الأخبارتقارير وتحليلاتمحليات

مأزق اختيار رئيس ليس مقدرًا له الزعامة

صنعاء – ميساء شجاع الدين

مضت عشر سنوات على انتقال السلطة من الرئيس السابق علي عبدالله صالح، بعد 33 عامًا من حُكمه، إلى نائبه عبدربه منصور هادي الذي ظل متواريًا في الظل لمدة 18 عامًا كنائب لصالح. يُعد صعود هادي الضعيف سياسيًا والأقل جاذبية بكثير من صالح، والذي لم يكن يُكلف سوى بالمهام البروتوكولية، نموذجًا واضحًا لبقاء الأضعف في ظل قدرته على الصمود. 

تولى هادي زمام السلطة في 12 فبراير/ شباط 2012، إثر استفتاء كان فيه المرشح الوحيد. ورغم النتائج المحسومة سلفًا، كان الإقبال على التصويت مرتفعًا نسبيًا حيث أدلى 65 في المائة من الناخبين المسجلين بأصواتهم. التصويت الشعبي بحد ذاته لم يكن لصالح هادي كمرشح، بل كان محاولة لإيجاد حل للوضع المزري الذي تعيشه البلاد.

كان يُفترض أن تدوم رئاسة هادي لفترة قصيرة وانتقالية، في محاولة لإنهاء الأزمة السياسية الخانقة التي انعكست على سبل العيش وتوفر الخدمات المتدهورة خلال انتفاضة عام 2011 ضد الرئيس صالح آنذاك. تعرض المزاج الشعبي للإحباط فيما بعد بسبب الأداء الفوضوي للرئيس وحكومته، إلا أن هادي تمكن من الصمود.

الهروب الأول
كان هادي نائبًا لرئيس أركان القوات المسلحة في جنوب اليمن حين اندلعت الحرب الأهلية عام 1986، حيث كان مواليًا لرئيس جنوب اليمن آنذاك، علي ناصر محمد. بعد هزيمتهم في المعارك القتالية الضروس، فرّ محمد ناصر إلى صنعاء مع الآلاف من الموالين له، بمن فيهم هادي.

بقي هادي في صنعاء دون الاضطلاع بدور فاعل حتى قيام الوحدة عام 1990، حين طلب رئيس جنوب اليمن، علي سالم البيض، من صالح إجبار علي ناصر محمد بمغادرة صنعاء، وهو المطلب الذي نُفذ. إلا أن الضباط العسكريين والجنود الموالين له بقوا.

سرعان ما أعقب الوحدة نشوب أزمة سياسية بين الفصائل الشمالية والجنوبية، تفاقمت إلى حرب أهلية في مايو/أيار 1994. خلال فترة الصراع، عوّل صالح على دعم القوات العسكرية الجنوبية والقادة الذين هُزموا في حرب 1986، بمن فيهم هادي. خلال الحرب القصيرة، التي انتصر فيها صالح والحكومة في صنعاء في 7 يوليو/ تموز 1994، عُيِّن هادي وزيرًا للدفاع. وما لبث أن عُيِّن نائبًا للرئيس صالح في أكتوبر/ تشرين الأول 1994. 

صعود هادي إلى منصب نائب الرئيس كان تعبيرًا عن أمرين: أولًا، قضت الصراعات الدموية في الجنوب، وخاصة الحرب الأهلية في عام 1986، على معظم القادة السياسيين والعسكريين المؤثرين في الجنوب. وما زاد الأمر تعقيدًا إحكام الحزب الاشتراكي الحاكم في جنوب اليمن قبضته السلطوية، والتي لم تسمح بظهور شخصيات سياسية جديدة. وهكذا، مثّل هادي الفلول الضعيفة من النخب الجنوبية، وهو ما عاد بالنفع على القيادة في الشمال التي كانت تسعى إلى تمثيل “الوحدة الوطنية”. ثانيًا، كان العُرف السائد بين الجمهوريات العربية هو تعيين نواب رؤساء لا يشكلون تهديدًا للسلطة المطلقة للرئيس. بالتالي كان هادي الرجل المناسب لهذا المنصب.

