الكاريزما والسياسة والجماهير بقلم| يحيى الطيب
بقلم| يحيى الطيب
هل القيادة الكاريزمية من صنع القائد نفسه، أم مِن صُنع الذين تبعوه واستلهموا منه؟ بطريقة أخرى، هل القائد هو مَن يخلق حركة الجماهير أم العكس؟ هذا السؤال شكّل محور كتاب «The Power of Charisma in the Age of Revolution -Men on Horseback» للمؤرخ والأستاذ الأكاديمي بجامعة برنستون – الولايات المُتحدة ديفيد بيل (David Avrom Bell)، الذي يحُاول دراسة العلاقة المُعقّدة بين القادة والمؤيّدين لهم عبر الإشارة إلى مُفارقة مركزيّة خلال الفترة الزمنية ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، التي يُنظر إليها كلحظة ميلاد للديموقراطية في حين أن أبرز قادة تلك الفترة كان لهم اتجاهات سلطوية واضحة للغاية.
يبرهن ديفيد بيل على حجته القائلة إن الجماهير تُحب القادة الأقوياء الذين يحكمون باسمهم حتى دون أن يعطي هؤلاء القادة أي سلطة أو قرار لتلك الجماهير، وذلك عبر دراسة أربعة نماذج تاريخية لكُل مِن جورج واشنطن (1732 – 1799)، ونابليون بونابرت (1769 – 1821)، وتوسان لوفرتور (1743 – 1803)، وسيمون بوليفار (1783 – 1830) مُركزاً على تفاصيل حياتهم الشخصية وعلاقاتهم بالحركات الجماهيرية التي قادوها، ومُستنداً في تحليله إلى قراءة عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864 – 1920) للكاريزما بوصفها اعتقاداً لدى الجماهير بأن القادة العُظماء يمتلكون قوة شخصية للتأثير والهيمنة واتخاذ القرار مُستمدّة من قوى إلهية.
وبالإشارة إلى أن أواخر القرن الثامن عشر تُعتبر فترة ولادة الديموقراطية الحديثة، يتوصّل بيل إلى أن كاريزما الشخصية بشكل أساسي كانت قلب تلك الديموقراطية وعامل التهديد لها في الوقت نفسه، ومن خلال التأكيد على هذه المفارقة، يوضح بيل أن حدود الديموقراطية التي لا تزال قوية حتى يومنا هذا، حتى بالتزامن مع صعود قوى شبه سلطوية إلى مقاعد الحكم حول العالم.
يتبع بيل نهجاً عابراً للحدود لقراءة تاريخ أربعة قادة، وتتمثّل إحدى فوائد تلك القراءة بأنها تستكشف الروابط التي تجتمع تجربتهم وإن لم تجمعهم جغرافيا واحدة. وهذا يُعدّ إنجازاً مُهماً، لأنه على الرغم مِن أن عصر الثورة يُنظر إليه عموماً على أنه ظاهرة عابرة للحدود، فإن تأريخه يتم مثل الحروب العالمية في القرن العشرين، والتي غالباً ما تتم قراءتها محلياً ووطنياً. فمثلاً، لا يقرأ بيل تاريخ ثورات سانت دومينك وأميركا اللاتينية بوصفها أحداثاً تابعة للثورة الفرنسية، بل بوصفها سياقاً منفصلاً كأعظم ثورات للتحرّر مِن العبودية في التاريخ البشري، وبالتالي يعيد بيل وضع ثورات أميركا اللاتينية والوسطى بالتوازي مع الثورات الأوروبية في قراءة شاملة لهذا العصر.
تشكّل قصة باولي – بوزويل مقدّمة للموضوعات الرئيسية لكتاب بيل، وتُلخّص القصة كالتالي؛ انطلاقاً مِن خمسينيات القرن الثامن عشر، وفي جزيرة كورسيكا، ظهر رجل لم يسمع به سوى القليل من الناس اليوم، وهو باسكوالي باولي (1725 – 1807) ضابط كورسيكي حمل السلاح ضد أباطرة جنوة في الجزيرة من أجل الاستقلال الوطني. وحقّقت حملة باولي بعض النجاحات الأوّلية ولكنها في النهاية فشلت تماماً، حيث تنازلت جنوة عن السيطرة على كورسيكا لمصلحة فرنسا، والأخيرة قامت بسحق حركة الاستقلال عام 1769، ونفت باولي إلى لندن. ورغم فشل باولي في ساحة المعركة، فقد نجح في إبراز أسلوب جديد مِن الكاريزما السياسية التي امتد تأثيرها إلى ما هو أبعد من شواطئ جزيرته. واتسعت شعبيته لتصل إلى أوروبا وأميركا، وذلك بواسطة كتابات الإسكتلندي جيمس بوزويل (1740 – 1795) الذي زار كورسيكا عام 1765، وسرعان ما أصبح هو وباولي صديقين. وعند عودة بوزويل إلى البر الإيطالي بعد بضعة أسابيع، كتب سلسلة من المقالات تدعو إلى دعم الثورة الكورسيكية، وأشاد بباولي باعتباره «والداً لأُمّة». وبفضل كتاب نشره بوزويل عن الثورة الكورسيكية أصبح باولي ذائع الصيت، ليس في بريطانيا فقطـ، بل في مستعمرات أميركا الشمالية خلال الثورة الأميركية. وفي قراءة بيل لتاريخ باولي، يربط بين شعبيته الهائلة في الخارج، والتي أثّرت على تكوّن شخصية جورج واشنطن، والقادة الكاريزماتيين الآخرين خلال عصر الثورة.
