ينقل موقع ” حيروت ” عن منصة “خيوط” التي نشرت اقتباسات ونصوص قصيرة عن الراحل الكبير عمر عبد الله الجاوي في ذكرى وفاته الخامسة والعشرين كتبت بواسطة أسماء أدبية وثقافية وسياسية ذائعة أغلبهم لم يعودوا بيننا، فقد جمعتهم بالجاوي حيوات أخرى. والهدف من ذلك إعادة تقديم صورة المناضل الفذ كما ارتسمت في وجدان هؤلاء الكبار.
ترسَّخ كسنديانة مستعصية
د. رفعت السعيد
“كيف يمكن للإنسان أن يمتلك كل هذا القدر من الشجاعة؟ وكيف يستطيع أن يمزجها ببساطة محببة تجعلك تعتقد أن المواجهة المتحدية هي أمر طبيعي؟ وكيف يمكن لسياسي عربي أن يتعامل بكل هذا القدر من الصفاء؟
تتراكم الهموم، وتبقى وحدك متماسكًا بابتسامة فيها تحد ماكر، ورافض للاستسلام. تهتز أشجار كثيرة، تفقد أوراقها، وتقف عارية حتى قبل الخريف وبدونه، بينما أنت تترسخ كسنديانة مستعصية على الزمان والمكان. كثيرون يفقدون اليقين، يتراجعون، يركعون، وتبقى رافع الرأس شامخًا، مشحونًا بآلام شعبك المستعصية، ممسكًا بها، تحملها على ظهرك عابرًا طريق الآلام، واثقًا من النصر. هموم العرب، وهموم اليمن تتراكم جبالًا، وأنت لها تحتملها تتحداها، تستدعينا للتحدي. قليلون يأتون، وكثيرون يخافون، وأنت تبقى مضيئًا وحدك ليلَ الخوف بوهج الشجاعة.
عزيزي عمر كثيرًا ما التقينا، وفي كل مرة ذات البسمة، وذات القدرة على التحدي، وذات الضحكات الصافية، ومعها رؤية عليمة ومتمكنة لأوضاع اليمن واليمنيين، ولتضاريس السياسة اليمنية، وعندما اخترت لحزبك اسم التجمع، قلت لي عبر الهاتف: نريد أن نكون مثلكم. يومها قلت لك: وهل نستطيع نحن نكون مثلك؟
صحيفة الأهالي المصرية العدد (850)، الأربعاء 31/ 12/ 97م.
عمر الجاوي والشتاء الأخير
د. عبد العزيز المقالح
“كثيرة هي الشتاءات المريرة والمؤلمة التي عانى منها الوطن، وعانى منها المناضل الراحل الصديق العزيز الأستاذ عمر الجاوي، وخاض معها معارك لا هوادة فيها. كانت تلك الشتاءات أقسى بما لا يقاس من هذا الشتاء الأخير الذي اختار أن يرحل فيه، وهي شتاءات امتلأت بالدهاليز، والممرات الضيقة، والطرقات المليئة بالخناجر والرصاص والحفر، لكنه تخطاها بشجاعة نادرة المثال، وتجاوز آثارها ضاحكًا حينًا، وساخطًا حينًا آخر.
في واحد من تلك الشتاءات الكئيبة كان عمر في صنعاء، وصنعاء محاصرة بفلول المرتزقة، وأعداء الثورة الذين جمعتهم الكراهية للوطن، وللتغيير نحو الأفضل والأجمل في حياة الناس وفي حياة البلاد. كان ذلك في مثل هذه الأيام من عام 1967، وفي ظروف ذلك الشتاء الكئيب صاغ عمر شعاره العظيم: “الجمهورية، أو الموت”، وهو الشعار الذي تحول إلى قصائد وأناشيد، وإلى مواقف صمود دحرت فلول المرتزقة وأذنابهم من أنصار الظلام.
وفي شتاء آخر كان عمر في القاهرة يتابع الإعداد لمشروع اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي اكتمل تكوينه في مطالع عام 1971. لم يكن أحد من المتنفذين في الشطرين يدري أن عمر يؤسس لمنظمة وحدوية عظيمة الشأن.
إن المناضل المثقف عمر الجاوي نموذج للوطني صاحب القضية، وقد عاش حياته لثلاث قضايا أساسية ورئيسية هي: الجمهورية، والوحدة، والديمقراطية.
في الستينات كان ترسيخ النظام الجمهوري هو هدفه وقضيته الأولى، وفي السبعينات والثمانينات كانت الوحدة شغله الشاغل، وقضيته الخاصة والعامة، وفي التسعينات بدأ نضاله الذي لم يتوقف يومًا من أجل تثبيت مبدأ الديمقراطية التي بتحقيقها تكون ثوابت اليمن الجديد قد اكتملت، وأصبح أبناؤه مؤهلين لدخول القرن الواحد والعشرين من أوسع الأبواب. ذلك هو عمر الجاوي الإنسان والمناضل، والمثقف والصديق الذي سيفقد الوطن إطلالته المحببة، ومشاكساته الهادفة. سلام عليه في الخالدين، وعزاء للوطن ولأهله، ولنا جميعا الذين عرفناه وأحببناه”.
صحيفة الثورة 30/ 12/ 1997.
أبهى رموز الوطن
عبد الله البردوني
“ما زالت ذكريات عمر الجاوي تتصل وتلتحق وتستبق وتتلو كحياة الرجل الوطني أو الوطني الرجل.
