آثار الحرب الروسية في أوكرانيا على دول الخليج
حيروت – صحافة عربية
ثمة عتبتان لا بدّ من تشييدهما قبل قراءة الآثار التي وقعت، وتلك المحتملة، في دول الخليج بفعل الحرب الروسية الأوكرانية، والتي ألقت ثقلها وأثرها على العالم أجمع.
العتبة الأولى
لا يمكن ضبط سياق الأحداث المتسارعة في هذه الحرب، لكون المتداخلين في الأثر والمؤثر دولاً كبرى ذات اقتصاديات ضخمة وترسانات عسكرية هائلة. إنَّ عدم إمكانية التوقّع لا يقتصر على المحللين في مشارق الأرض ومغاربها، بل حتى على الأطراف السياسية نفسها، وهذا ما أفصح عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف بالقول: “العملية العسكرية الروسية الخاصّة في أوكرانيا لديها مهمة محدّدة، لكننا نتصرَّف وفق ما يطرأ على الميدان”، فالسياق يتّجه بحسب رياح التغيير، وأشرعة رد الفعل تنساق، وإن لم ترد دفة الخطط المرسومة.
العتبة الثانية
الآثار العالمية لهذه الحرب تنقسم إلى قسمين؛ الأول أنَّ العقوبات الاقتصادية على روسيا ترتد على العالم أجمع، لكن بتفاوت ونسبة وتناسب، غير أنَّ الأكثر تضرراً من هذه العقوبات هو القارة الأوروبية بقسميها الشرقي والغربي. القسم الآخر هو أنَّ هناك انتعاشاً لبعض الأسواق في هذه الحرب كأيّ حرب تحدث، ومن ضمن ما أنعشته بطبيعة الحال سوق السلاح، وسوق النفط، وارتفاع سعر الذهب. أما أهمّ أضراره وأوضحها، فهو التضخّم في السلع والبضائع، لأن تأثر أسعار الطاقة والجمارك يؤثر في كلفة سلسلة التوريد.
هاتان العتبتان ستكونان مفيدتين في فهم الآثار التي يمكن حصدها في دول الخليج.
الآثار الاقتصادية في دول الخليج
ثمة تبادل تجاري بين دول الخليج وكلٍّ من روسيا وأوكرانيا، فهذان البلدان هما أكبر مزود للقمح والحبوب في العالم، ومحصولهما مجتمعين يساوي 29% من إنتاجه العالمي، وتستحوذ روسيا على ما نسبته 17% من تصدير القمح على مستوى العالم. وبطبيعة الحال، هذا المحصول الداخل في الكثير من الأطعمة في الخليج سيؤثر في قيمة الغذاء بشكل عام، وخصوصاً ما لم تُدعم هذه السلعة حكومياً.
أما زيادة أسعار الطاقة، فهي سلاح ذو حدين حتى للدول المنتجة للنفط كدول الخليج، بحسب الخبراء الاقتصاديين؛ ففي الوقت الذي تستفيد هذه الدول من زيادة سعر برميل النفط إلى 120 دولاراً، فإنَّ هذه الزيادة ستزيد كلفة الشحن البري والجوي والبحري الذي يمثل جزءاً مهماً من كلفة الاستيراد العامة.
من هنا، يفترض المواطن الخليجي أن تنفرج الأزمة الاقتصادية التي تمر بها بعض اقتصادات الخليج، لأنَّ ميزانية دول مجلس التعاون للعام 2022 دُشنت بمتوسط 70 دولاراً للبرميل، ما يعني أنَّ الزيادة في أسعار النفط من المفترض أن تردم فجوة التضخم الحاصل.
لكن لا يوجد تفاؤل لدى الاقتصاديين في هذا الشأن، لأنَّ الاضطراب المتوقع في الأسواق سيخيّم على مؤشرات الأسهم في البورصات الكبرى، وهو ما أبرزته مؤشرات داو جونز وبورصتا لندن وطوكيو مع بدء العملية العسكرية الخاصة التي قامت بها روسيا في أوكرانيا، إلا إذا تسارعت الأحداث وذهبت نحو التهدئة والحل الدبلوماسي.
إلى جانب ذلك، يتساءل الكثير من المواطنين الخليجيين في وسائل التواصل الاجتماعي عما إذا كان ثمة أي إيجابية ستطال معيشتهم في حال كان الوضع الاقتصادي ذاهباً إلى تحسّن فعلاً. مرد هذا السؤال يعود إلى الفساد الكبير الذي عرفت به هذه الدول، وإلى أنَّ اقتطاعات كبيرة تتم من الموازنات العامة لمصلحة أفراد من عوائل الحكم، ما يجعل المواطن الخليجي -حرفياً- في حيرة من أمره بشأن أيّ تحسن يطال اقتصادات هذه الدول، لكونه لا يشعر بأي تغير يطرأ على وضعه المعيشي، ونستثني في هذه الحيثية قطر والإمارات.
حتى كتابة هذه السطور، لم تفرض الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا عقوبات على روسيا في قطاع الطاقة، لأن مثل هذه العقوبات سيرفع الأسعار بشكل جنوني، وستكون دول الخليج مستفيداً بشكل كبير منها في ما لو فرضت، بحسب تقرير لـ”بل ترو” نُشر في صحيفة “الإندبندنت” في 26 شباط/فبراير الماضي.
المواقف السياسيّة الخليجيّة
حافظ الخليجيون على صمتهم رغم مرور عدة أيام على العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، إذ امتنعت الإمارات مرتين من التصويت لقرار طرح في مجلس الأمن الدولي يقضي بإدانة العملية العسكرية الروسية. ويعزو دبلوماسي غربي هذا الامتناع إلى احتمال وجود صفقة عقدتها أبو ظبي مع موسكو.
ويقول هذا الدبلوماسي الذي لم يكشف عن اسمه لقناة “DW” الألمانية: “تقضي هذه الصفقة بامتناع الإمارات عن التصويت لإدانة روسيا، مقابل عدم استخدام الأخيرة حق النقض الفيتو في قرار لمجلس الأمن يتعلق بتمديد حظر الأسلحة على الحوثيين”.
لكنْ ثمة قول آخر في هذا الإطار. وفقاً لموقع “أكسيوس” الأميركي، إن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن طلبت من الحكومة الإسرائيلية الضغط على الإمارات للتصويت على قرار للأمم المتحدة يدين العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ويضيف الموقع أنَّ كلاً من الإمارات و”إسرائيل” جلستا في البداية على الحياد، لكنَّ “إسرائيل” تدعم الآن بنشاط معارضة الولايات المتحدة للعملية الروسية، بينما صوّتت الإمارات في النهاية لإدانتها، كما صوَّتت مملكة البحرين على قرار الإدانة.
أما قطر وعمان والكويت، فهي لا تزال تلتزم الصمت، فيما يستغل ولي العهد السعودي الأزمة للوصول إلى طموحه في تولي العرش. وقد بنى كل سياساته على أساس الوصول إلى ذلك الطموح، فحين طلب الرئيس الأميركي من السعودية رفع مستوى الإنتاج لخفض أسعار النفط، التزمت الرياض بما حددته “أوبك +” من حصص المنتجين.
ولوهلة، خُيّل إلى البعض أنَّ هذا الحياد يوازن بين قوتين عظميين، وخصوصاً أنَّ محمد بن سلمان تشاور في السنوات الأخيرة مع الروس بشأن تزويده بأنظمة دفاع جوي متطورة، ويحاول أن يكسر العزلة الشخصية التي يشعر بها من حلفائه الغربيين، عبر المضي في شراكات اقتصادية وأمنية مع دول بحجم روسيا والصين.
إذاً، ما الّذي أراده ولي العهد السعودي من تلك الخطوة بشأن النفط ما لم تكن حياداً؟
بحسب مصادر خاصّة لوكالة “رويترز” يوم الجمعة 4 آذار/مارس الجاري، إنّ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يتطلّع إلى كسب اعتراف الرئيس الأميركي بشرعيته كحاكم فعلي للسعودية، وهو يستخدم في سبيل ذلك ورقة النفط، بمعنى أنه مستعدّ لتلبية طلبات واشنطن كالعادة، لكن مقابل الاعتراف له بالعرش.
ويستخدم الديوان الملكي في السعودية بعض كتّاب الصحف ومن يقدّمهم للإعلام كمحللين سياسيين في مثل هذه الأوقات، إذ يروّج بعض هؤلاء الكتّاب لاحتمال تنويع الرياض المظلة الأمنية والاقتصادية والشراكة الاستراتيجية مع دول عظمى كروسيا والصين أو الانفتاح على مروحة من الدعم المتعدد، في رسالة غير مباشرة لواشنطن.
ويبقى أنّ دول الخليج، وخصوصاً السعودية والإمارات والبحرين والكويت، لا تملك مهارة استثمار الأزمات الدولية بشكل جذري، كما أنها لا تستثمرها بشكل تكتيكي أيضاً، هذا إذا لم تكن فواتير بعض الأزمات تُدفع من جيوب هذه الدول.
وإذا صدقت مصادر “رويترز” بشأن محاولة ولي العهد السعودي استثمار ورقة النفط مقابل عرشه، فإنَّه يدخل في متاهة معقّدة بين واشنطن وموسكو، فالأخيرة تستطيع أن تردّ على هذه الخطوة – فيما لو تمّت – في ساحات عدة، منها ساحة اليمن، فاليمنيون ضربوا “أرامكو” أكثر من مرة، وبعض تلك الضربات أوقف نصف الإنتاج السعودي لعدة أيام.
مفارقة دول الخليج مع أزمة أوكرانيا
صحيح أنَّ دول الخليج ظلَّت تاريخياً تحت المظلّة البريطانيّة أو المظلمة الأميركيّة، لكن لعلَّ ما يحدث في أوكرانيا حالياً يغير قليلاً نظرتها إلى الهيمنة الأميركية المطبقة على المنطقة، إذ يكاد المحلّلون يجمعون على أنَّ تداعيات ما بعد الحرب الدائرة حالياً – مهما كانت – أهم بكثير من الحرب نفسها، وأن التغيرات الجيوسياسية على مستوى العالم آخذة في التشكل لا محالة في ما لو نجحت موسكو بتقليم أظافر الناتو في كييف، بل إنَّ دول البلطيق كلها تستشعر أنَّها في وضعية مختلفة عن الوضعية السابقة، حتى تلك الدول المحسوبة على الناتو.
وبعيداً عن الآلة الإعلامية الضخمة التي تقودها الولايات المتحدة، وما تفرزها من بروباغندا مختلفة عن الواقع على الأرض، فإنَّ المؤشرات – حتى الآن على الأقل – تشير إلى نجاحات روسية مهمة، وخصوصاً بعدما رشحت أنباء عن هروب الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي إلى بولندا، إذ يقترب الجيش الروسي من تطويق العاصمة كييف. إلى جانب ذلك، من المستعبد أن تترك الصين حليفها الروسي في هذه الحرب، ولو من باب الدعم الاقتصادي الذي يمكنه تنفيس العقوبات المفروضة على موسكو، بحسب الميادين.