البحث عن رئيس ضعيف
لم يكن هادي شخصية معروفة كثيرًا لدى الشعب ولم يكن منخرطًا بشكل بارز في القرارات الجوهرية كنائب للرئيس. إلا أنه كان مقربًا من علي محسن الأحمر، القائد العسكري القوي ونائب الرئيس الحالي في حكومة هادي. خلال الانتفاضة الشعبية عام 2011، وجدت النخب السياسية نفسها في مأزق البحث عن حلول وبدائل لحُكم صالح. كان هؤلاء الزعماء الحزبيون والعسكريون والقبليون يسيطرون على اليمن منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين، ووجدوا أنفسهم في مواجهة صعود تيارات مختلفة: تمرد في الشمال؛ وحركة انفصالية سلمية في الجنوب؛ وانتفاضة شعبية سلمية متنامية عام 2011. أفضى انخراط الشباب إلى أن تصبح هذه الحركات أكثر تطرفًا في مطالبها بالتغيير والطموحات التي تبنتها، سواء كانت دينية أو مدنية. كانت هذه الحركات في مواجهة مجموعة من النخب المسنة التي حاولت يائسة إيجاد حلول من صندوق حيلها السياسية الذي عفا عليه الزمن.

اختارت هذه النخبة حلولها المعتادة في أوقات الأزمات: التحالفات الهشة، وموازنة القوى، والتوصل إلى تسويات. أدى ذلك إلى صياغة مبادرة مجلس التعاون الخليجي، التي عكست طموحهم السياسي المحدود، ورغبتهم النمطية في التحايل على الأسباب الجذرية للاضطرابات، وعدم تبني فهم حقيقي للتهديد الخطير الذي تتعرض له البلاد. في نهاية المطاف، كُلف الرئيس هادي البالغ من العمر 68 عامًا ورئيس الوزراء محمد باسندوة البالغ من العمر 77 عامًا بإنقاذ البلاد واستكمال ثورة الشباب.

وقع الاختيار على هادي كمرشح بتوافق الآراء، جزئيًا بحُكم كونه الرجل الثاني دستوريًا في ترتيب تولي منصب الرئاسة. في الواقع، كان صالح يميل إلى استبدال هادي بـ”علي مجور“؛ أحد الموالين له من غير المؤثرين على المشهد؛ ورئيس وزرائه آنذاك. أصر هادي، إلى جانب تكتل أحزاب اللقاء المشترك المعارض، على إدراجه في الاتفاق كبديل لصالح، خشية أن يستبدله صالح في أي لحظة كنائب للرئيس. العامل الثاني الذي صبّ في مصلحة هادي هو ضعفه السياسي الذي جذب الانتهازيين.

كان من بين مؤيدي هادي شخصيات سياسية من ضمنها علي محسن وحميد الأحمر، الشيخ القبلي البارز الموالي لحزب الإصلاح. كان علي محسن، الذي انشق عن النظام وأعلن دعمه لانتفاضة 2011، أيضًا حليفًا قويًا لحزب الإصلاح الإسلامي، التكتل الأكثر تنظيمًا في الاحتجاجات والأكثر حضورًا على وسائل الإعلام. بالمثل، كان أعضاء من أحزاب المعارضة ينظرون إلى باسندوة -الذي اضطر إلى الإنكار علنًا بأنه مدين بالفضل للأحمر -كشخصية ضعيفة يسهل التحكم بها، ما جعله خيارًا جذابًا لتبوء منصب رئيس وزراء المرحلة الانتقالية. في خضم هذه المناورات، عاشت الدولة اليمنية أخطر مراحلها بقيادة شخصيات غير مُلهمة، بينما حال الفساد والسلطوية دون ظهور قيادات جديدة فاعلة.

على خطى صالح 
لم يُخفِ المقربون من هادي بتاتًا حقيقة أنه كان أحد أكبر المعجبين بصالح. فقد أثر تقييم صالح للأشخاص من حوله على هادي بشكل كبير. لاحقًا، كانت تعيينات هادي تقتصر عادة على أعضاء من الدائرة المقربة من صالح. حاول هادي أن يحذو حذو صالح بطرق أخرى، من أجل البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة واحتكار الحُكم. لكن في حين كان صالح شخصية نشطة للغاية، كان يُعرف عن هادي الذي يعاني من مشاكل صحية عديدة، بأنه أقل نشاطًا. كان صالح يتمتع بشبكة واسعة من العلاقات بسبب مهاراته الاجتماعية، في حين تفتقر طبيعة هادي الانطوائية إلى مثل هذه الكاريزما والحضور. أسس صالح نظام حُكم مناسب له يضم مخلصين له على مدى عقود من الزمن، في حين أصبح هادي رئيسًا لبلد يعاني من الاستقطاب، وورث نظامًا محفوفًا بالمخاطر وهشًا بسبب الفساد والمحسوبية والمظالم المتراكمة.

في نهاية المطاف، قرر قادة الأحزاب إعادة صياغة الفترة الانتقالية لتنطوي على مجموعة من المهام التي تتطلب الإنجاز، عوضًا عن كونها فترة زمنية معينة. فتح ذلك المجال أمام تمديد فترة الرئاسة الانتقالية لمدة عامين، ما أعاد للأذهان خُطى سلف هادي، الذي مدد فترة ولايته مرة تلو الأخرى. في وقت لاحق، نأى هادي بنفسه عن شريكيه في السلطة، حزب الإصلاح وعلي محسن. كان المستشارون المحيطون به إما متعاطفين مع جماعة الحوثيين أو لا يتمتعون ببُعد نظر، وفي فترة كانت فيها القوى الإقليمية شديدة العداء تجاه جماعة الإخوان المسلمين التي يرتبط بها حزب الإصلاح، غض هادي الطرف عن التوسع العسكري الحوثيين. تقاعست القوات الجوية اليمنية عام 2014، عن دعم وحدات الجيش الموالية لعلي محسن التي كانت تقاتل الحوثيين في محافظة عمران، المتاخمة للعاصمة صنعاء. ثم رفض هادي دعوات القادة العسكريين بإصدار أوامره لمواجهة الحوثيين وصدّ تقدمهم نحو صنعاء، التي سقطت في نهاية المطاف بعد مقاومة عسكرية لا تذكر.

 الهروب الثاني 
سُلمت صنعاء للحوثيين كجزء من مقامرة كبيرة من قَبل صالح وهادي. في صباح 21 سبتمبر/ أيلول 2014، أي يوم سقوط العاصمة، توجه قادة الأحزاب السياسية إلى القصر الرئاسي لتوقيع اتفاق مع الحوثيين. سلموا هواتفهم المحمولة عند البوابة، دون أن يدركوا أنهم سيبقون هناك يومًا كاملًا، معزولون عن العالم الخارجي.

في المساء، ذهب الحوثيون إلى القصر وفاجأوا من عُزلوا داخل دار الرئاسة بخبر سيطرتهم على المدينة. وقعوا على اتفاق السلم والشراكة الوطنية، وهي خطة وضعها هادي مع الحوثيين في محاولة لتجنب توسع نطاق الحرب. كان المشهد مهينًا، وكشف بوضوح هشاشة النخب اليمنية، التي وقعت على اتفاق يُشرعن سقوط العاصمة بيد ميليشيا.

كان من السذاجة تصوّر أن الحوثيين سيلتزمون باتفاق سياسي تم توقيعه بعد تحييد الجيش اليمني. كانت الجماعة تفتقر إلى قاعدة دعم شعبية أو خبرة سياسية تسمح لها بالمشاركة في الانتخابات. عوضًا عن ذلك، واصل الحوثيون فرض وجودهم بالقوة، وهي ممارسات قوبلت بمزيد من التنازلات. لم يلتزموا بالملحق الأمني للاتفاق، الذي تضمن بنودًا تنص على انسحاب قواتهم من صنعاء وبقية المدن بعد تشكيل حكومة تكنوقراط. استمر تعنتهم وتوسعهم بقوة السلاح حتى انفجرت أزمة سياسية مرة أخرى في يناير/ كانون الثاني 2015، عندما اختطف الحوثيون مدير مكتب الرئيس هادي، أحمد عوض بن مبارك (وزير خارجية الحكومة اليمنية حاليًا)، بحجة محاولة لمنع تقسيم اليمن ضمن نظام فيدرالي جديد على النحو المنصوص عليه في مسودة الدستور الجديد. أُطلق سراحه نهاية المطاف عبر وساطة قبلية.

في اجتماع عاصف مع هادي بتأريخ 22 كانون الثاني/يناير، فرض الحوثيون شروطهم التي تضمنت تعيين نائب رئيس موال لهم. عوضًا عن قبول مثل هذا الإذلال، استقال هادي وخالد بحاح (الذي خلف باسندوة كرئيس للوزراء عام 2014) ليضعهما الحوثيون لاحقًا تحت الإقامة الجبرية.

وفقًا للإجراءات الدستورية، كان ينبغي على مجلس النواب الاجتماع لإقرار استقالة الرئيس وتعيين رئيس المجلس آنذاك، يحيى الراعي، خلفًا له. كان هذا هو المسار الذي سعى إليه الرئيس السابق صالح، حيث كان حزبه “المؤتمر الشعبي العام” يتمتع بأغلبية في المجلس. إلاّ أن الحوثيين رفضوا هذا المسار، معلنين في 6 فبراير/شباط 2015 أنهم سيحكمون البلاد تحت سلطة اللجنة الثورية العليا بقيادة زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي.

بدا في تلك اللحظة أن قصة هادي قد شارفت على نهايتها. إلاّ أن هادي فرّ بعدها إلى عدن في 21 فبراير/شباط 2015، وتراجع عن استقالته التي لم يُقرها البرلمان قط، وأعلن بطلانها، وفقًا للدستور.

 الهروب الأخير
تصاعدت حدة الوضع العسكري في عدن، وبلغ ذروته حين استخدم الحوثيون القوات الجوية اليمنية لشن غارات جوية على قصر المعاشيق في 19 مارس/آذار 2015. دعا الرئيس السابق صالح -الذي تحالفت قواته مع الحوثيين في الزحف جنوبًا نحو عدن -هادي إلى الفرار عبر جيبوتي، في إشارة إلى أسلوب فرار الانفصاليين الجنوبيين خلال الحرب الأهلية عام 1994. 

قرر هادي الهروب للمرة الثالثة والأخيرة، مغادرًا اليمن. سافر عبر محافظة المهرة إلى سلطنة عُمان في 25 مارس/آذار 2015 حيث أبلغه العُمانيون أن السعوديين أصروا على استضافته. رغم تردد هادي بادئ الأمر، انتهى به المطاف في الرياض. بدأ تدخل التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات بعد يوم واحد، أي بتاريخ 26 مارس/آذار 2015. ذكر هادي في وقت لاحق أن التدخل بدأ دون علمه. نادرًا ما شهدت اليمن عودة النخب السياسية والمسؤولين الذين لجأوا إلى السعودية، بما في ذلك الأسرة المالكة في الشمال في ستينيات القرن الماضي، وقادة الحزب الاشتراكي الذين غادروا بعد الحرب الأهلية عام 1994. لم يعد هادي إلى اليمن باستثناء زيارات قصيرة إلى عدن، كانت آخرها عام 2017.

متلازمة هادي والحرب 
بعد 10 سنوات على توليه الرئاسة، قضى هادي سبعة منها خارج اليمن، تكمُن قيمة هادي كرئيس فقط في توفير العباءة لمواصلة تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216. ضمنت السعودية استصدار القرار في بداية الحرب، والذي يربط شرعية الحكومة اليمنية بهادي ويبرر التدخل السعودي باعتباره يهدف إلى استعادة السلطة الشرعية في صنعاء. بالنسبة لهادي، يعتمد بقاؤه كرئيس على استمرار الحرب التي استفاد منها أبناؤه حيث يُزعم أنهم يترأسون شبكة فساد واسعة النطاق.

النُخب السياسية المسؤولة عن صعود هادي هي ذات النخب التي تتصدر المشهد السياسي الآن، ولا يبدو أنها تعلمت من أخطائها. عمدت هذه النخب على تمكين بعض الشخصيات التي وُلدت من رحم الحركة الشبابية، إلا أنها شخصيات تتسم بنفس الانتهازية وتشاطرهم طموحهم السياسي المحدود. بدون وخز الضمير أو وجود رغبة في وضع مصالح البلاد في المقام الأول، يظل أجيال من اليمنيين يعانون من لعنة إرث هذه النخبة السياسة اليمنية. عن مركز صنعاء للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى