مقالات

سقافان وبينهما شتائين مؤلمين !!

 

بقلم / محمد عبدالوهاب الشيباني

قبل ربع قرن من الآن( 23 ديسمبر 1997) غادرنا الرمز اليمني الكبير عمر عبد الله السقاف (عمر الجاوي) عن ستين سنة فقط، بعد ملأ الحياة  السياسية والثقافية بحيوية لا يمكن أن تشير إلا إليه وحده.

قائد طلابي منذ منتصف الخمسينات حينما كان طالباً في مصر أواسط الخمسينات، إلى جانب نشاطه السياسي في صفوف حركة اليسار، والتي تسببت بطرده في 1959 من القاهرة وعودته إلى تعز مع زميلين له ” محمد باسلامة ومحمد جعفر زين”، قبل أن يتضامن معه  ومع زميليه أكثر من عشرين طالباً، وحينما أعيد ابتعاثه مع بعض زملائه إلى الاتحاد السوفيتي مطلع الستينيات، التحق بكلية الصحافة في جامعة موسكو، بعد أن راكم قليلاً من الخبرة المهنية بعمله في صحيفة الطليعة التي اصدرها بتعز أواخر الخمسينات عبدالله عبد الرزاق باذيب.

تخرج من جامعة موسكو مطلع العام 1967 ، حاملاً شهادة الماجستير ، عن رسالته “الصحافة النقابية في عدن 1957-1967” ، التي درس فيها محتوى صحيفتي “العامل” و”العمال” اللتين أصدرهما  مؤتمر عدن العمالي والنقابات  في فترتين متباعدتين نسبياً في الخمسينات والستينات.

بعيد عودته إلى صنعاء منتصف العام 1967، كان انقسام الصف الجمهوري كبيراً، والذي أفضى إلى انقلاب الخامس من نوفمبر 1967م ، والذي لخص الجاوي رأيه  فيه حينما قال:
“هناك حقيقة يجب أن تقال ونحن في معرض الحديث عن حكومة انقلاب 5 نوفمبر، فالذين تكتلوا من اجل صنع الانقلاب هم مجموعة غير متجانسة في توجهها السياسي والايديولوجي وحتى علاقاتها العربية والأجنبية. فلقد كان القاسم المشترك لجميع هذه الفئات والعناصر ما سمي آنذاك بـ ” الذاتية اليمنية”  التي كانت تعني حينها  اخراج القوات المصرية وتأكيد المصالحة مع السعودية  حسب اتجاه كل طرف من أطراف الحكم. ولهذا السبب لم تستطع الرجعية السعودية أن تنفذ مخططها بكامله بعد 5 نوفمبر، الأمر الذي دفعها إلى بدء الحصار وتنفيذ مخططها بقوة طلقات الهاون والقنابل الصاروخية ” – من كتابه حصار صنعاء.

ومع ذلك قبل بعرض صديقه محمد عبده نعمان – وزير الاعلام في الحكومة-  بتولي رئاسة صحيفة الثورة اليومية الصادرة عن الوزارة، واسس الجاوي معها ايضاً وكالة الأنباء اليمنية؛ وحينما بدأت القوات الملكية بحصار العاصمة في أواخر نوفمبر 1967، كان احد أبرز قيادة المقاومة الشعبية للدفاع عن صنعاء،و برز ” كقائد مقاوم نشيط حمل البندقية، وكان ينتقل من موقع إلى آخر، ويحرص على حضور كل اجتماعات المقاومة، والتنسيق مع الجانب العسكري، وقادة الوحدات العسكرية في مواقع القتال، وإلى جانب الشعار الذي رفعه: “الجمهورية، أو الموت”، رفع أيضًا شعار محاصرة المحاصِرين- بكسر الصاد-، وهو مع حمله للبندقية، لم يترك القلم؛ إذ كان يكتب في نشرة المقاومة التي حملت الشعار الذي دعا إليه: الجمهورية أو الموت.” كما جاء في سيرته التي كتبها الراحل سعيد الجناحي في كتاب الجاوي نبراس الحرية 1998م.

بعد عودته إلى عدن مطلع السبعينيات ترأس  مؤسسة الاذاعة والتليفزيون ، قبل أن يتفرغ بشكل كامل  لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ( الموحد)  الذي كان أحد مؤسسيه في اكتوبر 1970، وترأس مجلة “الحكمة يمانية ” التي أعاد اصدارها باسم الاتحاد في ابريل 1971م.

على مدى عشرين عاما تلازم اسم الجاوي باتحاد الأدباء ومجلة  الحكمة وقضية الوحدة اليمنية، التي كان أحد أبرز المنافحين الكبار عنها، وحينما اسس حزباً في مطلع يناير 1990 أسماه حزب التجمع الوحدوي اليمني الذي تبنى شعار ( الديمقراطية والمساوة وحقوق الإنسان).. استهدف  شخصياً في العام 1991م  في صنعاء ففقد رفيقه حسن علي  الحريبي في محاولة الاغتيال المعروفة، واُستهدف  حلمه الكبير في جائحة 1994، وانطفأت روحه الخلاقة في 23 ديسمبر 1997م  أو في الشتاء  الثلاثين لذكرى ملحمة السبعين يوماً التي كان أحد ابطالها الميامين ، وقال الراحل الكبير د عبد العزيز المقالح عن رحيله الشتائي:
“كثيرة هي الشتاءات المريرة والمؤلمة التي عانى منها الوطن، وعانى منها المناضل الراحل الصديق العزيز الأستاذ عمر الجاوي، وخاض معها معارك لا هوادة فيها. كانت تلك الشتاءات أقسى بما لا يقاس من هذا الشتاء الأخير الذي اختار أن يرحل فيه، وهي شتاءات امتلأت بالدهاليز، والممرات الضيقة، والطرقات المليئة بالخناجر والرصاص والحفر، لكنه تخطاها بشجاعة نادرة المثال، وتجاوز آثارها ضاحكًا حينًا، وساخطًا حينًا آخر.

في واحد من تلك الشتاءات الكئيبة كان عمر في صنعاء، وصنعاء محاصرة بفلول المرتزقة، وأعداء الثورة الذين جمعتهم الكراهية للوطن، وللتغيير نحو الأفضل والأجمل في حياة الناس وفي حياة البلاد. كان ذلك في مثل هذه الأيام من عام 1967، وفي ظروف ذلك الشتاء الكئيب صاغ عمر شعاره العظيم: الجمهورية، أو الموت، وهو الشعار الذي تحول إلى قصائد وأناشيد، وإلى مواقف صمود دحرت فلول المرتزقة وأذنابهم من أنصار الظلام.”- ينظر صحيفة الثورة 30/ 12/ 1997.

(2)
بعد ربع قرن من رحيل الجاوي تماماً سيرحل بذات الشتاء رفيق عمره الطويل الدكتور أبوبكر السقاف في موسكو عن 88 عاماً. وحينما أقول رفيق عمره الطويل، انما اتحدث عن دراستهما معاً في منتصف الاربعينات وبعدها في المدرسة الجعفرية في الوهط ثم المحسنية  العبدلية في الحوطة، ثم سفرهما  ضمن بعثة  للاتحاد اليمني في 1954م ضمن خمسة طلاب من القرية ذاتها ، ونشاطهما السياسي ضمن الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني( حدتو)، ونشاطهما الطلابي ضمن مؤتمر الطلاب اليمنيين الموحد، ومن ثم عودتهما إلى تعز في 1959( الأول مطروداً مع زميلين والثاني متضامناً ضمن 24 طالباً)، وابتعاثهما من جديد إلى موسكو، وأقامتهما بسكن واحد.

 

عاد الجاوي إلى صنعاء في 67، غير أن السقاف عاد في العام 1974م، حاملاً شهادة الدكتوراه ”  والتحق بجامعة صنعاء أستاذًا للفلسفة في سنوات تكوين القسم الأولى. ووجد في المنابر الثقافية الوليدة، مثل: “مجلة الحكمة”، و”مجلة الكلمة”، و”مجلة اليمن الجديد”، في تلك السنوات مساحة للتنفس والكتابة في قضايا أدبية وفكرية، أنتجت حراكًا حقيقيًّا في سنوات السبعينيات، ومنها خرج ما يعرف بجيل السبعينيات الشعري، الذي صار في القراءات النقدية صوت الحداثة المؤسّس. صحيح أنّ كتابات السقاف كانت تقرّب صورة الحالة العامة الثقافية والسياسية خارج اليمن وتفاعلاتها لقارئ ومثقف الداخل، لكنها كانت أشبه بحالة تجسير بين عالمَين تحكمهما ثنائية المركز والهامش التي كانت فاعلة قبل اجتياح الرقمية عالم التواصل اليوم.

تكوين الناشط الثقافي والسياسي الذي عُرف به السقاف حينما كان طالبًا في القاهرة، كبر معه حينما صار أستاذًا جامعيًّا، فلم يهادن المؤسسة الرسمية، وكان يقف على الضدّ من خطابها الترويجي والترويعي، وفي مرات عديدة أدار وشارك في ندوات تبحث في قضايا إشكالية وحساسة للسلطة، تسبّبت إحداها في توقيفه عن التدريس في الجامعة، فانتقل للعمل مُدرِّسًا في المدرسة الأهلية، وفي أخرى فُصل من عمله، بعد أن خاض معركة كبيرة ضدّ عسكرة الجامعة وإخضاعها للدوائر الأمنية في مسائل الإدارة والتعيين، لكنه عاد بحكم قضائي، غير أنّ المضايقات والاعتداءات التي تعرّض لها ستكون بعيد حرب صيف 1994، واجتياح الجنوب، حينما صارت كتاباته تُعرَّي توجهات السلطة في إخضاع الجنوب، ومصادرة حق أبنائه.- ينظر التنوير مكابدة شاقة وانحياز لصوت المقهورين لكاتب المقال.

 

علمان يمنيان كبيران  اختطفهما الموت في شتائين قاسيين، لكنه لن يستطيع إخماد جمرة التنوير التي اشعلاها معاً في كثير من المحطات في تاريخ اليمن المعاصر.

 

نقلا عن موقع المهرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى