لماذا صعّدت صنعاء وتيرة عمليّاتها باتجاه مأرب والسّعودية؟ بقلم/ علي ظافر
بقلم/ علي ظافر
لماذا “صعدت” صنعاء وتيرة عملياتها العسكرية باتجاه العمق السعودي ومأرب، بعد تصريحات واشنطن تجميد دعهما للسعودية والإمارات؟ ذلك هو السؤال المحيّر لكثير من المراقبين والمحللين، والشغل الشاغل لوسائل الإعلام.
يبدو أنَّ قرار حسم المعركة في مأرب قد اتخذ. ذلك ما أوحى به اجتماع عسكري استثنائي ضم قيادة هيئة الاستخبارات العسكرية وقيادات وزارة الدفاع قبل أيام في العاصمة صنعاء، لمناقشة آليات حسم المعركة في مأرب. ويعزز ذلك التقدم الميداني المستمر للقوات المسلحة التابعة لصنعاء (الجيش واللجان الشعبية) باتجاه المدينة، رغم القلق والتنديد الدولي، ولاسيما الأميركي والبريطاني.
وعلمتُ قبل كتابة هذا المقال من مصادر مطّلعة أنَّ معارك الأيام الماضية توّجت باستعادة ما يقارب 35 كم مربع في مديرية صرواح، ثاني أكبر المديريات في المحافظة النفطية، وباتت طلائع الجيش واللجان الشعبية على مسافة أقل من 10 كيلومترات من عاصمة المحافظة. وتشير المعلومات إلى أن خسائر المرتزقة في الأرواح تجاوزت 2600 بين قتيل وجريح وأسير.
وعلى خطٍّ موازٍ، تواصل القوات المسلحة اليمنية استهداف المطارات والقواعد العسكرية جنوب المملكة العربية السعودية، وسط توقعات بتوسع دائرة النار إلى ما بعد جدة، إذا استمر القصف السعودي ومنع وصول المشتقات النفطية إلى ميناء الحديدة. ولا نستبعد أن تدشّن صنعاء “مراحل الوجع الكبير”، كما وصفها رئيس المجلس السياسي الأعلى وقائد القوات المسلحة المشير مهدي المشاط.
توحي التطورات العسكرية بأن مقاربة صنعاء مختلفة وصادمة ومخالفة تماماً للمقاربات التي سادت في الأوساط الدبلوماسية والسياسية والإعلامية بأن تحولاً أميركياً وشيكاً سيحصل، لناحية إنهاء الحرب في اليمن بعد صعود الديمقراطيين برئاسة جوزيف بايدن، وأنَّ واشنطن قد تقارب الملف دبلوماسياً وسياسياً بعد وصولها إلى قناعة مفادها أن الخيار العسكري لم يعد مجدياً ومثمراً، وأن الحسم لصالح واشنطن وحلفائها بات مستحيلاً في حرب قاسية توشك على دخول عامها السابع بعد شهر ونصف الشهر من الآن.
يستند التقدير الأميركي ربما إلى مراجعة فشل السنوات الست الماضية، فقد وُظفت لإنجاح الحرب كل وسائل القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية منذ عهد الرئيس الأسبق بارك أوباما، الذي كان بايدن نائباً له وجزءاً من فريق الحرب الذي منح السعودية ومن معها من دول التحالف الضوء الأخضر لشنّ حرب عدوانية شرسة على اليمن.
وكان التقدير حينها بأن الحسم لن يستغرق سوى بضعة أسابيع أو ربما بضعة أشهر، وهو ما دفع التحالف بقيادة السعودية إلى وضع ثقله العسكري والمالي في الأشهر الأولى من الحرب، ودفع واشنطن وحلفاءها الأوروبيين إلى تقديم الدعم الاستخباراتي واللوجستي، وإرسال خبراء ومستشارين لإدارة غرف عمليات التحالف العسكري، غير أنَّ ذلك الرهان والتقدير الخاطئ اصطدم بوقائع مختلفة، وحال دون تحقيقه صمود تاريخي وأسطوري يمني، عسكرياً وشعبياً وسياسياً ودبلوماسياً، ما دفع أوباما في نهاية عهده إلى ما يمكن توصيفه بمراجعة الحساب، فأرسل وزير خارجيته جون كيري لقيادة دفة تفاهمات مسقط، التي طرحت خلالها أميركا مشروع حلّ سياسيّ يتمثل بالتوافق على تشكيل حكومة وحدة وطنية من أفرقاء الحرب والسياسة يمنياً، على أن يكون “أنصار الله” طرفاً فيها، مع الرضا الأميركي على إزاحة عبد ربه منصور هادي عن المشهد السياسي كلياً، فقبلت صنعاء، ورفض حلفاء الرياض المحليون، وانتهت فترة أوباما، ولم تنجح خطة كيري التي كان هدفها الأساس الحفاظ على مصالح واشنطن وتحجيم “أنصار الله”.
مع صعود الجمهوريين بقيادة الرئيس الأميركي السابق، صعد ترامب في العام 2017، أي قبل نهاية السنة الثانية من الحرب، وانتهج أسلوباً مغايراً، مع الإبقاء على الاستراتيجية الأميركية في تحجيم أو ربما محو “أنصار الله” من الخارطة العسكرية والسياسية، وغلب بعقليته الاقتصادية “استراتيجية الحلب مقابل الحماية”، فذهب إلى توقيع صفقات تسليح كبيرة جداً مع السعودية والإمارات تحديداً.
وفي عهده، بلغ التصعيد العسكري ذروته، وحصدت الآلة العسكرية أرواح الآلاف من اليمنيين، وانتُهجت سياسة العقوبات القصوى، وخصوصاً في الجانب الاقتصادي، فنقلت وظائف البنك المركزي من العاصمة صنعاء إلى عدن، التي أعلنوها منذ ذاك الوقت “عاصمة مؤقتة”، وجمّدت أرصدة اليمن في الخارج، وفُرضت قيود صارمة على النظام المصرفي، ومنعت البنوك الخارجية من التعامل مع البنك المركزي في صنعاء، كما فرضت “قيود قاسية”، أو بالمعنى الأدق، حصار خانق على الواردات التجارية إلى ميناء الحديدة الذي دخل حالة من الشّلل، إلى جانب إغلاق مطار صنعاء. وفي آخر عهده، أصدر وزير خارجيته مايك بومبيو قراراً بتصنيف “أنصار الله” منظمة إرهابية أجنبية. كل ذلك بهدف الضغط القاسي على صنعاء وإجبارها على الخضوع والاستلام.
خلفيات إعلان بايدن
في حملته الانتخابية، وفي أول خطاباته وأيامه الأولى، جعل الرئيس الأميركي جوزيف بايدن الملف اليمني في أولوياته، وأعلن وقف دعم بلاده وتجميد صفقات الأسلحة للسعودية والإمارات، وتظاهر بحرصه على إنهاء الحرب في اليمن، وألغى قرار إدارة ترامب تصنيف “أنصار الله” منظمة إرهابية أجنبية، ما اعتبره بعض المحللين والمراقبين مؤشرات إيجابية، غير أن البعض الآخر يضعون عدداً من الفرضيات بصفتها خلفيات قد تكون أكثر واقعية لإعلان بايدن.
أبرز تلك الفرضيّات أن الإدارة الجديدة التي كانت جزءاً من إدارة أوباما تعمل على استكمال “خطة كيري”، وتريد التواري عن الظهور الفاقع في مشهد الحرب والهروب من التبعات، من خلال اعتمادها “استراتيجية القيادة من الخلف” وتغليب المسار الدبلوماسي، بناء على قناعتها بأنَّ الحرب باتت مكلفة وغير مجدية، وأن التقدير الأميركي حالياً يرى أن إطالة أمدها، رغم قساوة تبعاتها الإنسانية، باتت تصب في مصلحة صنعاء، وتحديداً “أنصار الله”، في ظل توسعهم ديمغرافياً، وقوة حضورهم عسكرياً وسياسياً، وتنامي قدراتهم العسكرية، وهي قدرات أثبتت فاعليتها وقوة تأثيرها عملياً، وباتت تحرج واشنطن وحلفاءها، بسبب فشل منظوماتهم في اعتراض المسيّرات والصواريخ الدقيقة.
وهنا نستحضر، على سبيل المثال لا الحصر، ضربة “أرامكو” في 14 أيلول/سبتمبر 2019، والّتي استهدفت بقيق وخريص، وهي ضربة سمع بها القاصي والداني، وعطّلت نصف واردات السّعودية من النفط، وهزّت الاقتصاد السعودي، وأحدثت هزة جيوسياسية في سوق النفط العالمي.
إلى جانب هذه العوامل، لا يمكن أيضاً إغفال العامل الداخلي في واشنطن، في ظل صعود أصوات مندّدة بالحرب من الجمهوريين والديمقراطيين، وخصوصاً جناح اليسار، الذي يمثله السيناتور بيرني ساندرز المعارض بشدة للحرب على اليمن، إضافة إلى بروز تحديات داخلية قد تدفع الإدارة الجديدة إلى الانكفاء إلى الداخل ومحاولات تبريد بعض الملفات الخارجية، ومن بينها الملف اليمني والملف النووي الإيراني، وهو ما دفع بايدن ربما إلى تجميد صفقات التسليح مؤقتاً، وإلغاء قرار تصنيف “أنصار الله” منظمة إرهابية، تحت ضغط الملفات الإنسانية ومطالبات المنظمات الدولية العاملة في هذا المجال، وتحت ضغط الحاجة للعودة إلى المسار السياسي، في ظل بروز قناعة بعدم جدوائية الحرب العسكرية.
مقاربة صنعاء
في المقابل، إنّ صنعاء ليست غافلة عن هذه المعطيات والتقديرات، وتعدّ مقاربتها “ذكية”، وهي تمضي في مسار الدفاع، وتنظر بعين الريبة والشك إلى توجهات إدارة بايدن، بل تعتبر أنها تأتي في سياق الخداع السياسي، وأن الإدارة الجديدة تعطي بالقول ما لا تعطيه بالفعل، وخصوصاً أن مسار الحرب لم يشهد أي تغير ميداني من قبل التحالف، فالغارات بالوتيرة نفسها، وبمعدل 20 إلى 30 غارة يومياً، والحصار ما يزال على أشده، فمطار صنعاء مقفل، والمعابر البرية إما معطلة وإما تحت سيطرة التحالف، وميناء الحديدة معطّل، ولا يسمح بوصول السفن التجارية إليه.
كلّ ذلك يلقي بظلاله الثقيلة إنسانياً على قرابة 80% من سكان اليمن المتركزين في مناطق سيطرة المجلس السياسي الأعلى وحكومة الإنقاذ، ما دفع الأخيرة إلى الإبقاء على مسار المواجهة والعمليات الدفاعية، وتصاعد العمليات العسكرية البرية باتجاه مأرب، والعمليات الاستراتيجية باتجاه القواعد العسكرية والمطارات التي تستخدم لأغراض عسكرية جنوب المملكة، متمسكةً بمطلب وقف العدوان والحصار كشرط أساس لوقف عملياتها التي وصفها رئيس الوفد المفاوض، محمد عبد السّلام، بأنها عمليات “دفاعية بحتة”، علماً أنَّ صنعاء لا ترفض السلام، ولا ترفض الجلوس إلى طاولة المفاوضات، لكن بعد أن يتحقّق شرطها الأساس، ما يعني أيضاً أن تصاعد وتيرة عملياتها على الأرض تحديداً يهدف إلى تحسين شروط التفاوض على الطاولة، إن آلت الأمور إلى ذلك، وجنح التحالف إلى السلم بوقف الحرب ورفع الحصار كبادرة أولى.
إلى جانب المعطيات والمبرّرات الواقعية لصنعاء، فإنّ عدم ثقتها بواشنطن يستند إلى تجارب تاريخية عدة، أبرزها الملف النووي الإيراني الذي انسحبت منه والمفاوضات الفلسطينية على مدى عقود. ومن طباع الأميركيين أنه كلّما وقّع فريق اتفاقاً، جاء الفريق التالي لينقضه، وبالتالي فإن صنعاء ترفض الدخول في مفاوضات عديمة الجدوى طويلة الأمد وتحت الحرب والحصار، وهي من أجل ذلك تتمسك بشروطها قبل الدخول في أي تفاوض، وتتمسك بخياراتها لتحسين شروط التفاوض إن حصل، وهو ما يفسر تصاعد العمليات في العمق السعودي بالتزامن مع خوض معارك برية شرسة لاستعادة مأرب النفطيّة.