الأغنية اليمنية وموجات التجديد بقلم| خالد الضبيبي
بقلم| خالد الضبيبي
تعيش الأغنية اليمنية حاليًا بين مطرقة الماضي وسندان الحاضر، رغم التاريخ العريق والقديم للفن اليمني، الذي يثبت علو كعب هذا المجال الإبداعي في جنوب شبه الجزيرة العربية، (اليمن تحديدا)، مع ذلك هناك تراجع واضح في الجودة والأداء والعرض والتقديم، رغم ما يبدو أنه خروج وانتشار وتسويق بفعل الأدوات الحضارية الحديثة، القنوات الفضائية والشركات الإنتاج الخاصة والانترنت، إن هذا الجمود في الإبداع رغم الانتشار الوهمي، يضع الكثير من الأسئلة، حول الأسباب التي أعاقت مسيرة الأغنية اليمنية على المستوى المحلي أو على المستوى العربي، إذا افترضنا وصول بعض الألوان إلى خارج الحدود اليمنية.. وهذا يجعلنا نناقش بجدية وموضوعية موجة التجديد التي طالت الأغنية اليمنية عبر الزمن.
في البداية يجب التأكيد على أن الأغنية اليمنية قديمة جدًا، حيث وجدت نقوش أثرية تؤكد وجود بعض الآلات الموسيقية في النقوش المعينية والحميرية والسبئية والحضرمية القديمة يذكر الناقد والباحث الدكتور “فارس البيل” في مقال بعنوان “نشأة الغناء اليمني” لموقع “المحيط” بتاريخ 13/10/2017م وتمت إعادة نشره في مجلة أقلام عربية يوليو 2021م “أن اليمن عرفت الغناء، ووُجدت بها الآلات الموسيقية المختلفة في الحضارات السبئية والمعينية والحميرية قبل الميلاد، وشوهدت نقوش كثيرة للآلات المستخدمة تعود إلى تلك الحقب، وبذلك فإن الغناء اليمني يعتبر من أقدم الفنون الغنائية منذ الأمم البائدة، يشير القلقشندي (ت 1418م) إلى أن الغناء في اليمن يرجع إلى عهد عاد، ويذهب المسعودي (ت 956م)، في (مروج الذهب) إلى أن اليمن عرف نوعين من الغناء: الحميَري، والحنَفي، لكنهم – أي اليمنيين- كانوا يفضلون الحنفي، وكانوا يسمون الصوت الحسن بـالجدن، وأخذ هذا الاسم من اليشرح بن ذي جدن، أحد ملوك حمير، وربما هو والد الملكة بلقيس، ويعود إليه غناء أهل اليمن، ولُقب بذي جدن لجمال صوته”
والعود اليمني يسمى “الطُربي” ويسمى أحياناً باسم القُنْبُوس، هو عود قصير الزند نشأ في اليمن وينتشر في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية. يتكون من أربعة أوتار، ثلاثة منها مزدوجة وهي من الأسفل للأعلى الوتر الأول والوتر الثاني والوتر الثالث أما الوتر الرابع فهو مفرد.
بينما جاء العودُ المعروف حاليا إلى اليمن عبر مصر، وبدأ استخدامُه في عدن منذ الثلاثينيات. ونتيجة العُزلة، ظل هذا العود غيرَ معروفٍ في صنعاء، والشمال. أما في ما يخص شعر الغناء الصنعاني ” الشعر الحميني” فقد اقترح مصطفى صادق الرافعي تسميته بالموشح الملحون لمزجه بين الشعر والموشح. وعادة ما تدور قصائد الشعر الحميني حول الحب والغزل.
“وقد رأى ذلك الكثير من الباحثين مثل الرفاعي في كتابه “الحميني الحلقة المفقودة في امتداد عربية الموشح الأندلسي”، ومن قبله المؤرخ محمد عبده غانم، كما أكد ذلك الباحث والفنان اليمني محمد مرشد ناجي بقوله إن أول من قال الموشح الشعري هو مقدم بن معافر المقبري وهو أيضاً من اليمن من معافر”
إذن اليمن لا تنفصل عن العالم، ولها ذوقها وخصوصيتها وطربها الخاص، وما يميز الغناء اليمني ارتباطه بالأرض والإنسان بالتاريخ والعراقة والأصالة ومحافظته على هذا الشكل على مر السنين، خصوصًا في ما يخص بعض الآلات الموسيقية و الألحان و الكلمات والأداء.
تمثل الأغنية اليمنية جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الأصيلة لليمن، ليس لليمن وحسب ولكن في جنوب شبه الجزيرة العربية بشكل عام؛ كونها قد حملت كثير من الألحان في هذه المنطقة الجغرافية، رغم تمايز كل منطقة بنمطها الخاص وآلاتها الخاصة.