احترف عمر الجاوي الصحافة كمهنة، والوطن كحضن تضحية، والتعليم والتعلم كزاد طريق، وزيت مصباح.
كان في صيف كل عام يواصل التدريس، فيستغيث به الذين رسبوا، ويتفيأ ظله من يريد التفوق، فصان كل صيف من التعطل، وجعله عامًا دراسيًا، وإلى الآن يعمر تلاميذه أكثر مقاعد الإدارة والثقافة والإعلام بنجاح ملحوظ؛ لأنهم من ثمار كد الجاوي.
في عام 1967 تخرج من موسكو، وكان أول ما زاوله المحاضرات النارية في المقاومة الشعبية التي كانت تحاصر محاصري صنعاء آخر الستينات؛ حتى أصبحت المقاومة قوة كالجيش والأمن، وكالجيوش القبلية، حيث أدهشت هذه المقاومة جيوش الحروب؛ فتساجلوا الشهادات لهذه المقاومة بالاستبسال، واقتحام الغمار، والالتحام مع الموت وجهًا لوجه.
وفي عام 1970 نبتت في رأسه مواويل اتحاد الأدباء كجذر خصب لوحدة الشطرين، وتحمل الأدباء متاعب التفتيش في المطارات والرقابات في البيوت والمقاهي، وكان الجاوي مسلطًا على السلطات؛ فأرغم النظامين آنذاك على تحديد ميزانية لاتحاد الأدباء: 700 دينار من عدن، ومئة وخمسين ألف ريال من صنعاء.
وبعد قيام وحدة الشطرين مال الوطني عمر الجاوي إلى رئاسة حزب التجمع الوحدوي؛ ليجمع بين الوحدوية والتقدمية، مع أنه كان في رئاسة اتحاد الأدباء أعلى من وزير، وأشمخ جاهًا من رئيس؛ ولهذا ظل دمه منذورًا، وكان ناذرًا عن طيبة نفس، وكان بينه وبين الموت حلفًا بألّا يقطع حبله منه إلا وقد امتصت الأعمال الوطنية كل عظامه؛ فلاقى ربه في شهر ديسمبر 97م.
لأن الجاوي ليس مجرد قلم، وإنما كان سيفًا، وقلمًا، وإزميلًا، فهو في كل ظواهر الوطنية الثقافية أو الثقافية الوطنية الرائد السابق الذي يحث القوافل فيسبقها؛ ولهذا ترك أعطر الذكريات، وأشمخ الأعمال الصامتة والصائتة.
كان عمر الجاوي يخلق الوحدة من أي شيء، فكان يعرض كل مقال نشرته صحيفة أو مجلة بصنعاء في منشورات عدن، وفي مدة ثلاث سنين من السبعينات كتب برنامجًا إذاعيًا ثقافيًا في عدن بعنوان (منتهى اليمن)، مستهلًا البرنامج بذلك النص:
تقول عيسي وقد لاحت لناظرها *** لحجٌ وبانت لنا الأعلام من عدنِ
أمنتهى الأرض يا هذا تريد بنا؟ *** فقلت: كلا ولكن منتهى اليمنِ
وكانت مادة عمر الجاوي إذاعيًا وحدوية تغلب عليها الشمالية إلى حد أنك لا تستبين منطقة الجاوي من لهجته؛ لأن لسانه مركب من صنعاء، ونقيل سمارة، وباب الناقة، وساحل أبين؛ فهو يمني من كل اليمن في همومه، وفي تحدثه، وفي كتاباته، وفي رحلاته”.
صحيفة الثورة، العدد (12143)، 9/ 2/ 1998م.
الأمل آخر ما يموت
د. أبو بكر السقاف
“تذكّرنا هذا القول الروسي السائر في غمرة حديث مؤلم عن مرض عمر، وكان الحديث مع أم ليلى. وبدا لي أن بعض الناس في مواجهة الصعاب والآلام والتضحيات يسهل عليه طرح الأمل جانبًا منذ اللحظات الأولى، وكأن لا مجال إلا للاستسلام، وبذلك يصلون إلى النتيجة قبل أن يستنفدوا كل إمكاناتهم.
في حال عمر لدينا رأي واضح ومتفائل من موسكو، وآخر من باريس يؤكد بدوره أن العلاج ممكن، وكلاهما من أستاذين معروفين. نحن لا نحيا إلا بقدر غريزي كبير من التفاؤل، حتى في العابر من شئون حياتنا. والأمل ذروة هذا التفاؤل، فمنه ننسج تضامننا، وبه تتغذى كل القيم التي تقوم بدور النوابض العميقة في كل ما نأخذ وندع. ومن هنا لم أستطع أن أفهم ما يكتبه عدد من الناس منذ لزم عمر فراش المرض أنهم ينعون إنسانًا حيًا يقاوم بروحه وجسده المرض، ويؤكد غير طبيب وغير تجربة معروفة في عالم الطب أن حتى الإمساك بيد المريض له تأثير سحري في المريض، وأنه يحشد طاقات تبدو نائمة في أغوار النفس البعيدة، وهي بدورها ممتزجة فيما يعرف بالوشائج الجسمية النفسية. إن الإمساك بيد المريض فعل أمل يتحد فيه كائنان في علاقة أمل، ويصنعان الحياة في أروع لحظاتها تجليًا بما هي بطولة وتعاطف وحنان. إنني أرجو من الذين يحبون عمر أن يكفوا عن نعيه، وأن يشاركوه معركة الأمل، وهو آخر ما يموت فينا”.
صحيفة الأيام العدد (421)، 21/ 12/ 1997م.
والنجم إذا هوى
عبد الباري طاهر
“موتك يا عمر كارثة من الكوارث الكبرى. كنت رمزًا وشاهد الوجه الأكثر جلاءً وإنسانية وخلودًا لكفاح شعبنا وجيلنا منذ بدايات هذا القرن. أحببت الأحرار، ولكنك غادرت مواقعهم باكرًا. عافت نفسك الظلم؛ فخرجت شاهرًا كلمتك وسلاحك في وجه الإمامة والاستعمار. دافعت عن سبتمبر وأكتوبر. كنت في صنعاء المحاصرة خبزًا للفقراء، وبسمةً لليتامى، وذخيرة للمدافعين الصامدين في عيبان، والطويلة، ونقم.
كنت الضمير الجمعي في أخطر المراحل، وأصعب المنعطفات، وكنت البوصلة التي تؤشر باتجاه المستقبل، وتومئ للحق. عندما بدأت سحب الحرب تتجمع منذرة بالويل، أدنتَ الحرب، وبرئت من الجريمة، ودعوت الشعب لإدانة العنف، وسفك الدماء. وعندما أعلن الانفصال، تحديته في عقر داره، وكنت في المقدمة لدفنه، وإعلان الموت. بشرت بالثورة، ونذرت لها النفس، وكنت واحدًا من أكثر أبنائها حبًا ووفاءً وإخلاصًا وفدائية.
كنت الفادي كالمسيح، ولكن في خواتم القرن العشرين. كنت الشجرة في غابة، والغابة في شجرة.
وليس على الله بمستنكر ** أن يجمع العالم في واحد
حملت عصاك تهش بها الاستعمار، وتذود بها الإمامة، وتسخر من عتاة القتل، وزبانية الحروب، ودعاة الفتنة، وانتصرت بالكلمة، وللكلمة عندما انكسر المعنى العظيم للثورة، وانتصرت عضلات القوة؛ لتضع الفواصل بين الشمال والجنوب. دعوت الأدباء والكتاب للتمترس في خندق الحكمة والكلمة، ورفضت التشطير. وكم عانيت يا عمر حتى من أصحاب الدعاوى الكبيرة لاختيارك خندق الوحدة، والدفاع عنها. كانت الكلمة قبلتك وجيشك وسلاحك، وكانت لهم جيوشًا، ومكائد، وسلاحًا، وكانت الكلمة هي الأعلى، وانتصرت الوحدة، وبقيت وحدك.
غادرت موائد اقتسام الغنيمة، وأقسم إنك لترى بنور الله. أبصرت الدماء تجري في أكواب الأنخاب، وشاهدت دخان الفتنة القادمة يتصاعد من أبخرة موائد العرس.
قلبك على وطنك، أو قلبك وطنك. حاولوا قتلك عندما رفضت السير في الزفة، وقلت للناس ما يجري في المخادع، وتحت الأسرة. أدركت سر الترابط العميق بين الإمامة والاستعمار؛ فحاربتهما معًا، وعرفت العلاقة بين الانفصال والتبعية؛ فحاربتهما معًا، وكشفت لعيني ضميرك ماذا تعني الحرب اللعينة، والانفصال الجريمة؛ فبرئت منهما، وحشدت الناس لمواجهتهما.
كنت دائم القراءة لما يعتمل في ضمير الواقع، ووجدان الناس الصافي والزلال كأبينا الزبيري العظيم.
بعيدًا رحلت عنا، ولكن ضجيج كلماتك يزداد صخبًا، ومواقفك الفادية تحاصر قلاع التخلف والاستبداد، وتعلن أن الكلمة أقوى من المدافع والمجنزرات، ونواة لحزب التجمع الذي شججت به رأس الدكتاتورية والشمولية، وكانت الحرف الأول في أبجدية التعددية السياسية والحزبية وحرية الرأي والتعبير ما تزال تومض للآتي الجميل.
أيها الإنسان الرائع والباسل لكم ظلمناك وظلمتنا؛ ظلمناك بالتخاذل عنك، وعدم قراءتك القراءة الأوفى، وظلمتنا، ولا زلت؛ لأنك تحملنا فوق ما نطيق، وتطلب منا جميعًا أن نكون شهداء وفادين، وأن نشهر أقلامنا في نحور الاستبداد والتخلف، وأن نحارب على أكثر من جبهة في آن واحد كما كنت تفعل دائمًا. ندرك يقينًا أن موتك أبلغ من حياتك، وأن تضحيات جيلك لن تذهب سدى، وأنك شاهد الفضيحة، ورمز المقاومة أبدًا”.
صحيفة الثوري، العدد (1507)، تاريخ 8/ 1/ 1998م.
نقش العصر في رحلة الكفاح الطويلة
ياسين سعيد نعمان
“عمر الجاوي عنوان كبير في حياتنا لكل ما تجود به الحياة من قيم إنسانية راقية، ومعانٍ خالدة هو تفاعل القوة والتواضع، تفاعل الممكن والمستحيل، تفاعل الثورة والحلم، تفاعل الرفض والتجربة، تفاعل الإنسان والضمير، تفاعل المقاومة والحكمة، تفاعل الحنين إلى التاريخ مع الشوق إلى الغد، لوعة الحرف إلى مكان في كلمة تهز وجدان الأمة في أحلك اللحظات، وفي أصعب المواقف.
في وصف عمر تتسابق الكلمات بحثًا عن الخلود. تصغر المعاني أمام تسامق القامة، وبهاء الحقيقة. عمر مستودع أحلام البسطاء، ومخزن ذاكرة الفقراء التي تهيم عشقًا بروائح سنابل القمح في تبن، وقاع البون، وسهول تهامة، وتأتلف في توحد وجداني مع نكهة البن في يافع، وبني مطر، والحيمتين، وتغوص في أعماق الأرض في رحلة الكفاح الطويلة بحثًا عن مكان لهم تحت الشمس. عمر نقش يؤرخ لمرحلة من البحث المضني عن صورة لليمن خالية من التجاعيد والأحزان.
الشجاعة والوفاء والبسطاء والتواضع والتسامح كلمات غير مقروءة بدقة عندما لا تقترن بعمر النموذج. شخصية عمر هي نسيج هذه القيم في معناها الذي ترسخ في الوجدان الشعبي اليمني كجزء من ثقافته الوطنية الأصيلة.
لا يذكر النضال السياسي إلا وكان أحد أساتذته الذين تصدروا معاركه بكفاءة عالية، وحنكة لا يغيب معها الهدف الاستراتيجي في زحمة التكتيكات والمناورات. لم يكن في نضاله السياسي مبرمجًا بطروحات أيديولوجية قطعية، أو محاطًا بأحزمة من الموانع النظرية، بل كان يتفاعل مع القضايا التي تعتمل في الواقع، كما يراها، وكثيرًا ما كانت رؤاه تنم عن بصيرة نافذة تجسد قراءة دقيقة لمجريات الحدث.
ولا تذكر الزعامة الشعبية إلا وتصدر قائمتها كواحد ممن جعلوا للزعامة إطارًا أخلاقيًا فريدًا يقيها عبث الحكام، وشغف الطموح، وبريق السياسة وألوانها المتقلبة.
ولا تذكر الديمقراطية إلا وكان أحد فرسانها الأوائل؛ فقد تخلى عن إغراءات السلطة من أجلها وبدلًا من أن يخوض صراعه من أجلها في الشواطئ الآمنة، حيث دفء السلطة يمتد إلى مياهها الهادئة والناعمة، قرر أن يخوض ذلك الصراع في المعترك الحقيقي لمضمون رسالته.
ولا يذكر الوطن إلا وكان في طليعة عشاقه. كان عمر يجيد فن عشق الوطن بأسلوبه الذي يتميز به عن غيره من الناس، فهو يرتحل فيه، ويحمله معه إلى حيث يرحل.
ولا تذكر المقاومة والدفاع عن الوطن إلا وكان رائدًا في هذا الميدان الذي تغطي مساحته ما يوازي نصف عمره من السنين. جاء إلى القاهرة في نهاية 1968 بعد حصار السبعين يومًا على صنعاء في طريقه إلى موسكو؛ لمواصلة دراسته هناك، وكان قد خرج من معركة الحصار، ورتبت له محاضرة في مقر رابطة الطلبة اليمنيين تحدث فيها عن المعركة، وبطولات الوطنيين الذين دافعوا عن صنعاء، وكان مما قاله: “لقد كسر الحصار الخارجي على صنعاء، وتم القضاء عليه، وبقي الحصار الداخلي الذي يحتاج إلى نضال شاق وطويل”.
وعندما سأله البعض باستغراب عن هذا الحصار الداخلي، اكتفى بالقول: لن تفهموه إلا إذا عشتم في وسطه عندئذ يمكن أن يكون حديثي مفهومًا.
مات عمر وهو يقاوم ذلك الحصار الذي يستنزف المقاومة بشعارات مركبة فوق كبرياء الماضي الجريح”.
صحيفة الثوري، العدد (1507)، 8/ 1/ 1998.
مات قارع الأجراس
هشام علي
“هذه هي المرة الأولى التي ينكسر فيها القلم، ويجف مداده. لم أستطع الكتابة عن غياب المفكر والمناضل عمر الجاوي؛ ربما لأنني أدرك إدراك اليقين أن رجلًا مثله لا يمكن أن يغيب. لم أكن مصدقًا تلك الأخبار المؤلمة عن مرضه، عن الذاكرة التي توقفت، عن تيبس الجسد، عن عي اللسان عن الكلام.
كان نموذجًا حيًا لما قاله شاعر العربية أبو الطيب المتنبي:
كم قد قتلت وكم قد مت عندكم ** ثم انتفضتُ وزال القبرُ والكفنُ
الجاوي يستسلم للموت. الجسد الحي النابض يسكن سكونًا أبديًا. تلك الذاكرة العظيمة بحجم الوطن، واتساع التاريخ تكف عن النبض لتدخل في دهاليز النسيان.
الجاوي الوطن والوحدة حافظ التاريخ اليمني الحديث، كاتب وقائعه سلوكًا وفعلًا، وليس بالقلم واللسان. كنت أقرأ نبض الأيام في كلماته، أحسن بعمق التاريخ في حديثه.
الجاوي مدرسة للوطنية والوحدة. الرجل الذي أصر على تكوين معنى آخر للسياسة؛ لقد جعلها فن الصدق، وطريقة التعامل الصادق مع الوقائع.
