محمد بن سلمان يحارب طواحين الهواء.. حكاية خاتم
كتب /نور الدين برحيلة
استاذ الفلسفة – المغرب
تقول الحكاية والعهدة على الراوي أفلاطون إن الراعي گيگس كان مِثالاً للأخلاق السامية، مُتواضِعاً، خجولاً، نزيهاً، مُكرِّسا حياته للخير، مُحبَّاً للفضيلة، بل إنه الفضيلة تمشي على قدمين، وهذا ما جعله مُقرَّباً محبوباً للملك كاندوس ملك ليديا. وتشاء الأقدار أن يعثر گيگس على “خاتمٍ سحري” يمنحه قوَّة الاختفاء عن الأعين لتنكشف أخلاقه الحقيقية، أخلاق الشر والرذيلة والانحطاط.
هكذا سيدخل گيگس القصر المَلَكي، بعدما منحه “الخاتم” سُلطة الاختفاء، التي حجبته عن عيون الحرس المَلَكي ليقتحم غرفة الملك، ويقوم بقتله و”خَشْقجته” بطريقةٍ وحشيّةٍ، ويتزوَّج المَلِكة الجميلة الفاتِنة مُعتمِداً على سُلطة “الخاتم” الذي هو كناية عن الأخلاق الميكيافيلية التي تشجّع “الأمير” على المُكر والعُنف والخِداع في سبيل الحصول على السُلطة والمُحافَظة عليها.
غَداة حصول محمَّد بن سلمان على “خاتم” ولاية العهد انكشفت بوضوحٍ طموحاته الجارِفة وتحوَّل من شابٍ خجول وأميرٍ مغمورٍ في عالم السياسة، إلى “سُلطان” يعشق الفتوحات والمُغامَرات والبطولات والمؤامرات.
اليوم اتّضحت الصورة بجلاءٍ بخصوص سياسة وليّ العهد محمّد بن سلمان، بمُجرَّد ما وضع “خاتم گيگس” في أصبعه، تحوَّل على غرار الراعي گيگس الذي كان خجولاً مُتواضِعاً، قبل حصوله على “خاتم السُلطة” إلى شخصٍ أَرْعنٍ لا يستمع إلا لنزواته وصوته فقط، وانجلت طبيعته الحقيقية في التسلّط.
النيران الحارِقة التي أضْرَمَها وليّ العهد في مطبخ السلطة في السعودية، وصلت ألْسِنَة لهيـبِها إلى أقرب المُقرَّبين، وبتعبيرٍ دقيقٍ إلى القريب والبعيد والصديق والغريب، بدءاً بإعفاء وليّ العهد السابق محمّد بن نايف الذي كان إبن سلمان بالأمس القريب يُقَبِّلُ يدَه عن ظهر كفٍّ، حين كان يحتلُّ المرتبة الثانية في ولاية العهد (وليّ وليّ العهد) وصولاً إلى اعتقاله بمعيّة عمّه أحمد بن عبدالعزيز، ناهيك عن سلسلةٍ طويلةٍ من اعتقال أبناء العائلة والعمومة والخؤولة. وهنا يتبادر في ذهني سؤال مشروع: كيف سيعامل “أمير” عامّة الشعب وهو يواصل اعتقال أقرب الناس إليه بضميرٍ مُطمئّن؟
بمجرَّد إزاحة وليّ العهد محمّد بن نايف، واستحواذ محمّد بن سلمان على “خاتم” ولاية العهد، شَرَعَ في تنفيذ العديد من الإجراءات الإصلاحية ضمن ما يُسمَّى المشـروع التنموي الضخم “رؤية السعودية 2030″، ومن أهمّ هذه الخطوات على المستوى الداخلي، تمكين المرأة السعودية من باقةٍ حقوقيةٍ مُتنوِّعة، كالحق في الحصول على بطاقة الهوية! والحق في قيادة السيارة -لا قيادة الدولة-، وأهم حق هو الحق في ولوج الملاعِب وأماكن الترفيه عن النفس بالسَمَر والسَهَر، والمرونة في قواعد اللباس وغيرها من وسائل الإلهاء عن الإصلاح الحقيقي المُتمثِّل في إنجاز المشـروع الديمقراطي وبناء دولة القانون والمؤسَّسات والكفاءات، وليس دولة الهَيْمَنة والأشخاص والمؤامرات.
من الحقائق البديهية استفحال الفساد في العالم العربي، ومُحارَبة الفساد لن تنجح بأدواتٍ فاسِدة، وهذا ينطبق على لجنة مُكافَحة الفساد التي يترأسها وليّ العهد إبن سلمان، والتي تحوَّلت إلى “هولوكست” لتصفية الحسابات مع الخصوم.
مُحارَبة الفساد تكتسـي مِصداقيّتها من مبدأ الحياد، وتشكيل لجنة من خيرة القُضاة ومحامين وحقوقيين وخُبراء في القانون والمُحاسَبة والاقتصاد وغيرهم من النُخَبِ النزيهة، ومَنْح اللجنة ضمانات دولية لإنجاز مهامها باستقلاليةٍ تامةٍ، من دون وصايةٍ أو تهديدات.
محمَّد بن سلمان يستخدم “خاتم السُلطة” بارتجاليّةٍ واندفاعٍ غير محسوبي العواقِب بطريقةٍ لا تُخطئها العين سيما في السياسة الخارجية، التي تنبني على قواعد الدبلوماسية وقاعدة صفر مشاكل مع دول الجوار وتمتين الروابِط مع الأصدقاء لا الأعداء، وهي ركائز السياسة الخارجية الحكيمة التي أخفاها دُخان الحرائق المجانيّة التي أضرمها وليّ العهد في الجارة الفقيرة اليمن، ومحاولة فَرْض الحِصار الفاشِل على دولة قطر وما أفرزه من تدميرٍ لمجلس التعاون الخليجي.
أيضاً محاولة مُمارَسة الوصاية على السيادة اللبنانية، وهنا يحضرني تصـريح المدير المُساعِد للمعهد الفرنسـي للعلاقات الخارجية والإستراتيجية ديديي بيليون الذي قال في إشارةٍ لواقعةِ سعد الحريري “إن إرغام رئيس وزراء دولة ذات سيادة على الإستقالة يُظهِر محدوديّة تفكير إبن سلمان الإستراتيجي”، مُضيفاً “إن أميركا لا تتماهى مع مواقف رئيسها دونالد ترامب، لذلك فحسابات وتقديرات إبن سلمان خاطِئة حين ظنّ أن أميركا ستؤيِّد خطواته”، والخطير أن المنطقة تتقاذفها حِمَم بُركانية، ووليّ العهد مُتورِّط في مآسيها، كتدميرسوريا وتخريب اليمن، ناهيك عن محاولة زَلْزَلة لبنان، وصولاً إلى صَوْمَلة ليبيا.
لقد أساء وليّ العهد استخدام “خاتم السُلطة” وهو ما فعله الراعي گيگس كما أشار إلى ذلك الفيلسوف أفلاطون في كتابه “الجمهورية”، غير مُدْرِك لعواقِب أوْهام المجد الدونكيشوتي، وشنّ الحروب على طواحين الهواء والغَرَق في النزيف والجِراحات التي لن تندمل مع الأشقاء وأبناء العمومة ودول الجوار.
المشهد أشبه بأهمِّ عملٍ روائي للروائي الإسباني الكبير ميخائيل دي سرفانتس، إنها رواية “دون كيشوت” حيث يعزم بطل الرواية دون كيشوت القضاء على ما يتوهَّم أنهم أشرار لتتنامى أوهامه، التي دفعته إلى خوضِ معــركةٍ طاحِنةٍ، بُغية ملء القضاء على الأعداء. هكذا سيشــرع دون كيشوت في مُبارزة طواحين الهواء، التي رفعته عالياً وألقت به على الأرض مُهشَّماً مُحطَّماً، ليستفيق من هَوَسِه “الوَهْمي” بعد فوات الأوان.
تُعلّمنا العلوم السياسية أن السياسة عِلم له قوانينه المُنتجِة والمُتحِكمّة في الممارسة السياسية وتدبير السُلطة، والمُفكِّرة الفرنسية جاكلين روس تُرشِد الفاعِل السياسي أن يعتمد على عَقْلَنة السَلطنة والرِهان على قوَّة القانون، لا قانون القوَّة، واحترام المواطِن وصَوْن كرامته الإنسانية، بل إن ميكيافيلي الذي فصل المُمارَسة السياسية عن القِيَم والأخلاق، ينصح “الأمير” أن يُزاوِج بين التظاهُر بالقِيَم الأخلاقية كالرَحمة والعدالة والاستقامة، وألا يُفرِّط في استخدام القوَّة. وقالها بوضوحٍ “الذي يريد أن يكون أسداً فقط، لا يفهم في السياسة شيئاً”.
خِتاماً تراجيديا اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، بتلك الطريقة الوحشيّة، ودَفْع مليارات الدولارات لأميركا كجزيةٍ مُخزِية. خاشقجي مَفْخَرة العالم العربي وأيقونة الصحافة العربية، لن يكون ثمنه فقط أساطيل النفط والاستثمارات التي تمنح هدية لأميركا، وتقتطع من معيش الشعب السعودي الطيِّب. الثمن ستكشفه الأيام القادِمة، سيما وأن عدد الأبرياء رجالاً ونساء، شباباً وأطفالاً، من رجالِ دينٍ صادقين، مُفكِّرين ومُفكِّرات، مُناضلين ومُناضِلات، الذين يئّنون ويصرخون في غياهِب ظُلُمات السجون. حتماً العدالة ستتحقَّق.. وهذا أهمّ درسٍ يُعلّمنا إياه التاريخ.
المقالة تعبر عن رأي صاحبها “حصراً”