سليماني … نسَّاج المشرق المقاوم !! بقلم/أحمد الدرزي
حيروت – بقلم/ أحمد الدرزي
أدركت القيادة الإيرانية طبيعة المخططات الأميركية للمنطقة باكراً قبل احتلال العراق، ما دفعها إلى التفكير في تحويل هذا التهديد إلى فرصة من أجل حياكة مشرق خارج الهيمنة الأميركية.
شكَّلت كلٌّ من بلاد الرافدين، بلاد الشام، وادي النيل، هضبة الأناضول، والهضبة الإيرانية، محوراً لحركة التاريخ مما يزيد على 5 آلاف عام، فمنها بدأت الحضارة الإنسانية، وفيها تشكَّلت ملامح الدول وظهرت أولى الإمبراطوريات العابرة لمناطق واسعة في القارات الثلاث وفقاً لذاك الزمن.
وتناوبت السيطرة عليها إمبراطوريات متعددة، لتعبّر عن حيوية المنطقة ككلّ كمركز لصناعة الحضارات المتتالية، بتداخل ثقافي متنقل من منطقة إلى أُخرى بشكل تراكمي، حيث لا يمكن الفصل في ما بينها بحكم التداخل الشديد لحركات شعوبها وما تحمله من تبادل للثقافات بألوان خاصّة بكلّ منطقة.
استمرت هذه المناطق في سيطرتها على حركة التاريخ حتى مطلع القرن الثامن عشر، حين بدأ انزياح الفعل الحضاري نحو الغرب، بعد أن استطاع هضم خلاصة حضارات هذه المنطقة، وأنتج ثورة معرفية متسارعة ومتوسعة أتاحت له السيطرة والهيمنة على حركة التاريخ في القرون الثلاثة التالية، مترافقة بهواجس لم تفارقه، خشية عودة هذا الشرق إلى ذاته، وإعادة إنتاج نفسه بصيغة جديدة يتصدر من خلالها المشهد العالمي، بما ينهي هيمنة الغرب على مقدرات العالم وتوقف عمليات نهب الشعوب.قادت كلّ من مصر وسوريا مشروع المواجهة مع المشروع الغربي المتمثل بـ”إسرائيل” منذ مطلع الخمسينيات وحتى حرب أكتوبر في العام 1973، لتخرج بعدها مصر تدريجياً من الصراع، إلى أن وقعت اتفاقية “كامب ديفيد” في العام 1978، ما دفع سوريا إلى أن تكون شبه وحيدة، مع إحباط شعبي كبير.
لم ينقضِ سوى ثلاثة أشهر من جو القلق المسيطر على شعوب هذه المنطقة حتى بدأت تباشير التغيير بالتعبير عن نفسها من الهضبة الإيرانية، بثورة لم يشهد التاريخ بسعتها وعمقها وحيويتها وشعبيتها.
اتخذت الثورة بعد الإعلان عن نفسها كمشروع دولة إسلامية بعداً تحررياً مستقطباً لكل القوى التحررية في العالم، وتأكيداً للدور المحوري التاريخي للهضبة الإيرانية في وضع أسس مستقبل جديد لها وللمنطقة الممتدة من أفغانستان شرقاً إلى بلاد الرافدين وبلاد الشام غرباً، ومن ثم إلى مركز الحضارة المغيب جنوباً في اليمن.
من هنا تأسَّس الفعل الجديد الذي يعتمد على شرعيتين لاستمرار الثورة، من خلال دولة تعتمد في بقائها واستمرارها على شرعية التأسيس، وبوصلتها ضرورة تحرير فلسطين وإسقاط الكيان الغاصب، والثانية شرعية الدور الذي لا يمكن إنجازه ببقاء هذا الكيان الذي ترتبط به مجموعة كبيرة من الأنظمة السياسية الخادمة له، والتي تعتمد ببقائها على بقائه.أدركت القيادة الإيرانية طبيعة المخططات الأميركية للمنطقة باكراً قبل احتلال العراق، ما دفعها إلى التفكير في تحويل هذا التهديد الجديد إلى فرصة جديدة من أجل حياكة مشرق خارج الهيمنة الأميركية، والذي بقي العراق فيه عصياً على المشروع المقاوم، رغم توفر عناصر أساسية له.تبدَّت عبقرية الشّهيد حائك المشرق مع انتقاله إلى العراق للعمل على تشكيل بنية مقاومة في ظروف شديدة التعقيد، وفِي أجواء دخل فيها معظم العراقيين في سكرة أحلام العراق المتحرّر على يد جيش “الشيطان الأكبر”، والانقسام السياسي والمذهبي الكبير حتى على مستوى المذهب الواحد، وأجواء تقلب المزاج العام والفردي الذي جعل الكثير من الشخصيات العراقية تُمسي على شيء وتُصبح على شيء مختلف ومناقض، إضافة إلى قدرة الولايات المتحدة على استقطاب قسم كبير من الشارع العراقي.
ورغم ذلك، استطاع بطبيعة شخصيته الفولاذية الهادئة أن ينسج بيئة مقاومة أجبرت الأميركيين على الخروج منه في العام 2011.بدأت مهمة الشهيد الأصعب لمنع تمزيق نسيج المشرق المقاوم مع منتصف شهر آذار/مارس 2011، والذي تابع العمل عليه بأناة ودقة، فسقوط سوريا وخروجها من محور المقاومة سيشكل كارثة لكل ما تم بناؤه خلال أكثر من 3 عقود.
وقد تحول إلى الإقامة في سوريا، متنقلاً من منطقة إلى أخرى، لتقديم الإستشارات العسكرية كبداية. مع تطور وتسارع التدخل الغربي الفاضح، والتمويل القطري-السعودي للمجموعات التكفيرية التي تم تصنيعها في الداخل السوري بعنوان “الجيش الحر”، والإتيان بالتكفيريين من أكثر من 84 دولة، والضخ الإعلامي الكبير، بما يهدد سقوط واسطة عقد المقاومة، كان لا بدَّ من التحرك بشكل أوسع، وخصوصاً أن الحرب غير المتماثلة لا تسمح للجيوش النظامية بمواجهة المجموعات العسكرية السريعة الحركة.
ومن هنا، تأتي أهمية الإنجاز الكبير الذي حقَّقه بالتحوّل إلى المواجهة المتماثلة من خلال استخدام وسائل الجيوش النظامية كعنصر مساعد للحركة السريعة للقوات المدربة على ذلك، إن كان من السوريين أو من عناصر حزب الله اللبناني، الذي كان أوَّل الحاضرين لإنقاذ دمشق وبقية القوات من قوى المقاومة العراقية والأفغانية والإيرانية، وكان القرار المتخذ من قبل القيادة الإيرانية بعد رفض كل قوى المعارضة لأي حل سياسي بمنع سقوط سوريا هو الدافع الأكبر لعمل هذه القوى لأجل ذلك الأمر، وقد استطاعت القيام بذلك لعدة سنوات، إلى أن رفع حلف الناتو تدخله ودعمه للمجموعات التكفيرية المسلحة.وهنا، كان لا بد من إقناع القيادة الروسية بضرورة التدخل عسكرياً، ولَم يكن هناك خير من الشهيد سليماني لإقناع الرئيس الروسي بطلب من السيد الخامنئي، وهو ما نجح به، وتم الاتفاق بين الطرفين بموافقة دمشق التي كانت تدرك طبيعة الحرب الدولية التي تُشن عليها لتغيير موقعها الجيوسياسي، بما يخدم استمرار الهيمنة الأميركية وتحقيق أمن “إسرائيل” وحفظ دورها.
كانت رؤية سليماني واضحة من البداية بأن هذا المشرق لا يمكن أن تقوم له قائمة إذا لم يتم توحيد جبهات المواجهة والمقاومة في كل مناطقه، وهو الذي أدركته الولايات المتحدة و”إسرائيل”، فكان لا بدَّ لهما من إطلاق مشروع موازٍ يعمل على تدمير المنطقة، لا دفعها نحو إطار التعاون والشراكة، ولَم تجد خيراً من إطلاق “داعش” لتنفيذ ذلك.
دفع الإيمان بوحدة جبهات المواجهة ووحدة القوى المقاومة سليماني إلى أن يستنفر قواه إلى الحد الأقصى، لقيادة المعارك ضد داعش في العراق وسوريا، إدراكاً منه بأن دحر هذا التنظيم هو إسقاط لمشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي أسقط أول مرة في حرب تموز/يوليو 2006.
وقد استغرق العمل على ذلك 3 سنوات، إلى أن استطاعت قوى المقاومة الالتقاء على جانبي الحدود العراقية السورية في مدينة البوكمال في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، برمزية عالية المستوى بأن مستقبل هذا المشرق لأبنائه المقاومين، ولا وجود فيه لكل أشكال الهيمنة الغربية، ولا لـ”إسرائيل” ذاتها.
لم تكن حركة الشهيد منذ العام 1998 وحتى استشهاده تعرف الاستقرار، فعلى الرغم من تعدد جغرافية جبهات المواجهة، فإنه كان ينتقل في ما بينها ناسجاً بأناة خيوط سجادة جديدة تمتد من أفغانستان إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط، بعنوان “محور المقاومة”، مدركاً أنَّ هذه المنطقة الواسعة تحتاج إلى نمط جديد من الحياة يرتكز على القواسم الثقافية المشتركة والتاريخ المتحرك وتداخل شعوبها، وأن عليها أن تنتقل إلى إطار من التعاون والشراكة المبنية على المصالح التي تنعكس على شعوبها جميعاً بحياة أفضل، وأنها بذلك تستطيع أن تستعيد دورها المحوري في عالم جديد يتم العمل على تشكيله بالتحرر من الهيمنة الغربية.
كانت الرحلة الأخيرة للشّهيد سليماني خير تعبير عن ذلك، فقد انطلق من طهران إلى دمشق، ثم انتقل إلى بيروت للقاء السيد حسن نصر الله مودعاً إياه، وكأنّه يسلّمه راية قيادة المشرق المقاوم ومتابعة مسار بنائه في كل من لبنان وفلسطين وسوريا والعراق، ثم عاد إلى دمشق، ومنها إلى بغداد، إذ كانت تنتظره يد الغدر والاغتيال، ليطلق استشهاده تسريع المواجهة لإخراج الولايات من منطقة غرب آسيا، ولتتضح بذلك معالم مشرق جديد يحتاج إلى المزيد من العمل في الداخل والخارج، حتى تتّضح ملامح قوته وشراكة كلّ شعوبه .
نقلاً عن الميادين