بانتهاء القصة نستنتج عدة عوامل كالتالي:
1- دور وسائل الإعلام في عصر الثورة عبر الكتابات اليومية لرحلات المتجوّلين عبر العالم والتي جعلت الكاريزما الشخصية ظاهرة سياسية جماهيرية.
2- غيّرت الثقافة المطبوعة في أواخر القرن الثامن عشر أفكار القيادة السياسية.
3- ساعد التوسّع الهائل في الأدب، وظهور الصحف اليومية، ونشر كُتب السير الذاتية في تحويل القادة السياسيين إلى مشاهير، ليس فقط في أوروبا والمستعمرات الشمالية لأميركا حيث مُعدّلات القراءة مُرتفعة، بل حتى في بلدان أميركا الجنوبية مثل سانت دومنيك، بالرغم مِن معدّلات الأمية العالية.
كما تؤكّد قصة باولي – بوزويل أيضاً على البعد العابر لحدود الكاريزما السياسية، حيث تحوّل كفاح باولي من أجل تشكيل وعي أمّة جديدة لدولة مُستقلة في كورسيكا إلى نموذج للناس في بُلدان أخرى للاستفادة مِنه للتحرّر الوطني، حيث نشأت كُل كاريزما قيادية في حيز جغرافي مختلف نتيجة تداخل جزئي بين الخطابات المحلية والعالمية خلال عصر القومية الناشئة.
كما تفسّر شعبية باولي أيضاً مجموعة أخرى من العلاقات مثل:
– العلاقات بين قائد عظيم وأتباعه، هؤلاء الأشخاص الذين لا يكون دعمهم سياسياً وحسب، بل وعاطفياً أيضاً، وهذا هو جوهر الكاريزما السياسية.
– العلاقات الشخصية المكثّفة للقائد الكاريزمي مع الآخرين وكيف يستخدمها لتوسيع شعبيته وخلق سياقات جديدة للتأثير مثل استخدام باولي لقلم بوزويل لتمديد أثر فكره وقضيته.
يحدّد بيل السمات الرئيسية للزعيم الكاريزمي في عصر الثورة، كالتالي:
1- قادة عسكريون، قادوا شخصياً الجيوش ضد أعداء الوطن، وكانت انتصاراتهم السياسية أيضاً انتصارات في ساحة المعركة.
2- الشخص ينقذ أمّته من الدمار بتوحيد الناس خلفه لهزيمة الأعداء الداخليين والخارجيين.
3- آباء بلدانهم، أي الأشخاص الذين أوجدوا أمّة جديدة في الوجود، كما فعل واشنطن ولوفيرتور وبوليفار، أو الذين قاموا بتوحيد أمّة، كما فعل بونابرت.
كان عصر الثورة حقبة عظيمة من بناء الأمّة، كما يتجلّى في كل من الحركات التي يعتبرها بيل من وجهة نظره تمّت بقيادة قادة ذوي كاريزما قاموا بدور مركزي لتحقيق ذلك.
يقودنا هذا إلى المفارقة الرئيسية في الكتاب وهي أن كُل سلطوي مِن الأربعة حكم بوصفه سلطة الشعب، وفي الوقت نفسه غالباً ما اتخذت قيادتهم «طابعاً ديكتاتورياً»، مع استثناء مهم لجورج واشنطن، ومع ذلك، فإن استبدادهم إلى حد كبير لم يتسبب في رد فعل شعبي مضاد بل استمرّت الجماهير التي حكموها في الإعجاب بهم لدرجة وصلت حتى العشق.
ونحن أمام حقيقة أن هؤلاء القادة ليسوا ملوكاً، ولم يحكموا بالحق الإلهي، بل حكموا في الواقع بموافقة الجماهير. مع ذلك، حتى نظرة عامة خاطفة إلى أنظمة واشنطن وبونابرت ولوفيرتور وبوليفار تؤكد اختلافاتهم مع القادة الديموقراطيين المعاصرين ولا يوجد أوجه تشابه معهم. ومن المؤكد أن المثل الأعلى للديموقراطية الانتخابية – وهو أحد الموروثات الرئيسية لعصرنا هذا – لم يكن له وجود يذكر في سياسات القيادة الكاريزمية. فقد أطاح نابليون بالنظام المنتخب قبل أن يعلن نفسه إمبراطوراً، ولم تصبح فرنسا دولة ديموقراطية كاملة حتى سبعينيات القرن التاسع عشر. وكان بوليفار يؤمن بالنزعة الجمهورية ودعم إنشاء هيئة تشريعية، ولكن تولّى السلطة كديكتاتور، وسيطرت الأنظمة الاستبدادية على هايتي وجمهوريات أميركا الجنوبية التي أسّسها بوليفار حتى القرن العشرين. وأظهر لوفرتير أيضاً منظوراً سلطوياً قوياً بشأن التحرير لذا وضع دستوراً عام 1801 ضمّن فيه أنه حاكم مدى الحياة.
من بين القادة الأربعة يُعتبر جورج واشنطن الاستثناء الأكبر، فقد أصبحت الولايات المتحدة الجديدة ديموقراطية انتخابية، وإن كان ذلك مع حدود مثل عدم تصويت النساء والعبيد، وبعد أن خدم كأوّل رئيس للجمهورية تقاعد في منزله الريفي، لكن هذا مدهش بالنظر إلى أن واشنطن في معظم النواحي الأخرى يتوافق تماماً مع نموذج القائد الكاريزمي، فقد كان جنرالاً عسكرياً ناجحاً (إن لم يكن مثيراً للإعجاب مثل نابليون)، وقد أدّت انتصاراته إلى ظهور أمّة جديدة، لذلك كان بإمكانه أن يَدّعي بشكل مبرر أنه «أبو أميركا»، وقبل كل شيء كان محبوباً للغاية من قِبل شعبه ( توضيح: قد كان واشنطن محبوباً مِن شعبه الأبيض، فقد انتهز العشرات مِن العبيد المملوكين له الحرب الثوريّة وقاموا بالفرار مِن مزرعته بحثاً عن الحرّية).
بعد أن بدأ بيل كتابه بالإشارة إلى مفارقة القيادة الاستبدادية في عصر الثورة الديموقراطية، فإنه يختم بمُجادلة حول ضرورة إعادة تقييم عصر الثورة، وأن ذلك العصر ربما لم يساهم في إضفاء الطابع الديموقراطي على العالم الحديث كما يُفترض. حيث توصف الثورات، بداية مِن عام 1775 حتى عشرينيات القرن التاسع عشر، على أنها «ديموقراطية»، وهذا غير مُناسب إطلاقاً، ففي الواقع لم تشهد تلك الفترة ولادة حكومات ديموقراطية مستقرة.
أخيراً، عند الانطباع الأوّل، قد يبدو كتاب بيل دراسة عادية، بل مُستهجنة الآن حيث تدور حول تاريخ شخصيات عظيمة غالبيتها مِن البيض (ما عدا توسان لوفرتير). فمنذ الستينيات والسبعينيات مِن القرن الماضي كان هُناك حركة لإعادة سرد التاريخ في سياق اجتماعي رافضة فكرة وجود «رجل عظيم في التاريخ»، لأن التاريخ لم يصنعه عظماء فقط بل هناك أناس أيضاً، ما جعل تاريخ الجماهير يساوي أو يتفوّق على تاريخ الطبقات الحاكمة أحياناً. لكن بيل يدرك أهمّية هذه التواريخ الاجتماعية الجديدة، ويتّفق في الغالب مع تحليلاتهم. لكنه يجادل بأنه في عملية توسيع صورة الماضي، تم إهمال التحليل التاريخي الجاد لرجال عظماء. ونتيجة لذلك، فإن القليل من التواريخ تستجوب العلاقات السياسية والثقافية بين القادة والأتباع. بل تتجاهل أيضاً التاريخ الذاتي لعصر الثورة، وكيف حدث تفاعل بين الجماهير والحُكام في عصر انقلبت فيه كثير مِن الأمور رأساً على عقب. ما يعني أن كتاب بيل يحاول تصحيح أو تقديم قراءة تاريخية تستكشف المكوّن العاطفي للجماهير في ضوء حضور تلك الشخصيات التاريخية الكاريزمية وذلك عبر الموازنة بين إطار الحياة الشخصية لهؤلاء القادة ومدى تأثير سماتهم في السياقات الاجتماعية للأحداث التي عاشوها بل شاركوا في خلقها. باختصار، يحاول بيل أن يتتبّع تأثير الكاريزما على عاطفة الجماهير في ضوء السياق السياسي والفكري الواسع للتاريخ.