ويوجد في اليمن ألوان غنائية كثيرة مثل الصنعاني والعدني واللحجي واليافعي والحضرمي والتهامي والتعزي، تتفق في موضوعاتها وتتفق في هويتها المعبرة عن الذات اليمنية، ورغم اتفاقها إلا أن لكل لون خصوصية وموروث خاص به، الذي اكتسبه على مر التاريخ من البيئة التي يعيش داخلها، والتي صبغته بخصوصية الأرض والإنسان، أو من خلال تعارضها مع فنون الشعوب الأخرى، وقد حافظت على كينونتها الخاصة، وفرضت نمطها الخاص.
في عام 2006 أقرت منظمة اليونسكو وضع الغناء الصنعاني تراث تاريخي لامادي إنساني وفق خطة عالمية أطلقتها عام 2001 من أجل حفظ التراث الغنائي العالمي، وقد كانت هذه الخطوة خاصة بالغناء الصنعاني كونه من التراث المتمسك بهوية واحدة وما يميزه من ألوان الغناء الأخرى، وعلى العزف عن طريق القُنْبُوس سابقا والصحن والعود لاحقا، إضافة إلى اللحن والجملة الشعرية المستوحاة من الشعر الحميني المتميز بفنياته وعذوبة كلماته، وقد أقامت اليونسكو المشروع بالتعاون مع مركز التراث الموسيقي و تم الانتهاء من المشروع عام 2009 ونتج عنه حفظ 300 مادة من الغناء الصنعاني ( الموشح اليمني) توثيقا علميا.
إن التجديد في الأغنية اليمنية ليس جديدًا، لقد مرت الأغنية اليمنية بمراحل كثيرة، منذ بداية القرن الماضي، وحتى الآن، وقد بدأت موجات التجديد من عدن في بداية القرن العشرين، عندما تقاطعت الألوان الغنائية اليمنية بالثقافات الأخرى الهندية والأفريقية، وغيرها من الثقافات العالمية، والتي من خلالها حاول الفنان اليمني مزج الغناء اليمني بالألحان والآلات الموسيقية والكورال والفرق الموسيقية، حيث وأن عدن في ذلك الوقت بدأت تسجيل الاسطوانات والتجديد عليها، وصولا إلى بداية النصف الثاني من القرن العشرين حضرت في عدن أغلب الألوان الغنائية، وحاول بعض الفنانين تطوير هذه الأغاني ومزجها بالألحان الجديدة. وتم تسجيل بعض الأغاني بشكلها العادي، و إضافة بعض الألحان التي تدخل فيها آلات الموسيقية على بعضها الآخر، حتى أن بعضها تأثر بالأغاني المصرية وتوجه بعض الفنانين إلى مصر ثم قدموا أعمالا هناك..
وقد ظلت موجة التجديد مستمرة، ولكن على فترات، حيث حاول كثير من الفنانين إدخال الكورال والآلات الموسيقية والألحان العربية، وانتشرت الفرق الموسيقية حتى بداية تسعينات القرن المنصرم، حيث تراجعت كل هذا الموجات لأسباب كثيرة إجتماعية وسياسية ودينية، إلى درجة أن فقدت عدن ريادتها في هذا المجال، وعاد العود هو المتسيد على الساحة اليمنية، ترافقه بعض الآلات الإيقاعية الخفيفة مثل الطبل والدف، واختفت الفرق الفنية الموسيقية أو انحسرت بشكل كبير..
خلال الثلاثين عام الماضية تمحورت الأغنية اليمنية حول العزف المنفرد على آلة العود، تقلصت الشركات الإنتاجية كثيرًا، وظل الفنان اليمني يقدم أغانيه بشكل متواضع في الأعراس أو عن طريق البومات غنائية خارج اليمن، ولم يبرز في تلك الفترة سوى القليل من الفنانين، واستمر الوضع على ماهو عليه بشكل متذبذب، ظهور فنان واختفاء آخر، والملاحظ في هذه الفترة هو إعادة استثمار الألحان القديمة، ولكن وفق السياقات ذاتها، مع تغيير الكلمات التي حافظت نوعا ما على الهوية والأصالة، إلى درجة أن بعض الأغاني تسربت إلى دول الجوار وتم إطلاقها بشكل مختلف، بدون ذكر مراجعها في أغلب الأعمال، وأيضا لا يجب أن ننسى موجة نزوح مجموعة من الفنانين، الذين خرجوا واحدًا تلو الآخر نحو دول الخليج ومصر، منهم من قدم أغاني بشكل جديد والحان جديدة، ومنهم من التقط الرؤية والأصالة وأطلقها بشكل مختلف، محافظا على الطابع اليمني، عن طريق كلمات حافظت على هوية الأغنية اليمنية.. وأيضا منهم من حاول تقديم الغناء اليمني لمطربين غير يمنيين عن طريق تلحين بعض الأغاني التي تحمل بعض الهوية والتراث اليمني.
