الأخبارتقارير وتحليلاتمحليات

مستقبل مفخخ.. الجيل القادم مهدّد بالضياع

صنعاء – خولة الرويشان

أصعب من بناء السلام وتثبيت دعائمه، عقب سنوات من الصراع تلت أعوامًا من الاضطراب وانعدام الاستقرار في اليمن، هو معالجة آثار وتبعات تلك الصراعات التي طالت مختلف جوانب الحياة، ولعلها المهمة الأصعب والهدف الأهم الذي ينبغي علينا كأفراد ومؤسسات التهيؤ والاستعداد للنهوض بها، ما لم فلا قيمة لأيِّ سلام مؤقت قادم، وأقول هنا “مؤقت”؛ كون الآثار التي ستُخلِّفها الحرب إن لم تعالج، ستقود لحرب أكثر ضراوةً ووحشية، وقد تقود لما هو أسوأ من الحرب، ولعل أكثر هذه الآثار خطورةً هي تلك التي تتعلق بالفئات الأصغر سنًّا وفئة الشباب في المجتمع، باعتبار هذه الفئة تمثل الجيل الصاعد والمأمول الذي يعول عليه في إحداث التغيير الإيجابي ورسم ملامح مختلفة لمستقبل اليمن على كلٍّ من المدى القريب والمدى البعيد، وهو ما يدفعنا للوقوف على تلك الآثار وتناولها لتكوين صورة على قدر من الوضوح حولها، وهو ما سيتم التركيز عليه في محاور هذا المقال؛ وذلك على النحو الآتي:

أولًا: تعاظم هوة الانقسام المجتمعيّ

المجتمع اليمني مجتمع متعدد، والقول بغير ذلك ليس إلا تجاوزًا للحقيقة، ومع ذلك فإن التعدد بحد ذاته لا يشكل مشكلةً، والمشكلة الحقيقية تكمن في عدم التعايش، ونبذ الآخر. وبالحديث عن تعاظم هوة الانقسام في المجتمع كنتيجةٍ للحرب والتي من شأنها التأثير على المستقبل وجيلهِ من أطفالٍ وشباب اليوم، فإننا سنتحدث عن مستويين من الانقسام؛ وذلك وفقًا لعنصر الاختلاف وإمكانية تجاوزه مستقبلًا، على النحو الآتي:

1-الانقسام السياسيّ والطائفيّ

وتحت هذا العنوان يمكن تناول نوعين من الانقسام؛ أوّلهما الانقسام السياسيّ والذي قد يتبلور على هيئة أحزاب أو جماعات أو أيَّة تكوينات أخرى، وهذا النوع من الانقسام ذو طبيعة إيجابية إذا ما استخدمت فيه الوسائل والطرق السليمة، وهو ذو طبيعة سلبية كلَّما نحا نحو الانقسامات التقليدية الأخرى، سواء في طرق التعبير أو الوسائل، وثانيهما الانقسام الطائفيِّ القائم على أساس دينيّ ومذهبيّ، وهو الأسوأ والأكثر حدة، وهذا النوع من الانقسام غذّتْهُ الحرب بصورة كبيرة، حيث سعت أطراف النزاع إلى توظيف البعد الدينيّ لتحشيد الأنصار؛ ما أكسب الحرب بُعدًا طائفيًّا انعكس بدوره في أوساط المجتمع، حيث باتت النزعة الطائفية حاضرةً لدى الفرد اليمني أكثر من أيِّ وقتٍ مضى.

2- الانقسام الفئويّ

وهذا النوع من الانقسام ليس بجديد، لكنه أيضًا ليس بالمتجذر في التاريخ اليمني، ويُقصد به تقسيم المجتمع إلى فئات عدة، هي: (سادة، شيوخ وقضاة، قبائل، أصحاب المهن، والمهمشين… إلخ)، لكلِّ فئةٍ منها امتيازات معينة على الصعيد الاجتماعي، وتقوم على تحقير الفئات الأخرى والنظرة لها بدونية.

وهذا النوع من الانقسام المجتمعيّ زرعت بذوره الإمامةُ والاستعمار، وعزّزاه بممارسات عدة جعلت منه واقعًا لدى فئات المجتمع قاطبةً على مدى عقود، والجدير بالذكر هنا أنّ هذا النوع من الانقسام كان في طريقه إلى التلاشي في السنوات السابقة على الحرب، وكان كثير من أبناء القبائل قد اتجهوا للعمل في مجالات وحِرف كان المجتمع يعيب عليهم العمل بها، وربما كان الشاهد الوحيد الباقي على هذا الانقسام هي مسألة التزاوج بين أبناء هذه الفئات، والذي كان في طريقه إلى التراجع هو الآخر، ولكن ببطء شديد، إلا أنّ الحرب الحاليّة عزَّزت كل أنواع الانقسام ولم تُبقِ على نزعةٍ من النزعات إلا أيقظتها، ما أعاد المجتمع خطوات إلى الوراء فيما يتعلق بالاندماج المجتمعيّ والحدّ من مظاهر التمييز والعنصرية بمختلف أشكالها.

3- الانقسام المجتمعيّ ومستقبل اليمن

نشأ الجيل الذي يخوض حرب اليوم في بيئةٍ تتّسم بقدرٍ لا بأس به من التعايش، حتى إن البعض من أبناء هذا الجيل لم يكن على علمٍ بالمذاهب أو الطوائف، ومن قيل له إنه ينتمي إلى هذه الطائفة أو المذهب لا يدرك مميزات ذلك، وليس على درايةٍ بماهية الفروق بينها وبين الطوائف الأخرى، وفي الوقت ذاته لم يكن الانتماء الحزبي قد بلغ من التشدد ما نلحظه ونعايشه، فضلًا عن الانقسام الفئوي الذي كان في طريقه إلى التلاشي، ومع ذلك فقد أبدى هذا الجيل ميلًا كبيرًا للعنف ونزعة لحمل السلاح تدعو للدهشةِ والاستغراب والأدهى من ذلك أنّ كثيرًا من المقاتلين بات على قناعةٍ بأنه على حق، وأن سلوكه كمقاتل هو السلوك السليم، وأنّ على الآخرين أن يحذوا حذوه، مقتنعًا أنّ مقاتلي الطرف الآخر ليسوا إلا أعداء للدين والوطن، يستحقون الموت بلا رحمة، ولا يتردّد في إطلاق أحكام التكفير والضلال وغيرها عليهم، وكأن الحرب استطاعت أن توقظ تلك البذور الضئيلة من الانقسام في نفوسهم بفعل سياسات التحشيد والتوظيف لهذه الاختلافات في الحرب التي اتّخذت قياداتُ أطراف النزاع منها وسيلةً لتحقيق مآربهم ودفع أكبر عدد من الأفراد إلى ساحات القتال، غير آبهة بعاقبة ما يقومون به.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن أن يكون حال الجيل القادم الذي نشأ وينشأ في بيئةٍ أوَّل ما يتعلمه الطفل فيها هي طائفته وميزاتها ومثالب الطوائف الأخرى، ويُغرس في ذهنه أفضلية البعض دون غيرهم لأسباب دينية أو سياسية أو عرقية، تنشئة قائمة على كره الآخر ونبذه؟ لا شك أنه سيكون جيلًا مليئًا بالأحقاد، توَّاقٌ للحرب وسفك الدماء وإلحاق الأذى بالآخرين، وما لم تعالج هذه المشكلة فإن الجيل القادم سيكون أكثر انقسامًا؛ وبالتالي أكثر ميلًا للعنف، وهو ما سيهدِّد إمكانيات تحقيق سلام دائم في اليمن والجدير بالذكر أنّ بعض هذه الانقسامات يمكن للدولة المدنية ودولة المواطنة المتساوية إذا ما وجدت أن تحدَّ من تأثيرها السلبي وتدفع في طريق تجاوزها إلا أنّ البعض الآخر من هذه الانقسامات سيحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك، لتجاوزه كونه يقوم على مبدأ أفضلية الأنا ودونية الغير، وينعكس في سلوكيات الفرد الاجتماعية الفردية والتي قد لا تستطيع الدولة تغييرها ما لم تتخذ تدابير وإجراءات خاصة وعلى مدى زمني ليس بقصير.

من بين الآثار السلبية للحرب التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار الآثار النفسية، وهذا النوع من الآثار يُحظى باهتمام أقل من غيره مقارنةً بالآثار الأخرى التي تُخلِّفُها الحروب على الرغم من أهميته الكبيرة؛ إذ إنه يتعلق بالحالة النفسية والعقلية للفرد ومدى قدرة الأفراد على الانخراط في المجتمع والتزام السلوك السليم، ومع أنّ مفهوم السلوك السليم هو مفهوم نسبي يختلف معناه وأبعاده من شخص لآخر، إلا أنّ المقصود بالسلوك السليم في هذا المقال مجموعة من السلوكيات، يأتي في طليعتها قدرة الفرد على الانسجام مع المجتمعَ، وقبول الآخرين من حوله على اختلافهم، وعدم الجنوح للعنف والحرص على عدم إيذاء الآخرين، وغير ذلك. ويمكننا تناول تلك الآثار على مستويين، على النحو الآتي:

1- الآثار النفسية العامة

وهي الآثار التي تتركها الحربُ عادةً في نفوس معظم أفراد البلدان التي عانت من الصراع، والصراع المسلح على وجه الخصوص، وتتمثل بحالةِ الخوف التي يُصاب بها بعض الأفراد عند سماع أصوات مرتفعة، وحالات الفزع الليلي والأرق، بالإضافة إلى حالات ضعف الشخصية والتلعثم بالكلام والاكتئاب، أضف إلى ذلك انتشار عدد من الأمراض كداء السكري وارتفاع ضغط الدم والقولون العصبي، وغيرها من الأمراض التي تدخل الحالة النفسية ضمن أسبابها، وآثار أخرى لا يتسع المجال لحصرها، ومعظم الآثار من هذا النوع يمكن ملاحظتها؛ وبالتالي السعي لمعالجتها والحد منها، ومع ذلك ما زالت مسألة الرجوع للطب النفسي هي آخر ما يفكر به الفرد اليمني؛ نظرًا للنظرة الاجتماعية القاصرة لها ولأهميتها، ولا نبالغ إن قلنا إنّ البعض لا يزال يرى في الرجوع للطب النفسي عيبًا؛ ما يشكّل عائقًا كبيرًا أمام فرص معالجة هذه الآثار؛ وبالتالي المساعدة في عودة الصحة العقلية والنفسية للأفراد وعودتهم للحياة الطبيعية.

2- الآثار النفسية الخاصة

تمثّل الآثار النفسية الخاصة بالميل للعنف وحالة التبلُّد وفقدان الرحمة التي يصاب به عدد غير قليل من أفراد المجتمع من أبناء الفئات العمرية الأقل سنًّا والفئات الأخرى، انعكاسًا لحالة اعتياد أو ما يمكن أن نسميه: ألفة مشاهد الموت والقتل والتعذيب والأشلاء والمظاهر الوحشية الأخرى وحالة التعايش معها باعتبارها أمرًا عاديًّا، وربَّما أمرًا محببًا لدى عدد من هذه الحالات، ولعلّ هذا ما يفسر انتشار جرائم القتل في المجتمع، ابتداءً بحادثة عبدالله الأغبري، وانتهاء بجرائم أخرى لا تقل وحشية عنها، هذا والحرب لم تنتهِ بعد، وما تلك الحوادث إلا صورةٌ مصغرةٌ لما قد يتعين على المجتمع مواجهته بعد انتهاء الحرب، فلم يعد مُستغربًا أن تجد مجموعة من المراهقين يقومون بتعذيب أيٍّ من الحيوانات، كالكلاب أو القطط وغيرها حتى الموت والابتسامات تعلو وجوههم، في صورة تدفع للذهول وتقود للتساؤل عما يمكن أن يُقْدم عليه مثل هؤلاء في المستقبل، وإذا لم يتم التنبه لهذه المشكلة ودراسة هذه الآثار عقب الحرب فلا أبالغ إن قلت إننا سنكون على موعد مع جيلٍ من السفاحين والمتعطشين للدماء، وتكمن مشكلة هذا النوع من الآثار في أنها لا يمكن ملاحظتها، وبالتالي يصعب معالجتها.

ثالثًا: تهاوي العملية التعليمية

ونحن نتناول بعض آثار الحرب على أفراد المجتمع بصورة عامة، وعلى فئتي الأطفال والشباب بوجه خاص، لا يمكننا إغفال التعليم وما لحق به من أضرار؛ كون التعليم هو السبيل الوحيد لتجاوز جملة لا حصر لها من معوقات النهوض والإشكاليات الاجتماعية والسياسية، ومن المؤسف ونحن نتحدث عن التعليم، أنّ نجد من يستغله لغرس أفكاره الخاصة وثقافاته المحدودة والمغلوطة، محوِّلًا بذلك التعليم من معبر للنجاة إلى طريق لهاوية الجهل والتضليل. ويمكننا إجمال الآثار التي لحقت بالتعليم جراء الصراع، من خلال محورين:

1- جودة التعليم وعدد الملتحقين

مدارس متهالكة، معلمون بلا رواتب، وطلاب مثقلون بالهموم والمشاكل، ومناهج دراسية مفخخة في أجزاء من البلاد، وجامدة في الأجزاء الأخرى، وطرق تقليدية تقوم على التلقين في طرح الموضوعات، هذه أهم ملامح التعليم في اليمن، أضف إلى ذلك عزوف كثير من الطلاب عن الالتحاق بالمدارس، وعدم قدرة كثير منهم على الالتحاق نتيجة لحاجتهم للعمل للمساعدة في إعالة أسرهم أو عجز بعض الأسر في ظل تردِّي الأوضاع المعيشية عن دفع تكاليف المدرسة وتوفير متطلباتها، والوضع لا يختلف كثيرًا فيما يخص التعليم الجامعي، وهو ما يعني أنّ الجيل القادم يفتقد أبسط الحقوق وأهم وسائل التنشئة السليمة التي من شأنها صنع جيل على درجة من الوعي، تُمكّنه من الإسهام الإيجابي الفعال في إحداث التغيير المنشود والبناء والتنمية.

2- الثقافة والمحتوى الذي يتم تدريسه

تدريس ثقافة الموت، ونبذ الآخر، والتطرف الفكري، وتوظيف التعليم لتحقيق مآرب أطراف النزاع في كسب الولاءات، وضمان قاعدة جماهيرية تابعة يمكن استخدامها عقب انتهاء الحرب، هذا الفعل ليس إلا نتيجة لحالة الانقسام المجتمعي ككل؛ إذ تعمل أطراف النزاع، وعلى وجه الخصوص السلطات في صنعاء، على استخدام التعليم للتأسيس لمشروعية دينية يستند إليها حكم الجماعة “أنصار الله”، وبحيث يمكن الاعتماد عليها وتوظيفها عقب انتهاء الحرب وتشكيل سلطات حاكمة توافقية أو منتخبة جديدة؛ أي إنها تسعى لغرس العديد من الأفكار التي من شأنها جعل الجيل المتلقي يدين لها ولأفكارها بالولاء عن قناعة، وهو ما يعني تحميل هذا الجيل ثقافات متطرفة لا ترى الحق والصواب إلا فيما تتبناه من مواقف وأفكار. وتخصيص السلطات في صنعاء طيَّ هذا المقال، لا يعني نأي سلطات الحكومة المعترف بها دوليًّا وأطراف النزاع الأخرى عن مثل هذه الممارسات، وعلى العكس من ذلك فهي الأخرى تسعى لزرع أفكارها وتشويه صورة الأطراف الأخرى منتهجةً وسائل عدة، وخص جماعة “أنصار الله” بالذكر يعود لكونها تتخذ أساليب ممنهجة لتحقيق ذلك؛ ابتداء من تغيير محتوى المناهج الدراسية، ومرورًا بالمناسبات والبرامج التي تنظمها على مدار العام الدراسي، وانتهاء بحشد الطلاب للساحات، للمشاركة في المسيرات المختلفة، أضف إلى ذلك إرغام طلاب الجامعات على دراسة ملازم حسين بدر الدين الحوثي، ومحاضرات قائد الجماعة عبدالملك بدر الدين الحوثي، من خلال تكليف الطلاب بتلخيصها أو إجراء بحوث حولها أو شرحها وتضمين محتوياتها في امتحانات بعض المواد لتدخل ضمن التقييمات النهائية، وغير ذلك. وهو ما يعني أنها تبذل جهودًا مركزة ومدروسة أكثر من غيرها من الأطراف، ولا أبالغ إن قلت إنّ أصوات الموت تَعجُّ في المدارس وصروح العلم على اختلافها وفي مختلف أنحاء البلاد، وإن لم يؤخذ هذا الأمر بعين الاعتبار، وإن لم تبذل جهود حقيقية لمعالجته، فسيكون من المستحيلات تحقيق التعايش وبناء السلام، ومن هنا تكمن خطورة هذا الأثر السلبي الذي لحق ويلحق بالتعليم.

الآثار المذكورة آنفًا ليست إلا جزءًا من جملة الآثار التي تخلفها الحروب، لا سيما تلك التي تكتسب بُعدًا طائفيًّا، وينبغي العمل على معالجتها للتمكّن من إحلال السلام الدائم، وهي مسؤولية الأفراد والمؤسسات على اختلافها والمجتمع ككل، بحسب خيوط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى