التي تُعد جزءًا هامًا من تاريخ اليمنيين، ويجب الاستفادةمن تجارب أشقائنا العرب في الجزائر وليبيا الذين انفتحوا على اللغة الأمازيغية بعد أن كانت لغة محظورة هناك. يجب أن تعي النخب الحاكمة في اليمن أنها حينما تهتم بلغة وثقافة جزء أصيل من شعبها وتربطها بلغة البلد، فإن هذا الأمر يعتبر مصدر قوة للدولة”.
أشار القائمون في مركز اللغة المهرية للدراسات والبحوث، إلى أنهم يسعون لتوثيق اللغة المهرية كتابيًا من خلال البدء في تنفيذمشروع كتابة معجم لغوي خاص بمفردات وجمل اللغة المهرية، وهو المشروع الذي يقولون إنه يحتاج لدعم اليونسكو ومنظمات دولية أخرى مهتمة باللغة والثقافة.
تنمية أم احتلال
وبعيدًا عن اللغة التي تميز أهالي المهرة، كان يُنظر للمهرة على أنها منفذ لتهريب المخدرات والسلاح إلى بقية الأراضي اليمنية، بيد أن هذه النظرة تغيرت، كما يقول التربوي ناجي بلحاف، مضيفا أن “محافظة المهرة كانت محرومة من المشاريع التنموية في زمن حكم الحزب الاشتراكي، وفي دولة الوحدة اليمنية، لاعتبارات سياسية ومناطقية”. ويرى بلحاف أن “المهرة اليوم في أفضل حالها اقتصاديًا وتنمويًا بسبب الدعم السعودي للمحافظة، ومحافظها راجح باكريت”. لكن وكيل محافظة المهرة المعين من حكومة الرئيس هادي بدر كلشات يرى عكس ذلك، إذ يقول: إن “المملكة العربية السعودية تسعى من خلال تواجدها في المهرة إلى تنفيذ أجندات استعمارية كانت قد حلمت بتنفيذها، وهي اليوم تقوم بتشييد السجون السرية لاحتجاز الناشطين المهريين المناوئين لتواجدها في تلك السجون، كما عملت السعودية على تشكيل مليشيات مسلحة بعيدة عن الدولة مثل قوات التدخل السريع والشرطة العسكرية التي يصل عددها إلى خمسة آلاف فرد، ويقودها المحافظ الموالي للسعودية راجح باكريت».
وبحسب الوكيل بدر كلشات، فإن “التواجد السعودي بألوية عسكرية كبيرة لا مبرر له في المهرة، على الرغم من أن المسؤولين السعوديين يصرحون أن سبب تواجدهم هو لدعم المشاريع التنموية وإعادة الإعمار”.
ويتهم نشطاء ينظمون اعتصامات دورية لمناهضة التواجد السعودي في المهرة، السعودية بأنها “تحاول السيطرة على منفذي صرفيت وشحن في المهرة، إضافة إلى رغبتها بإنشاء خط لأنابيب النفط إلى بحر العرب، وميناء نفطي في المهرة،”. وعن ذات الأمر نقلت مجلة “ليكسبرس” الفرنسية تصريحًا لحفيد أحد السلاطين الذين حكموا المهرة وهو عبد الله بن عيسى آل عفرار الذي يشغل حاليًا منصب “رئيس المجلس العام لأبناء المهرة”، المناهض للسعودية، حيث يقول ابن عفرار إن “محافظة المهرة كانت تنعم بالسلام قبل دخول القوات السعودية إليها قبل أكثر من عامين، لكن الأخيرة سعت نحو سرقة الأرض لفتح الطريق أمام بحر العرب من خلال إنشاء قواعد عسكرية وتوسيع نفوذها في المحافظة”.
وبعد أن تم إطلاق قناة “المهرة” الفضائية في منتصف ديسمبر2018 من الأراضي السعودية وبتمويل سعودي؛ أُطلقت قناة “المهرية” الفضائية منتصف ديسمبر من العام الفائت 2019.
وكان مسؤول العلاقات الخارجية لاعتصام المهرة أحمد بلحاف، كتب على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي “تويتر” عن هوية قناة المهرية، قال فيه: “هدف القناة أن تضع المتابع والمشاهد وكل المراقبين والمهتمين أمام صورة واضحة لكل ما يجري في المحافظتين [المهرة وسقطرى] من انتهاكات وممارسات الجانب السعودي والإماراتي، “إلى جانب تسليط الضوء على الجانب الثقافي للغة المهرية والعادات والتقاليد”.
يوضح التنافس الدولي والإقليمي المحموم الذي يظهر جليًا للمتابع حول ما يحدث في محافظة المهرة، الأهمية الاستراتيجية التي تتمتع بها المهرة، ومدى تأثير ذلك التنافس على واقع ومستقبل اليمن.