الجاوي مدرسة للفكر الحر في اليمن. قامة عالية للكلمة الشجاعة الصادقة. قلب كبير يمتلئ بالحب والصدق.
الجاوي مؤسسة للثقافة والفكر والسياسة اجتمعت في شخصه. كان- كما يقول بريخت- جملة عقول اجتمعت في عقل واحد. الجاوي مثقف جماعي على نحو ما يقول غرامشي.
كان عمر الجاوي هو كل الاتحاد. ليس استبدادًا وتسلطًا، بل حركة ونشاطًا، وحضورًا أدبيًا فكريًا وسياسيًا دائمًا. حينها كان الاتحاد ضمير الوطن. كان الأدباء والسياسيون المناضلون والمتمردون يأتون إليه في غرفته المطلة على البحر في خور مكسر ليسمعوا منه، ويأخذوا مشورته. كان كثيرون يلجؤون إليه لحل مشكلاتهم. هذا يطلب إعادته إلى وظيفته السابقة، وذاك يطلب تعيينه في سفارة.. أم تبحث عن ابنها المفقود، وأب يبكي ولده الذي أُخذ بليل إلى مكان مجهول.. طلبة يتظاهرون أمامه محتجين على غياب الكتاب الجامعي.. آخرون يشكون هموم الوطن، والديمقراطية وغير ذلك من الهموم والمشكلات. كان الجاوي بشخصه كتاب مظالم المواطنين؛ ديوانهم المفتوح، وصوتهم المرفوع، وكان يندفع بقوة وراء كل قضية من تلك القضايا. كثيرون لم يكن يعرفهم، ومع ذلك وضع حياته مقابل حل مشاكلهم.
الجاوي أمير من أمراء صعاليك العرب يذكر بعروة بن الورد الذي عبر عن حاله بهذا البيت:
أقسم جسمي في جسوم كثيرة ** وأحسو قراح الماء والماءُ باردُ”.
صحيفة الشورى العدد (275)، 28/ 12/ 1997م.
التعب النبيل
محمد المساح
“وسيعود الجمال ينحت في جدار الذاكرة. يترك خلفه جبال المقاطرة في صباح يوم غائم من صباحات أوائل الأربعينات في سنوات الجوع، يمسك خطام جمله، ويغني في وادي الصميتة: “قلعة ويا بشيري.. خبت الرجاع يا ناس من هو خبيري”.
خبت الرجاع تلك المتاهة الرملية الصغيرة، ويصل ليحاذي عشش الوهط. يبرك جمله، ويتناول على ضوء الإتريك فوق الرمال التي لا زالت حارة بعد الغروب قطعة من الحلاوة الوهطية، وتلسع لسانه سخونة القهوة المزغولة المعطرة بالهيل والزنجبيل.
مساء الثلاثاء 23 ديسمبر من عام 1997 اليوم الأول من الانقلاب الشمسي مع نهاية القرن ستستعيد الوهط جسد ابنها المضمخ بالعظمة، والتعب النبيل، وتوسده القلب والراحة الأبدية، وتفتح نافذة صغيرة يعبق فيها الضوء والهواء. تندى شرفتها بالطل المزكى بروائح الفل والكاذي، وسينحت الجمال في عمق الجدار تلامس أنامله الخطوط البارزة في اللوحة. لقد تركت الجموع اليمنية عظمة أساطيرها في عمق اللوحة خلال ستة عقود، وكان ابن الوهط واحدًا من تلك الكوكبة التي سطرت وأسطرت الحلم اليماني تجسيدًا واقعيًا في جبال حجة، ورازح، وردفان، والضالع، وليالي صنعاء المشتعلة بالدفء في ملحمة السبعين، والإشراقات التي تهل حتى تنكسر؛ فينكسر القلب، وتتشظى الروح، وسرعان ما يسرق الجبناء الصغار تضحيات العظماء والأبطال.
ظل الرجل العظيم وهجًا يسطع ويكسر جدران الظلام. يرعب ويخيف المختبئين في العتمة؛ من يبنون قصورهم الذاتية، ويضحون بالذات اليمنية لأجل منافع شخصية، ومكاسب عارضة، وهم لا يدرون أبدًا أنهم يشطرون الروح، ويقتلون الجهد العظيم الذي ناضلت من أجله الجموع اليمنية، وتلك هي الغاية التي نذر لها روح الرجل العظيم، وتركها للجموع تقتفي أثره العظيم”.
صحيفة الشورى العدد (257)، 28/ 12/ 1997م.
عصا الجاوي وكراماته
عبد الكريم الرازحي
“والطريقة الجاوية مثلها مثل العلوانية والشاذلية والقادرية، ولكنها أحدث وأكثر معاصرة، كما أنها تتميز عن غيرها من الطرق الصوفية المعروفة بميولها الوطنية، ونفسها الشعبي، ونزعتها للمشاركة في الحياة العامة، والحياة السياسية؛ فالطريقة الجاوية تمزج السياسة بالتصوف، والنضال بالزهد، وترفض الانفصال عن الواقع والتعالي على الحياة، وهموم الناس، مع التزامها الكامل والتام بجوهر التصوف، وهو الزهد عن ملذات الحياة، وما يتبعه من انصراف عن المناصب والمكاسب والمغانم، وهي- أي الجاوية- نسبة إلى شيخ المناضلين، وإمام المعارضين، وقطب الوحدويين، نصير الفقراء والمستضعفين: عمر بن عبد الله السقاف المشهور بالجاوي. وكان شيخًا كبير القدر، مشهور الذكر، فقيرًا زاهدًا، مجاهدًا ومرابطًا، اقترن اسمه بالوحدة، وبالدفاع عن الديمقراطية، والحريات، وحقوق الإنسان، وقد توفي في مدينة عدن، ودفن في قريته ومسقط رأسه الوهط في محافظة لحج، وبني على قبره قبة عظيمة، وله هناك رباط مشهور، وزاوية مشهورة، والناس يقصدون قبره من كل أنحاء اليمن للزيارة والتبرك، ومن استجار به أمنَ من الخوف من أذى السلاطين، ولا يقدر أحد أن يناله بمكروه. وللناس فيه معتقد عظيم؛ فهو شيخ الشيوخ على الإطلاق، وإمام أهل الحقيقة بالاتفاق، صاحب الكرامات الخارقة، والأحوال الصادقة”.
ما بين القوسين هو مجرد تخيل لما سيكتب بعد عشرين، أو خمسين عامًا من غياب الجاوي؛ هذا الرجل الشعبي، والإنسان العادي، والمواطن البسيط الذي نذر نفسه، ووهب حياته لقضية متعددة الرؤوس، وهي قضية الثورة، والوحدة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان؛ فالجاوي درويش عظيم، وواحد من أعظم المجاذيب في اليمن المعاصر. إنه درويش الثورة، ومجذوب الوحدة، ومنصوب الديمقراطية.
هو لم يقل بالحلول أو وحدة الوجود مثل بعض المتصوفة، وإنما قال بوحدة الوطن، وهو لم يهتف كما هتف الحلاج: ما في الجبة غير الله، وإنما هتف وظل يهتف بأعلى صوته: ما في الجبة غير الوحدة.
يومها كان كل من يبوح بسر الوحدة يباح دمه، وكانت الوحدة تهمة، والوحدوي متهمًا حتى يثبت أنه انفصالي، وكما الدراويش الفقراء، والمتصوفة المجاذيب الذين لبسوا خرق التصوف، وسلكوا الطريق، لبس الجاوي خرقة الوحدة، وراح يخترق الحدود والحواجز بين شطري الوطن الواحد.
وكان أول من سلك الطريق الوحدوي، وأول من نشر الخرقة الوحدوية، ورفع راية اليمن الموحد.
وإذا كان لبعض المتصوفة كرامات مثل المشي فوق الماء، فإن للجاوي كرامات أعظم، ومن كرامات الجاوي عاشق الوحدة أنه كان يمشي فوق خطوط النار، ويعبر فوق براميل التشطير الملغمة ببارود الانفصال.
ومن كرامات الجاوي أنه نجا من أكثر من محاولة اغتيال؛ محاولة في صنعاء بعد الوحدة، كان ضحيتها الشهيد حسن الحريبي، ومحاولة في عدن بعد الحرب حين هب ليكسر حاجز الانفصال في منطقة العند الذي أراد الانفصاليون أن يعيدوه ثانية.
ومع أن الجاوي كان قد شكل بعد الوحدة حزبًا سياسيًا، إلا أن الرجل كان أقرب إلى شيخ طريقة صوفية منه إلى زعيم حزب سياسي، وكان طريق الجاوي حافلًا بالمجاهدات والمكابدات، وكالصوفي راح الجاوي يتدرج في معراجه، ويرتقي من مقام إلى مقام، ومن حال إلى حال؛ من مقام التمسك بالثورة، إلى مقام الوحدة والدفاع عنها، إلى مقام الديمقراطية والعدل والمواطنة المتساوية. وكان في جميع مقاماته وأحواله صادقًا كل الصدق، مخلصًا كل الإخلاص. لهذا السبب كان للجاوي أنصار وأتباع ومريدون من كل الملل والنحل والأحزاب، ومن كل المناطق، والطوائف، والمراتب الاجتماعية، غير أنه لا يمكن الحديث عن الجاوي وكراماته الوطنية بمعزل عن عصاه التي يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه ويستخدمها في مآرب أخرى؛ ذلك أن عصا الجاوي هي آيته ومعجزته؛ بها كان يقارع الحكام، ويمشي فوق الألغام، ويهش بها الأغنام.
فمنذ أكثر من ربع قرن، والجاوي يهش بعصاه غنم الشطرين، ساعيًا إلى جمع غنم الزريبتين في زريبة واحدة. إنه أول من ألقى عصا الوحدة التي أرعبت فراعنة الانفصال، وهو أول من ضرب بعصاه براميل التشطير وعبر البرزخ. ومن دون عصا الجاوي يستحيل عبور اليمنيين من الانفصال إلى الوحدة.
عصا الجاوي هي عصا شعب بأكمله، فلم يكن الجاوي وحده هو الذي يتوكأ على عصاه، وإنما التاريخ برمته.
ثلث قرن من تاريخ اليمن الحديث يتكئ على عصا الجاوي، وأي إزاحة لعصا الجاوي معناه إزاحة للتاريخ. أي قفز فوق عصاه قفز على التاريخ، ورغم أن البعض من المزورين وشاهدي الزور يحاول أن يطمس دور عصا الجاوي في الوحدة، إلا أن التاريخ سيظل يمشي ويسير ويتوكأ على عصا الجاوي العظيم لفترة من الزمن بعد موته.
مع أنني لا أصدق أن الجاوي قد مات؛ ذلك لأن العظماء لا يموتون؛ إنهم يدفنون فقط. والجاوي دفن في مسقط رأسه الوهط.. سيبقى خالدًا في ذاكرة الوطن والتاريخ وحتى ذاكرة الكمبيوتر”.
صحيفة الشورى العدد (259)، تاريخ 11/ 1/ 1998م
معجون بروح الأرض (*)
قادري أحمد حيدر
إنه هيئة ذاتية كبيرة وشخصية تقع فوق مصاف الإنسان العادي، يتعالى في السمو على ما حوله بمواقفه وتصرفاته ليكون قائدًا وزعيمًا وطنيًا أو رمزًا كليًا للوحدة أو للوطن، بل إنها جميعًا أتت إليه “منقادة” وانجذبت نحو قطبه لاستكمال توحدها به، بدلالتها الواقعية الملموسة، ممثلة في شخصية ومواقف عمر الجاوي، منذ منتصف الخمسينيات وهو يؤسس للمعاني والدلالات الكلية العظيمة في حياة الوطن. إنه شخصية مواجهة، صدامية، متحدية، فمنذ بواكير نشأته الأولى، رافق وتعلم من الأسماء الكبيرة –يمنيًا وعربيًا– من خلال احتكاكه بهم، اغترف من معينها ومصادرها المعرفية، الفكرية والثقافية، اتفق واختلف معها؛ لكنه اختلاف الرجال الكبار. تعلم منهم ومن خلالهم حكمة الاعتراف بالآخر مع حقه في المغايرة لما يقولون، وهو المغاير العظيم مؤكدًا الالتزام بشرف الاختلاف وإنسانية الموقف، فعلى حدته السياسية وصرامة مواقفه الوطنية إلا أنه لم يقطع صلاته الشخصية وعلاقاته الودية بمن ومع من يختلف. رافق وعاش قريبًا من الأسماء الوطنية الكبيرة: الأستاذ/ أحمد محمد نعمان، والشهيد/محمد محمود الزبيري، والأستاذ الفقيد/ عبدالله باذيب، والأستاذ/ محمد سعيد جرادة، وبيت لقمان، وغيرهم الكثير. ورغم اختلافه مع العديد منهم على مستوى الرؤية والفكر والموقف السياسي إلا أنه ظل قريب الصداقة والمشاعر والوجدان الإنساني الشامل، يستوعب الكل ولا يوافق على إلغاء الآخر أو ينكر لهم مواقفهم أو حقهم الوطني والإنساني، كان إنسانًا يعرف معنى شرف وحق الاختلاف.
وكما قلت لم يسعَ للقيادة حتى حين كانت تستدعيه لذلك، حمل راية الكفاح السياسي الوطني والديمقراطي، وخرج منها حاملًا راية مجد الإنسان. براءة الطفل، شجنه ودهشته وجنون حلمه، وصدق فعل البطولة في سلوكه ونفسه.
إنه يذكرك بأحلامه ومواقفه بملامح الصورة الإنسانية في الأعمال الملحمية والدرامية التاريخية التي لا هدف ذاتي شخصي لها ترجوه بل هي أهداف وغايات كلية سامية متعالية على صورة المصالح الصغيرة والأحلام الباهتة، وهو دون شك واحد من رجال الملاحم الأسطورية. لقد تعلق بالوحدة من واقع قراءته لوضع اليمن في صورة الحركة الطلابية اليمنية في القاهرة التي شاهد وقرأ إمكانية وحدتها؛ حيث إن الحركة الطلابية في القاهرة – من خلال الجاوي وزملائه – هي أول من دخل معركة الكفاح السياسي الوطني من أجل الوحدة بوضوح وبرؤية شاملة وذلك ببيانهم الصادر يوم 23 يوليو 1956م، إذ طرحوا مثبتين: “يؤكد المؤتمرون ويتمسكون بأن اليمن الطبيعية كلٌّ واحدة لا تتجزأ، وقضيتها قضية واحدة ذات كفاح واحد، في سبيل التحرر الوطني والوحدة الوطنية الشاملة(1).
وباختصار، فإن عمر الجاوي نموذج فريد للشخصية الوطنية المعجونة بروح الأرض ودم التاريخ، من خلاله نستطيع أن نستنطق مفردات الذاتية الوطنية اليمنية في صورتها البهية والمبدعة وفي مضمونها المتجدد والعميق الاتصال بالحياة وبدلالات التقدم والثورة على التقاليد الجامدة المعوِّقة للاتصال بالعصر وتجديد الروح من خلال العلاقة الشاملة بالكون.
والقضية الأخرى والهامة التي تعود إلى سحر شخصية الجاوي وذاتيته الوطنية والإنسانية الكبيرة تتمثل في كيفية محافظة عمر على نفسه وهويته الذاتية المستقبلية في خضم كل تلك التقلبات الوطنية والقومية والكونية العاصفة شديدة السرعة في التحول والتبدل، وكذلك حفاظه على معادلة المثقف والسلطة أو الثقافي والسياسي في جوهر هويته الشخصية، بشكل لا يتحقق إلا مع الأسماء الكبيرة والاستثنائية في التاريخ؛ فهو المثقف الذي استطاع أن يتحرك بقوة وبحرية، ورفض، في المساحة الممتدة بين المثقف والسلطة، حيث تمكن من إدارة علاقته بالسلطة بشكل خلاق لم يفقده هويته كمثقف. كما لم يفرط بالسياسي الديمقراطي، والوطني الذي يكافح من أجله، مع احتفاظه بجوهر وأصل علاقته بالناس أو الجمهور والمجتمع، بقي خلالها الشخصية السياسية الكبيرة دون أن يفقد هويته الإبداعية كمثقف ناقد، رافض، ومتمرد على حيثيات السياسي السائد.
كان دائمًا كشخص وكهوية وطنية وإنسانية دائم التجديد للحلم في نفسه حتى وهو يقاوم سكرات الموت؛ إنما كان يقاومه بالأمل والحلم برغم كل مأساوية التاريخ السياسي الوطني اليمني المعاصر الذي أفقد البعض القدرة على الكلام أو إخراج العديد منهم عن دائرة منطق القول الصحيح، إلا أنه ظل شامخًا عصيًا على التدجين والترويض.
إنه ذو يزن المعاصر بوطنيته الشديدة وتعلقه حد الفناء بالوطن الذي لا يضارعه في حبه المقدس إلا القليل النادر، فهو يتماهى في معنى انتمائه وولائه لفكرة الوطن الديمقراطي الحر، التي تصل حد الجنون والموت.
(*) من مادة طويلة عنوانها (الوطن في عقل الجاوي)
إلا الجاوي
عز الدين سعيد أحمد
اتخذ الجاوي مواقفًا جادة في أصعب اللحظات، وأثبتت الأيام صدق نبوءته، وبُعد نظره، وفي كل محطة من محطات العمر والنضال، دائمًا ما ترك الجاوي بصمة متميزة وفريدة.
عندما تخرج من موسكو صحفيًا رائدًا في نهاية الخمسينات كان ضمن كوكبة مهدت للثورة بالرأي الصائب، والفكرة الجديدة، وعندما تعرضت الثورة في حصار السبعين إلى ضغط كاد أن ينهي الحلم الجميل، قاد الجاوي صفوف الناس في صنعاء، وجعل الدفاع عن الثورة ليست مهمة الجيش وحده، بل الجماهير، وأدرك أن الثورة لم تنجح بالجيش وحده بل بالناس البسطاء الذين يجب أن يدافعوا عن حلمهم؛ فأسس المقاومة الشعبية، وكان لسان حالها، ونام في شتاء صنعاء القارس في كل الجبال المحيطة يدافع عن عاصمة الثورة.
هذا الجاوي هو نفسه الذي أسس وكالة أنباء يمنية، وهو الوحيد الذي كتب ريبورتاج متكامل عن ملحمة السبعين يعد الآن مرجعًا مهمًا؛ لذلك تفرد كمناضل وكصحفي.
وعندما تقوقع الوطن في صنعاء وعدن برؤى سياسية لا تحبذ الديمقراطية، وتمقت التعددية خرج الجاوي عن صف الحكام شاهرًا سيف أبي ذر، يطالب بحرية الرأي والتعددية، وبقي اليساري الذي لا يرغب به اليسار، والتقدمي الذي لا يحبه دعاة التقدم، والثوري والوحدوي الذي لا يطيقه الرجعيون أبدًا.
ولن ينسى الناس في عدن أبدًا أحداث يناير الدامية 1986م، ودور عمر الجاوي يومها. كان الخوف وحده المسيطر، والدماء تسيل، وأهم رؤوس الوطن تضيع في لحظة عمياء، ولا أحد يجرؤ على الكلام إلا الجاوي الذي بقي يخترق حواجز الرصاص والقنابل، ويتحدى الدبابات بصدره المكشوف؛ ليحمل هموم الناس. يتابع من اعتقل؛ ليفرج عنه، ويلحق من هو على شفرة الموت؛ لينقذ حياته؛ فقدم خدمة لا ينساها أحد، وكان حمامة السلام الدائمة في الوطن.
بعد نصف قرن من التعب المتواصل، والقبض على الجمر، رجل الجاوي جسدًا متعبًا مثخنًا بالجراح والغصات، لا يملك بيتًا، ولا أرضية، ولا يعرف رصيدًا بالبنك، مكتفيًا بأكبر رصيد من حب الناس والوطن، مشيعًا بإكليل الفرح من كل رصيف في الوطن، تاركًا تاريخًا عطرًا هو الذي سيبقى في ذاكرة الناس.
لن أنسى ما حييت أنه في أصعب اللحظات عندما كان يشتد الخلاف، ويريد الجميع قاسمًا مشتركًا واسما يتفق عليه فيبرز اسم عمر الجاوي، وعندما كانت التهم تطال الجميع، يبقى لساننا جميعًا يقول: إلا الجاوي.
فالجاوي هذا يعرف كيف يكون شجاعًا وصادقًا وجسرًا للتواصل مع الجميع. هو صوفي في زمن لم يعد فيه للزهاد مكانًا، ونصير للفقراء في وقت يدوس فيه الجميع على الفقراء. هو أبو ذر في زمن لا يطيق قولة الحق. رحم الله الجاوي عاش وحدويًا، ومات وحدويًا غنيًا بحب الناس واحترامهم.
صحيفة الجمهورية العدد (10375)، 28/ 12/ 1997.
المصادر:
1- عمر عبد الله الجاوي المناضل الوحدوي، دائرة الفكر والثقافة والإعلام، فبراير، 1998م.
2- عمر الجاوي مسيرة الوحدة والديمقراطية والمساواة، دار جامعة عدن للطباعة والنشر، 1998م.