الحياة كما عاشها علوان بقلم| محمد الشيباني
بقلم| محمد الشيباني
تَحْمِل مذكرات علوان سعيد الشيباني (الحياة كما عِشتُها)، والمتوقع إصدارها في الفترة القليلة القادمة، الكثيرَ من ملامح التنوير التي لازمت رحلة كفاحه الطويلة التي بدأت باكرًا منذ كان طفلًا في كُتَّاب القرية مطلع أربعينيات القرن العشرين الماضي، وتاليًا بهجرته إلى الحبشة وهو على عتبة المراهقة في العام 1949م، وعودته إلى عدن في العام 1954، للدراسة في مدرسة بازرعة الخيرية، ثم سفره إلى مصر بمنحة مشتركة بين “الاتحاد اليمني” و”الاتحاد الشيباني” وإتمامه للدراسة الإعدادية والثانوية في مدينة طنطا، ثم ذهابه ببعثة في العام 1962 إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لإكمال دراسته الجامعية في مجال الهندسة المدنية، قبل أن يغيرها إلى تخصص اقتصاد وعلوم سياسية، لأسباب قاهرة. كان التعليم هو الهاجس الأكبر والمشغِّل الرئيس في هذه الرحلة الكفاحية الطويلة.
حين استقر المقام بعلوان سعيد الشيباني (1936) في مدينة ديردوا الإثيوبية، عاملًا بمطعم يمتلكه جار لهم في القرية يدعى علي محمد الهاشمي، وجاء برفقته إلى هذه المدينة، لم يكتفِ بما حصل عليه من تعليم بدائي في “معلامة” (كُتّاب) القرية، بل ثابر من جديد ودرس عند معلم يمني يقيم في المدينة، واسمه عبدالعزيز الصنعاني. صحيح أنه تعلم بالطرائق التقليدية ذاتها في دروس القرآن والخط والحساب، لأنه كان يرى أن التعليم وحده من سيصنع منه شخصًا آخر، وليس “مطعم الطاؤوس” الذي كان، بالمناسبة، يوفر له دخلًا معقولًا ويتنامى بالتدريج. وكان بمقدور هذا الدخل أن يغريه بسلك هذه الطريق السهلة التي تعيد اكتشاف ذاته كشخص تجاوز فقره مثلًا، لكنه كان يرى طريق مستقبله بوضوح، وهذا الطريق لا يمكن أن يُسلك إلى نهايته إلَّا بالتعليم.
لهذا، حينما عاد الهاشمي إلى ديردوا من رحلته الأولى الى القرية، قرر علوان أن يقتفي أثر صديقه القريب عبدالله حسن العالم، الذي ترك المدينة إلى القاهرة لمواصلة تعليمه فيها، وبدون أن يخبر غير شخص واحد موثوق. ركب القطار إلى أديس أبابا، آملًا أن يصل إلى الخرطوم ومنها إلى القاهرة، لكن أمره انكشف وتمت إعادته بالحيلة مرة أخرى إلى المدينة التي غادرها، بواسطة صديق للهاشمي (اكتمل) له في محطة القطار في العاصمة الإثيوبية.
وحينما غادر المدينة ذاتها إلى عدن في عام 1954، مُهرَّبا بطائرة تنقل القات، لأسباب تتصل بهويته، لم يذهب إلى مطعم خاله في الشيخ عثمان ولا إلى أي مخبازة أخرى يمتلكها أحد أهالي قريته للعمل بها، وهو صاحب الخبرة في ذلك، بل ذهب مباشرة إلى “نادي الاتحاد الشيباني” في حي “الطويلة”، وواظب على الدراسة صباحًا على يد الأستاذ عبدالقادر عبدالله، وبعد العصر عند الأستاذ علي عبدالعزيز نصر في “الاتحاد اليمني”، وبعد المغرب على يد الأستاذ محمد عبدالله طاهر -والد الدكتور يوسف محمد عبدالله- في مسجد بانصير في كريتر، حتى يهيئ نفسه للدخول في مدرسة للتعليم الحديث.
وفي العام الذي يليه، التحق بمدرسة بازرعة في منطقة العيدروس في سنة أولى متوسطة، رغم بلوغه الثامنة عشرة من عمره. ولمستواه المتقدم تم ترفيعه فصلين إضافيين، ليتجاوز المتوسطة بعام واحد، ولاجتهاده ومثابرته تم ابتعاثه ضمن ثلاثة شبان من المنطقة في صيف 1956، للدراسة في القاهرة على حساب “نادي الاتحاد الشيباني” بالتنسيق مع “الاتحاد اليمني”.
وفي طنطا التي أكمل بها دراسة المتوسطة في مدرسة محمد فريد، والثانوية في المدرسة الثانوية في المدينة ذاتها في العام 1960، ونجح بتفوق- ترشح لدراسة الهندسة في جامعة عين شمس، وحين لم يستطع المواصلة، لم يستكن أو ييْئس ويعود إلى عدن، بل ثابر في الحصول على منحة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فكان له ما أراد. وصل الولايات المتحدة في صيف 1962، أي قبل قيام ثورة 26 سبتمبر بقليل، والتحق بجامعة كنساس، كطالب هندسة مدنية، بعد أن بقي في القاهرة لأكثر من عام يقوم بتدريس الطلاب اليمنيين المقبلين على الالتحاق بالمعاهد والمدارس المصرية.
بعد أقل من عامين، من وجوده في جامعة كنساس، انقطعت منحته المالية، لأسباب سياسية تتصل بموقفه المناهض لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية الداعمة لإسرائيل، فطلبت الجامعة منه المغادرة. وحين التزم أحد أساتذته لعميد الطلبة الأجانب بدفع الطالب لرسوم الدراسة، اضطر للعمل في مطعم ملحق بفندق “هولدي إن كنساس” لتوفير قيمة الرسوم الدراسية، مبدِّلًا تخصصه العلمي من هندسة مدنية إلى اقتصاد وعلوم سياسية.
الآن، وبعد نصف قرن تمامًا، وبعد أن صار ذلك الفتى الفقير رجل أعمال كبيرًا، ويرأس مؤسسة اسمها “الخير للتنمية الاجتماعية”، لها مشاريعها التعليمية والتدريبية والطبية والإنسانية والاجتماعية، في القرى والأرياف الفقيرة، وتُشارك، في الوقت نفسه، في أكبر المحافل والمنتديات المحلية والدولية التي تهتم بالأعمال والمبادرات المجتمعية المتميزة، بهدف تبادل التجارب ونقل صورة واقعية عن هموم وتطلعات اليمن في الجانبين التعليمي والإنساني- صارت إحدى مشاغله الكبرى هي الاهتمام بالتعليم، بوصفه حجر الزاوية في التنمية المستدامة، في بلد لم يزل فيها الجهل يقطر وعي النسبة العظمى من سكانها. لهذا، عمل على تأسيس معهد تعليمي يحمل اسم “الخير” أيضًا في منطقة تتوسط ثلاث عُزَل، حيث يسهّل هذا المعهد للطلاب الفقراء والمعدمين في هذه العزل وقرى أخرى بعيدة، الاستمرارَ في التعليم، ويشجعهم، من خلال الحوافز التي يقدمها للطلاب، على تعلم اللغات ومهارات الحاسوب في سنوات ما بعد التخرج من الثانوية، التي هي السنوات الأصعب، والتي صارت عند المئات سنوات تسرب من دورة التعليم.
ومن أجل الالتحاق بالتعليم والاستمرار فيه، تقوم المؤسسة بدفع مبلغ خمسة آلاف ريال للطلاب المتفوقين في المرحلة الأساسية، وعشرة آلاف ريال للطلاب المتفوقين في التعليم الثانوي، وتدفع خمسة وعشرين ألف ريال لكل طالب جامعي بتخصص غير علمي، وثلاثين ألف ريال لكل طالب التحق بتخصص علمي في أي كلية كانت. ويسري هذا الفعل أولًا على الطلاب المهمشين الذين يشكّلون الآن ما نسبته 17% من سكان المنطقة، سواء كانوا متفوقين أو غير متفوقين.
كما أن الطلاب الأيتام من أهالي المنطقة بدورهم يحصلون من المؤسسة ذاتها على إعانات شهرية مقطوعة، فيدفع للأسرة التي لديها طالب يتيم واحد خمسة آلاف ريال، وإن كان لديها طفلان فيدفع لها ثمانية آلاف ريال، وإن كانوا ثلاثة يدفع لها عشرة آلاف ريال.
ولتشجيع الفتيات على مواصلة التعليم الجامعي، وفرت المؤسسة منح مواصلات وإعانات شهرية للفتيات الريفيات الفقيرات، حتي يتمكنَّ من الالتحاق بالكليات المختلفة في مركز المديرية. وبذلك فتح المجال للعشرات منهن، للاستمرار في التعليم.
وفي الاتجاه ذاته، عملت الجمعية على افتتاح مراكز نسوية في أكثر من منطقة في العزلة، التي وُلد فيها علوان، لتعليم الفتيات اللغة الإنجليزية والخياطة وأعمال التطريز، والكوافير أيضًا. وتقوم في مواسم الأعياد والمناسبات بشراء المشغولات ومنتجات الخياطة من المتدربات وتوزيعها على الأسر المحتاجة، أو بيعها لجهات ومؤسسات أخرى، وفي الغالب للشركات التي تتبع مجموعة “العالمية”.
وحتى لا تتعطل وتتوقف العملية التعليمية في مدارس المنطقة، قامت “مؤسسة الخير” باعتماد حوافز نقدية، وسلال غذائية شهرية للمعلمين والمعلمات الذين انقطعت مرتباتهم في سنوات الحرب، والمساهمة كذلك في توفير المستلزمات المدرسية الضرورية لمدارس البنين والبنات في المنطقة.
من هذا التفصيل والاستطرادات، نريد الوقوف على حقيقة جلية، وهي أن الطالب الفقير الذي كانه علوان الشيباني قبل خمس وستين سنة (في الحبشة وعدن وطنطا والقاهرة وكنساس)، واستطاع بكثير من المثابرة والاجتهاد وتحمل المشاق، أن يصير رقمًا فاعلًا في المجتمع. هو نفسه الآن رجل الأعمال الجليل الذي يرى في تعليم الفقراء والمعدمين والمهمشين من أهالي منطقته وغيرهم من المناطق، واجبًا أخلاقيًّا بدرجة رئيسية، يمليه عليه ضميره المطمئن، وليس مشغلات الشهرة وحب الظهور، التي تحكم العشرات من رجال الأعمال الميسورين في البلد.
استدراك
لا أدري لماذا يذكرني هذا النزوع الخلاق للتعليم الحديث، بالرؤية الباكرة لرواد مدرسة التنوير في اليمن من الأستاذ أحمد محمد نعمان، والأستاذ محمد حيدرة الحكيمي، والمناضل محمد عبدالله المحلوي، والرائد محمد علي لقمان المحامي، والشيخ حسن الدعيس، وحسين الحبيشي، والشيخ محمد بازرعة وغيرهم، والذين رأوا في التعليم الحديث مدخلًا حقيقيًّا لعملية التغيير في الواقع شديد التخلف، الذين كابدوا كثيرًا من أجل إحداث اختراق حقيقي في الجدار الصلب للتخلف والجهل الجاثمين على صدور اليمنيين.