الإعدامات الجماعية في السعودية… أحدث تقرير عن الإعدامات بصبغة سياسية
موسى السادة
الإعدامات في السعودية، فردية كانت أم جماعية، متشابهة. فقرار الإعدام ليس نتاج آلية عمل جهاز قضائي يمتلك لوائحَ وقوانين تصدر وفقها العقوبة. بل كان ولايزال أحد سبل توجيه الرسائل السياسية أولاً، وإثبات “هيبة” السلطة في حفظ الأمن بوجه “الإرهاب”، أو تثبيت شرعيتها الدينية في تطبيق الحدود.
بداية كل عام جديد، تعود للحضور الذكرى السنوية للإعدام الجماعي الذي وقع في مثل هذه الفترة، بعد سنة من توّلي الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم في السعودية.
الإعدامات في المملكة، فردية كانت أم جماعية، متشابهة. فقرار الإعدام ليس نتاج آلية عمل جهاز قضائي يمتلك لوائحَ وقوانين تصدر وفقها العقوبة. بل كان ولايزال أحد سبل توجيه الرسائل السياسية أولاً، وإثبات “هيبة” السلطة في حفظ الأمن بوجه “الإرهاب”، أو تثبيت شرعيتها الدينية في تطبيق الحدود.
رصيدٌ من الرؤوس كرسائل سياسية
توقيت أيّة عملية إعدام مرهون بالرسالة السياسية المراد إيصالها. وفي السنوات الأخيرة خصوصاً، وُجِد خزان بشري من الرؤوس الجاهزة للقطع في أيّة لحظة، وفقاً “لمتطلبات المرحلة”. آخر عملية إعدام جماعي شهدتها المملكة كانت في 23 نيسان/ أبريل من العام 2019، حين، ووفقاً لوزارة الداخلية السعودية، أعدمت السلطات 37 شخصاً بقطع الرأس، وصلبت جثتين، في توقيت كان الهدف منه “الرد” على هجوم لتنظيم داعش على مركز للمباحث في مدينة الزلفي، كان قد سبق الإعدام بيومين بالتمام. وحدث ذلك بينما الغالبية العظمى من المعدومين لم يكونوا مرتبطين بتنظيم القاعدة، بل كانوا معتقلين ومدانين على خلفية التظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها المنطقة الشرقية من السعودية منذ عام 2011.
ويمكن أن يغرف من خزان المحكومين بقضايا جنائية (مخدرات واغتصاب…) وأولى ضحايا هذه الرسائل المراد إيصالها هم المقيمون الأجانب، وخصوصاً من أبناء الجنسيات الشرق آسيوية. وللبرهان على سطوة الدولة وقدرتها على حفظ الأمن و”الانتقام للضحية”، كما في مشهد صلب وتعليق خمسة يمنيين بتهم السرقة وقتل مواطن عام 2013، نُفّذ أمام الملأ في مدينة جيزان الحدودية مع اليمن بالغةِ الحساسية.
وتوضح بيانات وزارة الداخلية التي تلي عمليات الإعدام ذكر المناطق المختلفة التي نُفّذت فيها، لتشمل الرسالة الجميع.
الإعدام بناءً على “محاكمة إعلامية”
تختلف الآلية القضائية في محاكمات القصاص عند قتل سعودي لسعودي آخر، مع شرط عدم وجود حساسية مناطقية أو طائفية (كاختلاف الطائفة بين الجاني والمجني عليه)، فيتم تعيين المحامين والمقاضاة وفقا للأدلة والقرائن. أما في حال وجود بعد سياسي للقضية، أو في حال كان الجاني من المقيمين ومن مواطني إحدى الدول الفقيرة، فيمسي جُرم المقيم “قضية رأي عام”، وتتساوى “المسارات القضائية” بين المقيم وبين “الإرهابي”، سواء كان مرتبطاً بتنظيم القاعدة أو كان “خارجاً على طاعة ولي الأمر”…وهي تهمة فضفاضة يمكن أن تُلبَس على أي نوع من الخطاب السياسي المعارض في المجال العام.
المسارات القضائية هنا تتساوى في انعدام الضوابط، منذ لحظة الاعتقال إلى التعذيب في التحقيق والاستجواب، وصولاً للنطق بالحكم. ويُخَلق مسارٌ قضائي جديد، موازٍ، مسرحه الإعلام والتحشيد الإعلامي للدولة لصوغ التهم ورسمها وكيفية تشكيلها للرأي العام، ثم الحكم على المتهم وفقاً لها،وليس وفقَ ما يقال في قفص المحكمة. وأحد أكبر الأمثلة على ذلك هوالإعدامات الجماعية الأولى في عهد حكم آل سلمان، والتي نُفّذت في مثل هذا الوقت من عام 2016 وأعدم فيها المعارض السياسي، رجل الدين البارز، نمر باقر النمر.
إعدام الشيخ النمر
تعكس عملية إعدام النمر أوجهاً متعددة من سياسة الدولة في الإعدامات، فالرجل قُتل على خلفية خطبه في مسجده في قرية العوامية، والتي تعرض فيها بالاسم لأفراد من الأسرة الحاكمة، الأمر الموجِب للقتل للسلطة السعودية. فالنمر، بعد ناصر السعيد (معارض سياسي سعودي من آل شمر ومن منطقة نجد، ناصري الهوى، اختطف من شوارع بيروت في 1979، وقيل أن جثته ألقيت من طائرة قرب الشواطئ اللبنانية) هما الوحيدان اللذان تجرَّآ على الهجوم على أمراء آل سعود.مقالات ذات صلة
الغدر!
الأمر الآخر هو المحاصصة الطائفية. فإعدامات كانون الثاني/ يناير 2016 هي الأولى من نوعها من حيث تنوعها الطائفي. بل أعدم في وقت واحد رجلان كانا يحملان اسم “نمر”: نمر النمر و نمر البقمي. والأخير شارك في عملية استهداف سفارات أجنبية في الرياض عام 2004. أتباع السلطة اعتبروا ذلك إنجازاً إذ حاصصت السلطة بين النمرين المختلفين طائفياً، لتبلغ “العدالة” الجميع!
لم تقطع السلطة السعودية رأس النمر والشباب الذين معه (محمد صوميل، علي آل ربح، محمد الشيوخ) على خلفية تهمهم المزعومة، وكان مسار المحاكمة مثالاً لانتهاك أبسط الحقوق. فقد نشرت المنظمات الحقوقية نسخاً لصكوك أحكامهم يذكرون فيها للقاضي تعرضهم للتعذيب لانتزاع الاعترافات منهم. بل إن علي آل ربح اعتقل من مقاعد الدراسة الثانوية وهو لا يزال طفلاً بنظر القانون. كانت الخلفية التي أعدموا بناءً عليها ترتكز إلى الحملة الإعلامية التي صورتهم كمسلحين قادوا حراكاً مسلحاً ضد الدولة. وقد تلت عملية الإعدام حملة إعلامية كبيرة تبارك المجزرة، شارك فيها كثيرون، بعضهم في المعتقل الآن، وتطلب النيابة العامة السعودية إعدامهم اليوم.
كانت محاكمة النمر شبيهة بمحاكم التفتيش. فقد سُئِل الرجل عن معتقداته الدينية وإيمانه العقدي، ولم تتعلق المحاكمة بأيٍّ من التهم الإعلامية الموجه له، كالحض على العنف واستخدام السلاح.. فلائحة الدعوى على الشيخ استفتحت بـ”فقد ثبت لدينا إدانة المدعى عليه نمر بن باقر ال نمر بإعلانه عدم السمع والطاعة لولي أمر المسلمين في هذه البلاد، وعدم مبايعته له، وتحريض العامة على ذلك”. وعند سؤال أحد القضاة في المحكمة الجزائية المتخصصة، ممثل المدعي العام عن بينته لعرضها ومناقشتها قال: “الدليل الأول ما جاء في إقراره وأقواله المرفقة في أوراق القضية”.مقالات ذات صلة
عن المعارضة السعودية في فصلها الجديد
سجل المدعي العام اثنين وثلاثين إقراراً على الشيخ النمر، وصاغها صياغة تخدم الإدانة المسبقة للشيخ. ويعلق النمر على ذلك: “لقد لُبِّست كثيراً من الإقرارات بلفظ الشيعة مع أني لم أذكر ذلك اللفظ إلا نادراً، وكثيراً ما كان اللفظ هو”المجتمع” ولكن هيئة التحقيق والادعاء العام قامت بزج لفظ الشيعة وإقحامها لكي تصنع مادة طائفية قابلة للاشتعال، بل لتثير الفتنة الطائفية وتذْكيها. وهكذا أُسست كثير من دعاويها على أساس طائفي لإثارة النعرات الطائفية وإذكائها.الغريب في الأمر أن المحقق يسألني عن رأيي وحينما أجيبه عن رأيي – وإذا كان رأيي لا يوافق هوى الداخلية – يعتبر رأيي تهمة لا بد من محاكمتي عليها ومعاقبتي”. وتتنوع إقرارات نمر النمر بإقرارات تسجل في التاريخ:
“أقر أنا المدعو نمر باقر أمين النمر، سعودي الجنسية بموجب الهوية الوطنية رقم (1080470147) وأنا بكامل قواي العقلية المعتبرة شرعاً، بما يلي: أقر أنَّ جميع الخطب والبيانات التي صدرت عني كانت بمحض إرادتي وعن قناعة تامة مني، وأنني لست نادماً على ذلك، أقر بأنني من المهتمين بما حدث في مملكة البحرين من مظاهرات، أقر أنَّ حكومة هذه البلاد لا تمارس دورها الرعوي، وإنما تكرّس دورها في التسلط على مواطنيها بشكل عام، أقر أنه لا سمع ولا طاعة لمن يسلب حريتي ويسلب أمني، أقر أنَّ الدولة ليست أهم من كرامتي بل أنَّ حياتي أيضاً ليست أهم من كرامتي! أقر بأنني لن أتجاوب مع أي سؤال لا أرغب الإجابة عليه، وأنَّ ذلك نابع من معتقدي الشرعي ومن اعتدادي بنفسي وقناعتي، وأنَّ الخيار يعود لي في الإجابة على ما أرغب أن أجيب عليه”.
تفاصيل
بعد صدور حكم الإعدام على أي فرد، يُعلّق تاريخ التنفيذ ويبقى غير معلوم، ما ينعكس بوطأته الكبيرة على المحكوم وأهله. ففي كل زيارة لا يعلم الأهل إن كانت هي الأخيرة، وفي كل صباح لا يعلم المحكوم إن كان هذا يومه الأخير. تغرّد أم علي النمر وهو متهم بقضية حدثت قبل بلوغه الثامنة عشر، بأنها في كل أسبوع، عند تلقيها اتصالاً من ابنها، لتعلم العالم أنه لا يزال حياً.
بالنسبة للمحكومين بالإعدام في سجن الباحث في الدمام، ينادى عليهم في الصباح بعد استيقاظهم ليوم عادي ليستقلوا الباص ثم لينقلوا إلى السجن العام في المنطقة. وقتها يقفون على حقيقة أنه يوم قتلهم. وفي الجهة المقابلة من السجن العام في الدمام، يطل أحد العنابر على الساحة الرئيسية فيه، فيفرّغ ذلك العنبر يومها ليعلم النزلاء أن هناك إعداماً سيحصل اليوم. يوزع المعدومون على غرف صغيرة متباعدة، ثم يفصل بين إعدام كل واحدٍ منهم 15 دقيقة. يُخرج من الغرفة ويُطلب منه كتابة وصيته. ووفقاً للأهالي، فمعظم الوصايا تكون حول قضاء ديون والطلب أن يُحج باسمه. هذه الوصايا، كما الجثث، لا تسلم لذويها، في مشهد لا يتكرر إلا في دولة الاحتلال الصهيوني. بعد ذلك يُسمح له الصلاة ركعتين ثم يقطع رأسه. و إن كان محكوماً بـ”حد الحرابة” يقتل رمياً بالرصاص في الرجل ثم الكتف ففي الرأس ليُجهز عليه.
خاتمة
اتخذت الإعدامات في عهد الملك سلمان كماً ونوعاً مختلفين. فالأرقام تتوزع كالتالي: 157 إعداماً عام 2015، 154 عام 2016، 146 عام 2017، 149 عام 2018، لتصل إلى أقصاها عام 2019 بـ164 معدوماً، كلها نُفذت بمرسوم من الملك يحمل توقيعه. ولا يزال العديد من المعتقلين في ممرات الإعدام، أبرزهم رجل الدين سلمان العودة، والباحث المؤرخ حسن فرحان المالكي، والعديد من الأطفال.
تمثل عمليات الإعدام أكثر أوجه السلطة السعودية توحّشاً. ولا يلوح في الأفق أنَّ هناك أيَّ نوع من نية التراجع عنها. فكلما تأزمت السلطة لجأت إلى الإعدامات ظناً منها أنَّ ذلك يعكس القوة ويثير الرهبة. وسياسات الحكم السعودي الحالي حُبلى بالأزمات،ما يشي بأنَّ نهر الدم لن يجف.
السفير العربي