وترجلت قامة اخرى في هذا الوطن البائس !!
بقلم / عباس عبدالولي
ابى هذا العام البائس ان يطوي القلائل المتبقية من صفحات ايامه الا باصطحاب قامة كبيرة من رجالات هذا الوطن البائس.
المتعب ليس في الموت، فهو حق، وهو مع صاحبه الذي غاب. المتعب، هو المتعبون الاحياء نحن؛ من يتلقون تبعات النبأ من آلام الفراق وما يكتنفها من الاحزان. خسارة جسيمة بكل المقاييس، ككثر في ركبه هذا العام.
في صيف العام 1969، وهو العام الذي التقيت – لاول مرة – بالدكتور ابو بكر السقاف. فقد حل ضيفا على اخي محمد عبد الولي في منزلنا الكائن جوار مدرسة معاذ بن جبل في تعز، بعد اشهر قليلة من خروج اخي من معتقله الأول، وهي الفترة الذي انهى فيها ارتباطه مع الدولة لآخر وظيفة شغرها، كمدير تجاري ومالي وعضو مجلس الادارة لشركة الطيران اليمني، أو الاصح، شركة الطيارة اليمنيه، وسعيه لتاسيس دار للنشر في تعز.
استمر بقاء ابو بكر معنا قرابة تسعة اشهر امضاها في القراءة والدراسة وهي الفترة التي سبقت سفره الى موسكو لتحضير الدكتورة. كان يمضي اكثر من عشر ساعات يقرأ بشغف وشراهة.
بالنسبة لي كانت تلك الأيام هي أجمل أيام العمر تعلمت فيه الكثير من اخي ومن صديق عمره ابوبكرمن خلال الجلسات النقاشية الطويلة معا أومع اخرين كانوا يترددون الى هذا المتزل. لم اكن طرفا في تلك النقاشات الغير متقطعة بينهما كنت مجرد مستمع، لكن مستمع من الطراز الأول، ادرك بوعي ما يناقشونه وما يتجادلون حوله. جمعهما فكر مشترك، لكن كانت هناك خلافات بينهما في المسائل المرتبطة بالتطبيق. استمع لكليهما واحترم رأي ووجهة كل طرف دون ان اميل لاحدهما بدوافع ذاتيه، فانا اتعلم واختزن وتاتي الايام وتمر السنين لأجد ان كل منهما كان محقا بدرجة او بأخرى في المسائل الخلافية. ابو بكر صارم ولا يهادن في مسائل الفكر والتطبيق، ومحمد يرى ان الفكر بحد ذاته مثاليا للغاية لكن التطبيق لم يكن بالقدر الذي يحمله الفكر، وهو صادم، ويجب معالجة تلك المسائل بحرية الجدل المستمر لتقويم التجربة التي اتخذت منحنى دكتاتوريا بطشيا في التطبيق.
احب حديث ابوبكر وانسيابيته بلغة راقيه، ءأعجز غالب الأحيان ادراك ما يقوله. واحب حديث اخي محمد الذي يتميز حديثه بلغة بسيطة وواضحة ويتسم حديثه بالذكاء لكنها مرنة في طرحه لمسائل الواقع المحيط.
على المستوى الشخصي كانت تربطني بأبوبكر الشاب الناضج ود خاص اتسلل اليه بين الحين والآخر وأسأله في اشياء اتفاعل معها وأظل منفعلا بها.
سالته ذات مرة عن القضية الفلسطينية بعد نكستهم في نكسة حزيران 67، هل ستقوم قائمة لهم ولثورتهم وهل سينتصر الفلسطينيون يوما. ردع علي قائلا، لو استمروا في نضالهم والبندقية في أيديهم سياتي انتصارهم يوما؛ مهما طال زمنه. مضى على قوله هذا اكثر من نصف قرن، وها هو الجيل الثالث من الفلسطينين ما زال يحمل السلاح وهو اكثر بأسا وشدة عن سلفه، ادركت حينها عمق رؤيته.
دخل علي يوما وانا في غرفتي منهمكا اقرأ في كتاب، لا اذكر ما ذا كان وراءه، لكن اذكر سؤاله: ماذا تقرأ، رديت بحياء، رواية “السأم” لاربورتو مورافيا الايطالي، واردفت انني على وشك الانتهاء من قراءة الكتاب كما ولو كنت اذنب في قراءة كتب كهذه. عَقَّب علي ايويكر قائلا: “يا الله بحسن الخاتمة”، ادركت حينها انه قد قرأ الرواية. روايه مثيرة للغاية أقراؤها بشغف، شاب مراهق مثلي وقتئذ.
ولاعداد الرز معه قصة. اتطوع أحيانا بإعداد الطعام في المنزل. كان إعداد الرز البسمتي معضلتي الرئيسه، نص “خامد” ونصه “ني”. طلب مني يوما ان انبهه قبل الذهاب الى المطبخ، ففعلت. صاحبني الى المطبخ وبدأ يعلمني كيفية إعداد الرز بشكل يضمن نضجه بصورة متوازنة، ادركت مهاراته في الطبخ. منذئذ ولنصف قرن من الزمان بعده، بقيت اتذكر ابوبكر كلما صادف طباخة الرز.
قصص كثيرة يمكن سردها طويلا معه، وعنه تظهر جوانب انسانية مشرقة عن الانسان ابوبكر لا يسمح المقام هنا الخوض فيه.
غادرنا ابوبكر بعد بقاء دام بضع اشهر متوجها الى موسكو، وغيب محمد في طائرة الموت بعد ثلاث سنوات، وبقيت على صلة دائمة مع الدكتور ابو بكر السقاف في موسكو وصنعاء. لم اقابل رجلا صلبا وشجاعا وثابتا في قيمه ومبادئه مثله وكذلك نظيره من قبله، عمر الجاوي رحهمهما الله.
كان هذا الوطن البائس جاحدا في حقهما وفي حق الكثيرين من مثلهم. وفي حق كل البسطاء من الناس جميعا في اليمن الذين ناضل ابو بكر وكل الشرفاء من اجل عزتهم وكرامتهم.
المجد والخلود لهم جميعا ولكل من سار في ركبهم.
الخزي والعار للأوغاد، وحثالات القوم الذين عبثوا وما زالوا يعبثون بهذا الوطن.
وداعا يا ابا بكر، فاليغشاك الله بواسع رحمته والتنم روحك في سلام وطمانينة.
عياس عبد الولي
14 ديسمبر، 2022