الضوء في ليالي رمضان في اليمن بقلم| عبده المحمودي
بقلم| عبده المحمودي
كغيرهم من المنتمين إلى المجتمعات الإسلامية، يحرص اليمنيون على التسوُّق المكثَّف في الأيام الأخيرة من شهر شعبان، استعداداً منهم لشهر رمضان. وفي سياق هذا الاستعداد، تندرج خصائص حياة الريفيين منهم، التي منها مضاعفة إنجازِهم لأكبِر قدْرٍ ممكنٍ من أعمالهم، حتى يوفروا على أنفسهم إرهاق العمل في أيام الصيام، وينالوا قِسْطاً كافياً من الاستمتاع بالطقوس الرمضانية، سيما طقوس “السَّمْرَة”، التي يُعدُّ الضوء من أهم مقوماتها الرئيسة. لذلك يحرصون على أن تكون مصادِره على أكملِ استعدادٍ وجاهزية.
ترتبطُ “السمرة”، في القرية اليمنية بالسهر والإجهاد، لكنها غير ذلك في ليالي رمضان، فهي فيها أكثر ارتباطاً بمعاني الارتياح والسعادة والطمأنينة، حيث النهار للسكينة والنوم، والليل لجريان الحياة، بما في ذلك إنجاز ما لم يكن ممكناً إنجازُه قبل حلول شهر رمضان.
لقد اعتاد اليمنيون، في هذا الشهر ـ ريفاً وحضراً ـ على هذا التحول في خصائص ليله ونهاره. وتواؤماً مع ذلك، يأتي إعلان السلطات، عقب رؤية هلاله، عن تخفيض ساعات الدوام الرسمي فيه، من سبعِ ساعاتٍ تبدأ في الثامنة صباحاً وتنتهي في الثالثة عصراً، إلى أربعِ ساعاتٍ تبدأ في الحادية عشرة ظهراً وتنتهي في الثالثة عصراً، حسب ما تُقرّه التشريعات الخاصة بهذا الشأن، في قانون الخدمة المدنية اليمني رقم (19) لسنة 1991، وقرارِ رئيس مجلس الوزراء رقم (130) لسنة 2006.
وظيفة “الفانوس” ورمزيته
يُعَدّ “الفانوس” ـ المصباح العامل بالكيروسين ـ من أقدم مصادر الإضاءة التقليدية في القرية اليمنية، منذ أن كان مصدراً رئيساً في تاريخ الإنارة قبل اختراع الكهرباء. وكذلك هو الأمر مع انحسارِ وظيفته، واحتفاظه برمزيته إلى شهر رمضان في البلدان الإسلامية، على اختلاف الروايات حول حدثها الأول، واتفاق أدبيات التاريخ على تحديد بدايتها في مصر، منتصف القرن الرابع الهجري، في العصر الفاطمي، ومن هناك كان انتشارها إلى البلدان الأخرى.
إنَّ رمزيةَ الفانوس الدينية ـ هذه ـ لم تصل إلى اليمن، إلا في السنوات الخمس الأخيرة، بفعل وسائل التواصل الاجتماعي. أما وظيفته فلم تنحسر لدى نسبة كبيرة من سكّان الريف اليمني، فكان في مقدمة استعدادهم لشهر رمضان الاطمئنان إلى جاهزية هذا المصدر، وتوافر توابعه، وصلاحية أجزائه ومكوناته.
واستجد في حياتهم ـ بما في ذلك طقوس الليالي الرمضانية ـ مصدر الإضاءة بمصباحٍ عاملٍ بالكيروسين، ثم آخر عاملٍ بالغاز، وكلاهما يشبهان الفانوس شكلاً، ويختلفان عنه في مستوى الإضاءة، التي تكون فيهما أكثر سطوعاً وقوة.
كهرباء المدينة وموَلّدات القرية
في مدينة عدن، أُنشئتْ أوّل محطة كهربائية في اليمن عام 1926، وفي العام 1960 أُنشئت محطتان كهربائيتان: الأولى في صنعاء، والثانية في تعز. ثم توالى إنشاء محطاتٍ جديدة، في عددٍ من المحافظات اليمنية. ووصلت الكهرباء العامة إلى المراكز الحضرية القريبة من المدن، ثم ببطء امتدت إلى عددٍ من التجمعات والقرى الريفية. أما النسبة الأكبر من القرى، فقد حال دون وصول الكهرباء العامة إليها محدوديةُ الانتاجية في محطاتها، واستفحال الفساد في الإدارات المتعاقبة عليها [1].
لقد زاد وضع هذا القطاع الخدمي سوءاً مع الصراعات الدائرة في اليمن، ثم مع الحرب المندلعة منذ أذار/ مارس 2015، حيث ترتب على هذا السوء المتفاقم انخفاض نسبة السكان اليمنيين الذين يحصلون على الكهرباء العامة، من 66 في المئة في عام 2014، إلى أقل من 10 في المئة بحلول عام 2017 [2].
وبمعزل عن المؤسسة العامة للكهرباء ووضعها البائس، عالجت القرية اليمنية حاجتها إلى الإضاءة بهذا المصدر، من خلال المولّدات الخاصة، وغالباً ما كان مُوَلِّد كهربائي واحد يفي بإنارة منازل قرية كاملة، مع قَصْرِ تشغيله على الفترة المسائية الأولى التي لا تتجاوز ست ساعات. وفي نهاية كلّ شهر، يدفع المستفيدون إلى مالك المولّد مقابل ذلك مبلغاً ماليّاً، كما يدفعون مبلغاً مضاعفاً نهاية شهر رمضان، كون ساعات الإضاءة فيه تمتد حتى الفجر. ومع مرور الزمن، صار في مستطاعِ أكثر من أسرةٍ ريفية الاستقلال بمُولِّد خاص بها.
لقد أُضيئتْ نسبةٌ كبيرة من القرى اليمنية بالمولدات الكهربائية ــ ثاني مصادر الإضاءة في اليمن.
الطاقةُ الشمسيةُ طفرةُ الضوءِ الحديثة
قبل اشتعال الحرب الأخيرة التي دخلت هذا الشهر الجاري عامها الثامن، كانت بعض الأسر الريفية قد أحلّتْ ألواح الطاقة الشمسية محلَّ المولدات الكهربائية، فوفَّرتْ بذلك على أفرادها صدمة الظلام الحالك، الذي كان أسرع تداعٍ من تداعيات الحرب، حدَّ إثارة استثنائية الضوء هذه غبطة المقيمين في مراكز حضرية، اعتادوا على الكهرباء العامة، فعَلَّقَ أحد وجهائهم باستغراب على المفارقة بين حالهم في الظلام، وبين حال أبناء القرى النائية، الذين في متناولهم متابعة مستجدات الحرب أولًا بأول، بفضل ألواح الطاقة الشمسية، التي سرعان ما انتشرت في المراكز الحضرية، ومراكز المدن، وانتعشتْ تجارتها، وتكاثرتْ أسواقُها بفعلِ مسارات الحياة الجديدة التي فرضتْها الحرب. فقد وصلت أنظمة الطاقة الكهروضوئية الشمسية، حتى شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، إلى 50 في المئة من منازلِ المناطق الريفية في اليمن، وإلى ما نسبته 75 في المئة من منازل المدن، وفقاً لما ورد في تقييم السوق، الذي أجراه المركز الإقليمي للطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة، بتكليفٍ من قطاعِ الممارسات العالمية للطاقةِ والصناعاتِ الاستخراجية في البنك الدولي.
لقد مثَّلَ مصدر الإضاءة البديل هذا مرحلةً متقدمة في إنارة الريف اليمني، وإليه انتقل ما يتعلق بالضوء من استعدادات لأسمار رمضان، كشراء بطاريات جديدة لتحلّ محل القديمة، أو شراء ألواحِ الطاقة الشمسية، مِمَّنْ تأخر في شرائها.
وبالطبع، فإن مصادر الإضاءة الحديثة قد وصلت إلى القرية اليمنية بنسبٍ متفاوتة من قريةٍ إلى أُخرى، لكنها لم تَنَلْ من مكانةِ “الفانوس” الأثيرة عند كثيرٍ من الأسر الريفية. ورافقَ “الفانوس” مَنْ لم تشمَلْه إضاءة هذين المصدرين اللذين لم يستغن معهما أصاحبهما عن الفانوس كمصدرِ إضاءةٍ احتياطي، كثيراً ما عادوا إليه في أحوال الانقطاع المفاجئ، أو إصابةِ المولدات الخاصة بالأعطال. فوسيلة الشمعِ ـ التي بها تتخطّى المدينةُ مثل هذه الأحوال المفاجئة ـ لا استخدام لها في الريف اليمني، سوى في غرف الحراسة الصغيرة الخاصة بالمزارع.
وقد لَفَت انتباهي استمرار وجود الفانوس، في سَفري من المدينةِ إلى القرية عبر طريق ريفي استثنائي، حتّمَه انقطاع الطرقات الرئيسة بسبب الحرب، حيث كان على السيارةِ التي تقلّنا المرور بقرى جبلية انتشرتْ على السفوح، لم أَرَ على سطوحِ كثير من المنازل فيها ألواح طاقة شمسية، أو صحون التقاطِ بثٍّ فضائي. ولا يعني ذلك إلا أنّ الفانوس التقليدي ما زال مصدر إنارتها، وأنه ما زال أيقونة الضوء في أسمارها الرمضانية.
وسائل إعلام وجلساتُ قات
ضمْنَ أنشطة السمرة الرمضانية المتعددة في القرية، يأتي اهتمام أهلها بوسائل الإعلام، منذ أَوَّل ليلة رمضانية، حيث يجمعهم الإنصات إلى خبر التحقُّقِ من رؤية هلالِ رمضان.
أُنْشِئتْ أَوّل محطة إذاعية يمنية في عدن، عام 1940، تلتْها إذاعة صنعاء عام 1946، وبعدهما توالى إنشاء الإذاعات المحلية في عددٍ من المحافظاتِ اليمنية. ثم ظهرتْ ـ بعد عقدين ـ وسيلة إعلامٍ جديدة، حينما تأسستْ قناة عدن التلفزيونية عام 1964، وبعدها بعقد من الزمن قناة صنعاء عام 1975.
ونالت برامج القناتين ـ والرمضانية منها بوجهٍ خاص ـ اهتماماً كبيراً في القرى اليمنية التي وصل إليها بَثُّهما، فقد كان استعدادهما لدورة رمضان البرامجية يحظى باهتمام رسمي، انعكس تمَيُّزاً على الخارطة المتنوعة بين مسابقاتٍ ثقافية ودينية، ومسلسلاتٍ كوميدية، وأخرى تاريخية اشتركتْ في الاستمتاع بها شتى الفئات الاجتماعية.
وحينما بدأ البثُّ الفضائي لبرامج التلفزيون اليمني عام 1995، عبر القمر الصناعي الأمريكي (أنتلسات702)، ثم القمر (عرب سات)، تعَدَّدتْ خيارات المشاهدة لقنواتٍ فضائية خارجية، وارتقى هذا التعَدُّد بمستوى استمتاعِ القرية بالليالي الرمضانية، لكنه نال فيما بعد من تقدير الذائقة الشعبية للقناتين المحليتين، ثم من تقديرها للإعلام التلفزيوني كُله، حتى شَملَ ـ في السنوات الأخيرة ـ السمرةَ الرمضانية الانشغال بمواقعِ التواصل الاجتماعي، الذي أزاح الإعلام التلفزيوني والإذاعي من واجهة الاهتمامِ والمتابعة.
عن غليون جدي.. كيف دخل التبغ إلى بلاد البخور؟
في كتابه “رمضان في اليمن” الذي حاول فيه توثيق الأجواء الرمضانية أثناء زيارته لليمن في أيار/مايو 1993، أشار المُصَوِّر الاسترالي “ماكس بام” إلى أن مضغ “القات” عادةٌ يمنية راسخةٌ في ليالي رمضان. وفي هذه الإشارة، ما يحيل على شمولِ هذه العادة حياة اليمنيين، بما في ذلك أسمارهم الرمضانية، حيث تبدأ طقوسها بعد صلاةِ التراويح، وتمتدّ إلى ما قبل أذان الفجر. إلى تلك اللحظة، التي يتذمَّر منها كثيرٌ من المعتادين على مضغ القات لساعاتٍ طويلة، حيث تسارع فئةٌ منهم، في استهلال هذه العادة بعد وجبة العشاء مباشرةً، بينما لا تجدي هذه المسارعةُ مع فئةٍ أخرى منهم، يفضِّل أصحابها عدم مضغِ القاتِ في أسمارِ رمضان، ويبررون ذلك بمحدودية الوقت المتاح، والذي يقضي انتهاؤه على مُتْعَة “الكَيْف” [3]، قبل أن يصلوا إلى ذروتها التي اعتادوا عليها، بحسب السفير.
1) تطَرَّق أحمد الزكري إلى الفساد المتقادم في إدارات الكهرباء اليمنية، في نصه عن “الكهرباء في اليمن”، المنشور في السفير العربي، 22 آب/ أغسطس 2012: https://bit.ly/3ug2Rcp
2) تقرير البنك الدولي: “التقييم المستمر للاحتياجات في اليمن، المرحلة الثالثة”، 2020، ص (93).
3) الكيف: مصطلحٌ يُطلَق على ذروة الاستمتاع بمضغِ أوراق شجرة القات عند اليمنيين.