مواقف الحبيشي وخصومه بين السياسة والوطنية.. والأمور بخواتيمها
السبت, 11 يوليو 2020 - 3:18 م
0 144
بقلم / كريم الحنكي
معلوم أن السياسة بطبيعتها تتيح للمشتغلين في مجالاتها نطاقاً واسعاً من مرونة الحركة والمناورة يمنحهم حرية إجراء المراجعات المختلفة بين مرحلة وأخرى، واتخاذ ما يرونه أنفع لهم وأنسب من التحولات التي قد لا تخلو -بالمقارنة مع ما قبلها- مما يبدو تناقضاً وتقلباً أو حتى مراوغة انتهازية. لكن مهما بلغت تلك التحولات (في الفكر والموقف والانتماء السياسي) خروجاً على مبادئ الحياة التنظيمية أو الحزبية وأعرافها أو أخلاقياتها، فإنها تظل مقبولة لا جناح عليها عملياً، طالما لم تخالف ما هو معلوم بالضرورة وثابت في المجتمع من قيم الوطنية والأخلاق العامة.
أما إذا تجاوزت ذلك وخالفت على نحو بيِّن ما تسمح به مبادئ الوطنية ومنظومة القيم العامة، فإنها تخرج بلا ريب عن نطاق السياسة المقبول ذاك بكل ما له من مرونة وسعة، إلى نطاق الفعل أو السلوك غير المقبول أو المدان وطنياً واجتماعياً الذي يشتمل عليه مفهوم الخيانة.
فهل التبس الأمر على الأستاذ أحمد الحبيشي، رحمة الله عليه، في تحولاته السابقة، كما التبس على الكثيرين ممن فقد التمييز بين مباح السياسة ومحظور الوطنية بوجه خاص، خلال السنوات الأخيرة؟ أم ظل في تحولاته المثيرة تلك واعياً ملتزماً بهما متقيداً بحدودهما، بحيث تحرك -وهو المشهود له بالاقتدار الرفيع مهنياً- في إطار المباح السياسي دون الاقتراب من المحظور الوطني؟
ذلك ما نستوضحه في ما يأتي باسترجاع فقرات عدة مما قاله الراحل منذ سنين بشأن مواقفه رداً على من التبس عليه ذلك التمييز لاحقاً بالفعل (أو تجاهله قصداً)، من مهاجميه الذين كشفهم في حياته حين عجزوا عن الرد الموضوعي عليه، وبمماته حين قدروا على الشماتة مظهرين مضافاً أخلاقياً من أحط ما يمكن للمرء الانحدار إليه من الضعف الإنساني.
ونكتفي هنا بالتوقف عند حوار مطوَّل، ومستفز أحياناً، أجراه معه عدد من أعضاء منتدى رابطة جدل الثقافية في 2008، وفق ما نجده على موقع يمنات الذي أعاد نشره حينها. فقد وجه إليه محاوروه أكثر من سؤال عن تحولاته الفكرية والسياسية خلال السنوات السابقة، فاعتبر ذلك شهادة لإعماله “العقل في ممارسة التفكير النقدي” من جانبٍ، موضحاً قناعته، من جانبٍ آخر، بأن “الحزبية وسيلة وليست غاية”.
على أساس من ذلك، يؤكد أنه لا يزال مؤمناً بالتوجه الفكري التقدمي؛ فلم يتغير فكرياً، رغم المراجعات الفكرية الضرورية ببعض المحطات لضمان حضور العقل النقدي دائماً لقراءة المتغيرات المستمرة والبحث عن أجوبة جديدة لأسئلة متغيرات الحياة الجديدة، إذ لا يمكن الإجابة عليها بتعطيل دور العقل اكتفاءً بالنقل عن الجهاز المفاهيمي القديم للوعي السائد.
فمساره الفكري كما يقول ثابت بذلك الاتجاه، أي “أنني لا زلت متمسكاً بنهجي التقدمي الذي أسير عليه منذ سنوات”. لكنه يستدرك أن “الثبات في نهج التقدم يستوجب تجديد مفاهيمنا إزاء متغيرات الحياة لضمان تطورها اللاحق بالاتجاه التقدمي”.
“ولأن الحياة تتغير، ينبغي علينا تشغيل الوظيفة النقدية للعقل في مراجعة مخرجات الممارسة العملية وانعكاسها على الوعي في بعض المحطات التي تتطلب مزيداً من التقويم النقدي لخبرة الممارسة والتصويب لبعض جوانبها السلبية”. فلا بد برأيه “أن يتجدد وعينا بالمتغيرات والتحولات التي ترافق مسار الحياة الإنسانية”.
وبعد استشهادٍ من مقدمة ابن خلدون، يقطع بأنه: “لا يعيب الإنسان، كما لا يعيب الأحزاب والحركات السياسية.. ممارسة الحرية القصوى في النقد الموضوعي والذاتي ومراجعة الأفكار والسياسات وتجديد طرائق التفكير والعمل.. وصولاً إلى تصويب وجهة التطور التي لا يمكن لأحد أن يزعم بأنها ساكنة وجامدة”.
ومن منطلق أن “الحزبية وسيلة وليست غاية”، يقول “لا توجد هجرة للمثقف من المعارضة إلى السلطة أو العكس.. فالديمقراطية عملية سياسية مفتوحة على التفكير النقدي والتنوع والاختيارات الحرة في الواقع، وليست عملية ذهنية افتراضية. ولا يمكن فهم تحولاتها وتناقضاتها وإشكالياتها بأدوات ومعايير شمولية، أو بمصادرة حق الأفراد والجماعات في ممارسة أي شكل من أشكال المراجعة النقدية الحرة للتجارب السياسية”.
فهو يستغرب إصرار البعض “على الانتساب إلى مدار الديمقراطية التعددية بعقلية شمولية ماضوية، ويقدم نفسه كمشروع حضاري للمستقبل.. بينما يتحول بسرعة قياسية إلى جلاد يوزع تهم وأوصاف الخيانة والانتهازية والتلون على كل من يسعى الى تجديد طرائق وأساليب ووسائل عمله بعد طول عناء”؛ منوِّهاً بطرح منتقديه واتهاماتهم، قائلاً:
“من المفارقات العجيبة أن بعضنا يتحدث عن الديمقراطية وحرية الاختيار والاعتقاد، بينما يلجأ إلى تحقير وتسفيه كل من يقوم بمراجعة ونقد التجارب الخاطئة بعد ثبوت إفلاسها وضمورها وعدم قدرتها على التطور اللاحق”، فيتهمون “من يمارس النقد الذاتي ويراجع تجربته السياسية بالخيانة والتقلب والخروج عن الجماعة التي تصر على الإقامة الدائمة في الماضي والعيش في قالب جامد ونهائي”.
تلك هي تقريباً التهم عينها التي راح يكررها عقيب وفاته عديدون من خصومه، لكن بشماتة ظاهرة لم ترتد بها الإدانة على أحد سواهم. وما كان ارتدادها عليهم بذلك لأسباب أخلاقية فقط، نظراً لصدورها عنهم مع وفاة الرجل في موقف كان الصمت بهم أخلق؛ لكن لأسباب وطنية أيضاً. فأقصى ما تبلغه اتهاماتهم المكرورة تلك لا يتجاوز التقلب والانتهازية والخيانة، المبنية جميعها على تبدل مواقفه وانتماءاته السياسية من حزب إلى آخر. وسواءً أقنعتنا أم لم تقنعنا ردود الرجل في حياته على حجج خصومه، فإن الموضوعية تقتضي منا أولاً افتراض الأسوأ وهو صحة تلك الاتهامات، وريازتها ثانياً، بحيث نتبين حقاً ما إذا كانت تدين الرجل بالنظر إلى قيم الوطنية والأخلاق العامة أم لا تدينه من هذا المنظور.
وبافتراضنا صحة الاتهامات المذكورة، نجد أن أكثرها تكراراً وغلوَّاً لا يدينه إلا سياسياً فقط. فهو متقلب لمغادرته حزباً إلى آخر؛ وذلك تقلب سياسي. وهو انتهازي لأنه (بعد طول انتمائه لحزبه واستفادته منه حين كان شريكاً في السلطة وأثناء خروج قطاع منه إلى معارضة الخارج) انقلب عليه عقب زوال السلطة ثم المزايا المادية لتلك المعارضة؛ وهي انتهازية سياسية. وهو خائن بعدم وفائه لحزبه، وبانضمامه عند عودته للبلاد إلى الحزب الغريم الذي كان قد أقصى شريكه عسكرياً عن السلطة واستبد بها مستأثراً؛ وتلك -إن جاز التعبير- خيانة سياسية.
وبما أن جميعها تهم سياسية، وليست وطنية أو أخلاقية، فإن أياً منها -في حال صحته- لا يمس الرجل إطلاقاً في ولائه الوطني أو التزامه الأخلاقي بقيم المجتمع العامة بعيداً عن أعراف التنظيمات السياسية وأخلاقياتها.
بناءً على ما سبق، نخلص إلى أن من الواضح أن الإعلامي السياسي والمثقف الألمعي الراحل أحمد الحبيشي قد كان مدركاً تماماً لما تتيحه السياسة من الرخص والمباحات داخل حدود ما تسمح به الوطنية فلا يتعارض معها، وما يتفق مع الأخلاق العامة فلا يخرج عنها. وذلك بالتحديد ما لم يدركه منتقدوه الأشاوس، الذين لم يستند نقدهم الحافل بالاتهامات، إلا إلى منظومة القيم والمبادئ الحزبية وأعرافها الراسخة في تصوراتهم. أما قيم المجتمع وأخلاقه العامة، ومبادئ الوطنية ومحظوراتها المعلومة، فلم يستند إليها أحد في نقده الرجل أو ذهب في اتهاماته إلى ادعاء خروجه عليها في ما نعلم.
لكن المفارقة اللافتة أن محك الالتزام الوطني والأخلاقي الحقيقي هذا، بقدر ما يؤكد أن الراحل الحبيشي قد ثبت (على تمسكه بذلك الالتزام الأساسي والجوهري الفارق) ثباتاً لا شائبةَ عليه من ريب حتى آخر أيام حياته الحافلة؛ فأنه يثبت على الجانب الآخر أن أكثر أولئك الناقدين الساخطين عليه هم من خرج على تلك القيم وأساسياتها مدفوعاً بتصوراته الخاصة وتعقيداتها عن خصمه الشريك في الوطن، إلى جانب تطلعاته السياسية المنتجة مفهومه الخاص -المسرف في خلطه ومرونته- عن السياسة والوطنية، وعن التقدمية كذلك.
لعل ما أوردناه تحريراً واقتباساً، من ردود الحبيشي السالفة أعلاه، فيه وحده من الموضوعية والمنطق ما يكفي برأينا لدحض اتهامات خصومه وإبطال حججهم عليه حتى من الناحية السياسية، ناهيك عن الفكرية. لكننا، في مقابل ذلك، نتساءل:
ما هو حال أولئك الخصوم العتاة الذين انتهى بهم مطافهم السياسي والوطني، وثباتهم الفكري (وهم التقدميون)، إلى أعتى عواصم الرجعية العربية وحلفائها المعروفين؟!
أتراهم يمتلكون من الموضوعية والمنطق ما يكفي للرد على الحبيشي وإبطال حجته عليهم في اتهامه إياهم وطنياً -وليس سياسياً أو فكرياً فقط- بالاتهامات عينها: التقلب (وطنياً)، والخيانة (الوطنية)؛ واتصالاً بهما وبينهما، الانتهازية على حساب الوطن نفسه، وليس على حساب حزب فيه أو تنظيم سياسي؟!
نضرب صفحاً عن الخوض في ذلك بهذا المقام، تاركين التساؤل عالقاً يتأمل وقائع السنوات الست الأخيرة ومفارقاتها الجارية ومختلف مواقف أبطالها وشخوصها، التقدميين والقوميين خاصة، في بلادنا وفي عواصم تحالف “العدو التاريخي” من المؤيدين المبررين حتى اليوم لحربه وعدوانه وإبادته وحصاره وجميع منكراته، وكل ما لا تؤكد الأيام به شيئاً كما تؤكد حقيقة كونه العدو التاريخي الوجودي لليمن الذي ينشده أهله جميعا.
ولا نختم ما نحن بصدده إلا تمثلاً في كل حال بالقول المعروف: (الأمور بخواتيمها). والحبيشي الراحل عن دنيانا محفوفاً بالرحمة والرضوان، منذ أربعين يوماً في صنعاء، قد أحسن ختام أمره إحساناً يغفر له ما تقدم وما تأخر؛ ويشهد له عند الله والوطن والتاريخ، بقدر ما يشهد على خصومه من حجاج اليسار إلى الرياض.