منذ عدة سنوات بدأت موجة تجديد حديثة للأغنية اليمنية، ولكنها حملت أشكالاً متعددة، منها محاولة تقديم التراث وفق رؤية عصرية، مستغلةً الإنفجار التقني في مجال التكنولوجيا والإنترنت للانتشار، ولكنها لم تحافظ على خاصية خلق الإبداع والفرادة، ولكنها اعتمدت على الموروث القديم، عن طريق إعادة إطلاقه، بصورة جديدة وفق آلية مختلفة..
إن تجديد الأغاني التراثية بنسق موسيقي حديث له أسباب كثيرة، منها ما هو مادي، تكلفة وعدم توفر الإصدارات الحديثة من لحن وكلمات وغناء وتوزيع وبيع، ومنها ما يخضع لرؤية فنية من أجل إعادة نشر الهوية الغنائية وتوثيق وتجديد التراث، بما يتناسب وروح العصر ومتطلبات الواقع الحديث، وبغض النظر عن انقسام المجتمع بين مؤيد تطوير وتحديث التراث الغنائي، وبين رافض بدعوى الحفاظ على الموروث.
إلا أن النظر إلى موضوع تجديد الأغنية التراثية من كل الزوايا قد يقدم تصورا منطقيا لهذا الاشتغال.. لذا علينا التأكيد أولا أن الأغنية التراثية تنتمي للموروث الثقافي الجماعي الذي لا يجوز التصرف به وتسخيره للتسويق الشخصي. وفي المقابل لا يعني التجديد إعادة نسخ العمل الأصلي بحذافيره، وإنما الاجتهاد لإبراز الخصوصيات الصوتية والآلية للأغنية في شكل معاصر، دون المساس بهوية النص الأدبي والموسيقي التابعة له بشكل قد يضر الهوية التراثية والموروث والأصالة. كما ينبغي الاهتمام بالصورة والتقنيات التسويقية في حال تسجيل العمل بشكل مرئي، لدعم هوية الأغنية من خلال سيناريو واضح يترجم معاني النص الأدبي والكلمات التي تبدو غامضة..
من أهم المشكلات الحالية التي واجهت بعض الفنانين عند تجديد الأغاني التراثية، غياب الكلمات الجيدة، وأيضا غياب اللحن الجديد الذي يحافظ على النمط التقليدي بشكل متطور وحديث، إضافة إلى استسهال إطلاق الموروث بسبب عدم وجود ضوابط للحقوق الفكرية، تعمل على حماية التراث في اليمن، وهذه من التجاوزات التي لم يلتفت إليها الفنان، ويعود هذا إلى إعتبار التراث إرثا جمعيا متاحا للجميع، مع أن هذا الجانب يجب أن تخضع لضوابط ودراسات وبحوث واستئذان خطي واتفاق.. بلا شك أن الفن مشروع إنساني جامع، لا يجب إغلاق دائرة استخدمه عالميا، مع ذلك يجب الإشارة إلى الحقوق الفكرية للعمل الفني؛ كي يظل مرتبطا بالهوية التي انطلق منها، ومن أجل أن يستمر بالتعبير عنها، وحمايتها من الضياع أو التلاشي.
الملاحظ في بعض الأعمال المقدمة حديثا، قصور بعض جوانبها، وعدم مقدرتها على التمسك بالهوية اللونية لنمط الغناء والهوية الخاصة، حيث عمد بعض المجددين إدخال بعض الآلات الموسيقية بشكل مربك على العمل القديم، والتي تعارضت مع وجدانية الكلمات وخصوصيتها الجغرافية، بالإضافة إلى أن بعض الأعمال المطلقة مرئيا، خرجت نهائيا عن فضاء الهوية والأصالة، وبشكل جعل الأغنية غريبة؛ لا تحمل الطابع الأصيل أو حتى تشير إليه، عبر خلطها برقصات وهويات أخرى، بشكل ملفت جدًا..
إن قراءة العمل الفني لابد أن تخضع لتخصصات تقوم بعمل تحاليل فنية دقيق للعمل من كل جوانبه، أدبيا، موسيقيا، خطابيا وتحليلا في الأداء، وقد يتجاوز ذلك إلى تحليل الفيديو كليب وتقنية النتنوغرافيا وهي تقنية حديثة مشتقة من “الاتنوغرافيا” وتعنى بتحليل البيانات الرقمية، لتحديد قبول العمل عن طريق إحصائيات المشاهدات والتوزيع والقبول والرفض في المواقع الإلكترونية أو الإذاعية أو التلفزيونية، كل هذه القراءات، من الضروري أن يشرف عليها متخصص فني من أجل دراسة جودة العمل، ومستوى نجاحه وقبول المجتمع له أو إخفاقه، وذلك عن طريق معاينة العمل وفنياته من جميع الجوانب.