كسر الدّولار.. إنّها معركة ثقافيّة أيضاً!
بقلم / محمد فرج
في المعارك السياسيّة الكبرى، يجري الحديث عن كسر الدولار، باعتباره أداة للهيمنة الاقتصاديَّة. وقد تحدّثنا عن ذلك في لعبة الورق الأميركية في سوريا ولبنان. على الضفّة الأخرى من القصَّة، كان للدولار تأثيراته الثقافية التي غيّرت الأنماط الاجتماعية للدّول والأمم. ويمكن القول إنَّ الدولار مدان بالتسبّب بالكثير من الاضطرابات الاجتماعيّة (نسب الجريمة على سبيل المثال)، والاضطرابات النفسيّة للفرد (رهاب الإفلاس والجشع الّذي أسمته الماكينة الإعلاميّة الغربية طموحاً).
فرض الدّولار الأميركيّ نمطاً واحداً من الحياة، لا في المجتمع الأميركي فحسب، وإنما أيضاً في كلّ المجتمعات التي أسلمت نفسها له في الاقتصاد والسّياسة. 39% من الأميركيين مدينون لبطاقات الحساب، ويتنقّلون بديونهم من شهر إلى آخر، والطّالب الجامعيّ في الولايات المتحدة يتخرَّج من اختصاصه مدين بـ40 ألف دولار بالمعدل.
وقد بات ذلك نمطاً معمّماً في كلّ الدول التي تبنَّت النموذج الأميركيّ، واعتبرته الوحدة المعياريّة والطريقة المثلى لإدارة المجتمعات. وينسحب ذلك على قروض السيارات والشّقق السكنيّة والقروض الشخصيَّة.
تُجمع العديد من الدّراسات النفسيّة على أنَّ المقترضين معرّضون للاضطرابات العصبيّة، من مثل القلق والاكتئاب، أكثر من غيرهم. ولو حاولنا توسيع الصّورة لتشمل الدولة المدينة والأمة المدينة، لخلصنا إلى استنتاج مماثل. إنّ الدّول التي تمرَّدت على سياسات الاقتراض عاشت معافاة اجتماعياً، على النقيض من الدول الغارقة في الديون. إن الدّولة التي تمكَّنت من تحديد احتياجاتها، وربَّت أفرادها على نمط مماثل من تحديد الاحتياجات، ولم تغرق في سوق الاشتهاء السّلعي، ولم تتورَّط في ديون استهلاكية لا معنى لها، حظيت بمواطنين على درجة أعلى من التّعافي النفسي. ولا ننسى أنَّ الولايات المتحدة تسجّل 1518 ألف جريمة قتل سنوياً!
إنَّ مواطِن نيويورك المضطرب والقلق، والمحمَّل باحتياجات ضخمة و”طموح” مبالغ فيه في الاستحواذ، أو شخصية الموظَّف الياباني العصابي في رواية “ما بعد الظلام” لهاروكي ماروكامي، هما الأمثلة البراقة على الفرد المضطرب في عالم المال؛ عالم الدولار.
الأنسنة الصّرفة للمرء تحتاج إلى تجاوز نزعة الاستحواذ لصالح نزعة الفعل. هذا التجاوز غير ممكن في حالة مواطن نيويورك، ولكنَّه ممكن في حالة المواطن الإيرانيّ أو السوريّ أو الفنزويليّ أو الروسيّ. إنه أمر ممكن في الدول الَّتي عوقبت بحجب الدولار، فحجب عنها الكثير من ثقافته.
الحاجة المفرطة للسّلع في عالم الدولار هي حاجة مرضية ومصنّعة في أدبيات التسويق (“الكذبات الكبرى”، بحسب تعبير عالم النفس الشهير إريك فروم). هذه الحاجة المرضيَّة هي مصدر الديون “الفرديّ والدوليّ”، وهي أيضاً مصدر ما يتبع ذلك من القلق والاضطراب، وهي عائق حقيقيّ أمام سعادة الإنسان وتطوّره والتحامه بعالم الفعل الحقيقي. وبذلك، يصبح الدولار هو الوكيل العالميّ لانفصال البشر عن الفعل والعمل الجماعيّ.
إنَّ الكائن الَّذي أنتجه عالم الدولار كان عائقاً كبيراً أمام الأنظمة السياسيّة في احتواء جائحة كورونا، فالبنوك والشّركات ووسائل الإعلام ربّته على الأنانيّة والفردانيّة، وعلى أنَّ تلبية الطموح بحاجة إلى خوض حرب ضدّ الجميع (حرب الفرد ضدّ الجميع، بحسب تعبير كارل ماركس).
وهنا يكمن الفرق الجوهري بين أداء الولايات المتحدة الأميركية بثلاثية الدولة الأنانية والمجتمع الأناني والفرد الأناني، والصين الكونفوشية القائمة على مبادئ التنظيم الجماعي الصارم. إن نظام الدولار و”الطموح” في المزيد من الاستحواذ، أنتج فرداً كافراً بالمرشد أو القائد أو القدوة أو المعلم. ولذلك، هو لا يطيع الدولة، ولا يحترم قوانينها، ويعتبر خرق القانون الجماعي جزءاً من حريته الفردية التي أخبره عالم المال أنها تساوي المالانهاية.
“قل ما الذي يوقظك، أقُل لك من أنت”. هذا هو تعبير إريك فروم في كتاب “فنّ الوجود”. ولو نقلناه إلى عالم اليوم في السياسة والاجتماع، فإنّنا سنلحظ مواطِن الدولار يتيقَّظ بقلق الدين، ورغبة الاستحواذ على المزيد من السلع، والتسلية الفارغة، وحبّ المغامرة السّطحية.
إنّ ذلك يشكّل عائقاً كبيراً في هذه الدول أمام بناء جيش عقائديّ، أو عاملين منضبطين ليسوا مجرّد موظفين مدفوعي الأجر. تعاني دول الدولار في هذه المهمّات، فهي تفشل مرة تلو الأخرى في إنتاج عقيدة جامعة أكثر عمقاً وأصالةً من عقيدة المال.
تختلف المسألة في الدّول التي عوقبت بنظام الدولار، فهي تحظى بجيوش عقائديّة، وثمة شعار قوميّ جامع (موضوع للإخلاص) يضمّ الفئات العاملة في المجتمع. لقد كان للعقوبات فائدة مهمّة، وهي ولادة شعوب من طبيعة غير مدولرة.
إنّ مربّع صناعة الحاجة، ورغبة الاستحواذ، والدين، والقلق الناجم عن كلّ ذلك، لا ينتج شخصاً توفيرياً “بخيلاً” في ماله فحسب، وإنما في تعاطفه وطاقته ومشاعره أيضاً. في الولايات المتّحدة، غالباً ما تحلّ عقدة الأفلام باللكمات والمسدسات العمياء، والمزاج الموسيقي هو مزاج عنفيّ وإكراهيّ.
لم يحفظ التاريخ لحظات صافية لرئيس أميركي يبكي، على شاكلة بوتين عند استعادته هيبة روسيا وعودته إلى مقعد الرئاسة بعد ميدفيدف، أو تشافيز عندما عاد من كوبا لوداع شعبه، أو خامنئي في وداع سليماني. إنهم لا يجرّبون البكاء، ولا يمتكلون هوية تجريبه. إنهم رجال المال!
بعد سقوط أبراج التجارة العالميّة، دانت أوساط ثقافية واسعة الكاتب الفرنسي جان بودريار بدعم الإرهاب، بعد تعليقه في “اللوموند” على الأحداث، قائلاً إنَّ أميركا هي التي علَّمت الناس العيش بسعر الفائدة، وكان لا بد لذهنية الربح والخسارة من أن تخلق متحمّسين مستعدّين للقتال. ولو لم يكن تنظيم القاعدة، لكانت الرأسمالية قد أنتجت غيره.
إنّ التحرّر السياسيّ من القيد الخارجيّ (الدّولار الاقتصاديّ)، لا بدَّ له من أن يترافق مع خطّة للتحرّر الداخلي من آثار العطب الّذي أنتجه المال (الدّولار الثقافيّ).
باحث أردني، صدر له “الرأسمالية وأنماط الهيمنة الجديدة”، “مخاطر التمويل الأجنبي – المراكز والمنظمات (غير الحكومية)”، جزر السياسة المعزولة – الميادين