في الأسبوع الأول من العام الجاري، نشرت دورية “تايم” تحليلاً استشرافياً لخارطة العالم الجيوسياسيّة خلال هذا العام. وفيه كتب إيان بريمر (أستاذ في جامعة كولومبيا الأميركية) عن 10 أخطار سوف يواجهها العالم في العام 2020، تمتدّ على كامل مساحته، قبل أن تزداد هذه المخاطر تعقيداً بسبب انتشار فيروس “كوفيد 19”.
توقّع بريمر في تحليله أن العام 2020 سيثبت لحظة حاسمة في السياسة الدولية، فالقضايا المطروحة، من إشكاليات العولمة، إلى الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، وصولاً إلى التفاعلات الاقتصادية خلال القرن الحادي والعشرين، وتغيّر المناخ، كلّها قضايا داهمة. كيف ستؤدي هذه القضايا مجتمعةً إلى أزمةٍ عاملية؟
التّحليل الذي قدّمته المجلة الشهيرة يبيّن حجم التحديات المتزايدة التي على الحكومات والقطاع الخاص أن يستجيبوا لها، ويعرض أعلى المخاطر المعاصرة.
الانتخابات الأميركية
في أميركا، يستبطن الصراع على الحكم الذي تشهده البلاد مخاطر حقيقية، إذ ستواجه المؤسسة الرسمية اختباراً غير مسبوق، ويتوقع أن تؤدي الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل إلى نتائج تتضمّن الكثير من الجدل حول شرعيّتها، ونزاع محتمل حولها، مهما كات هُوية الفائز. ففي الحالتين (فوز ترامب أو خسارته)، فإن أشهراً من الصراع على شرعية النتائج يتوقّع أن تحدث وتتطوّر بنتيجة عدم اليقين حول حقيقة تصويت الناخبين.
بعد انقضاء الفصل الأول من العام، لا يزال القلق بشأن شرعية الانتخابات المقبلة قائماً، وخصوصاً من ناحية تداعيات محاولة العزل السياسي للرئيس دونالد ترامب، ومشاعر اليقين لدى قطاع واسع من الأميركيين حول اتهامات التدخل الأجنبي ونظرية المؤامرة التي يتقاذفها مرشحو الرئاسة.
ومع انتشار الجائحة العالمية “كوفيد 19″، فإن رياحاً جديدة تهب على الانتخابات الأميركية؛ رياحاً تحمل معها المزيد من التوتر الناتج من الاتهامات المتبادلة بطريقة التعاطي مع هذه الجائحة والاستفادة منها.
ومع حقيقة أن الولايات المتحدة لم تعتمد أبداً التصويت عبر البريد الإلكتروني أو التصويت الإلكتروني في السابق، فإن اعتماد هذه الآليات بفعل الفيروس التاجي سيزيد من التشكيك في نتائج الانتخابات.
الحرب التكنولوجية العظيمة
يتوقع أن تؤدي الحرب التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين، والصراع الأوسع الذي تخوضانه، إلى تعطيل التدفقات المتبادلة للتكنولوجيا والكفاءات والاستثمار خلال الأشهر المتبقية من العام الحالي.
والقطاع التكنولوجي الذي يبلغ حجمه 5 تريليونات دولار، سيتأثر بقوة ببيئة الصراع بين العملاقين، كما ستتأثر به صناعات أخرى ومؤسسات كبرى، وسيؤدي ذلك إلى خلق فجوة تجارية واقتصادية وثقافية عميقة، من شأنها أن تخاطر بأن تصبح دائمة، ما سيحدث أثراً جيوسياسياً عميقاً في الأعمال التجارية العالمية.
ولكن الأسوأ من احتمالات الحرب التقنية بين واشنطن وبكين، هو احتمال انتقالها إلى مناطق اقتصادية أخرى. لقد سرّع فيروس كورونا الجدول الزمني لهذا الصراع بشكل كبير، بحيث اضطرت قطاعات التصنيع والخدمات بالفعل إلى البدء في إعادة تنظيم سلاسل التوريد والموظفين.
ورغم أن هذه الإجراءات لا تزال مؤقتة حتى الآن، فإنها قد تصبح إجراءات دائمة كلما طال أمد الأزمة الصحية العالمية الحالية، بحيث ستضطر المزيد من الشركات إلى التفكير في ذلك، ما يعمّق الانقسام بين الولايات المتحدة والصين.
ويبدو أن التوترات بين الدولتين ستعزز سيناريوهات أكثر وضوحاً للصراع حول الأمن القومي والتأثير والقيم. وسيستمر الجانبان في استخدام الأدوات الاقتصادية في هذا الصراع، كالعقوبات وضوابط التصدير والمقاطعة.
ومع انتشار فيروس كورونا، تسارعت وتيرة الصراع، وخصوصاً أنّ الإدارة الأميركية، برئيسها وبحزبها الجمهوري، يصرّان على تسمية الفيروس بـ”فيروس ووهان” و”الفيروس الصيني”.
في المقابل، تدفع الصّين بأن الفيروس التاجي تمت هندسته في مختبر للجيش الأميركي. ويبدو أن قادةً من البلدين يهربون من مسؤولية مواجهة الفيروس إلى الاتهامات السياسية وإلقاء اللوم على دولٍ أخرى، كطريقةٍ لتجنّب محاكمة الجمهور المحلي لجهودهم في مواجهة المخاطر الصحية المترتبة عليه. وفي النتيجة، ما من شكٍ في أن كورونا سيستمر بالمساهمة في زيادة التوتر بين القوتين الكبيرتين على الأرض اليوم.
الشركات المتعدّدة الجنسيات
لطالما كانت العلاقة متوترة بين القطاعين العام والخاص، لكن كفاح الحكومات لمواكبة المشكلات العالمية المتعاظمة وجّه أنظار الناس إلى الشركات المتعددة الجنسيات، للمساعدة في معالجة العديد من القضايا التي ابتليت بها المجتمعات التي تعمل فيها هذه الشركات، والتي تعود عليها بأرباح هائلة.
قبل كورونا، كانت الشركات المتعددة الجنسيات مدعوة إلى مزيد من الإجراءات بشأن القضايا الاجتماعية، مثل تغير المناخ والمعركة ضد الفقر، في الوقت الذي تكافح لإرضاء المساهمين في بيئة اقتصادية عالمية بطيئة. واليوم، إن تباطؤ الاقتصاد العالمي لا يزال يشكل تحدياً كبيراً بالنسبة إليهم، نظراً إلى انعكاسات الوضع الصحي والمخاوف الجديدة بشأن الإنتاج والاستهلاك، ولكن في الوقت الحاضر، لدى الحكومات مخاوف أخرى بخلاف محاسبة الشركات المتعددة الجنسيات.
وعلى الرغم من ذلك، فإن التحديات التي يطرحها الفيروس تقدم فرصاً لشركات التكنولوجيا والمستحضرات الصيدلانية للتقدم ومساعدة الناس على العيش بشكلٍ طبيعي قدر الإمكان.
ملفات جيوسياسية مشتعلة
كثيرة هي الملفّات الجيوسياسيّة المشتعلة، أحدها يتمثّل بالوضع في شبه الجزيرة الهندية، وداخل الهند تحديداً، وهي الدولة الصاعدة بقوة، وأحد أعمدة تحالف “بريكس” الواعد.
لقد ألغى رئيس الوزراء ناريندرا مودي وحكومته الوضع الخاصّ لإقليمي جامو وكشمير في العام 2019، وجرب خطّة جرّدت 1.9 مليون إنسان من جنسيتهم، وأقرّت البلاد قانون الهجرة الذي يعتمد معيار الانتماء الديني. توسّعت الاحتجاجات بمختلف أنواعها في جميع أنحاء الهند، لكن مودي لم يتراجع.
وهذا العام، تواجه حكومته أوضاعاً غير مستقرة قد تفجّر مزيداً من التظاهرات. وفيما يتحدى زعماء المعارضة الحكومة المركزية بشكلٍ مباشر، فإن هامش المناورة يضيق أمام مودي، وخصوصاً مع توسّع مطالب الإصلاح الاقتصادي في وقت يتباطأ النمو.
ورغم أن تعامل الهند مع فيروس كورونا يبدو مقبولاً حتى الآن بالمقارنة مع دول أخرى، وبالنظر إلى الكثافة السكانية العالية فيها، فإنّ مخاطر التفشي عبر البلاد لا تزال مرتفعة، وقد تدفع بها نحو الاضطراب الاجتماعي المضاف إلى مشكلاتها الكثيرة.
أما في أوروبا، فيعتقد المسؤولون أنّ على الاتّحاد الأوروبيّ أن يدافع عن نفسه بقوة أكبر ضد النماذج الاقتصادية والسياسية المنافسة، وهم يواصلون مكافحة الاحتكار ومنافسة عمالقة التكنولوجيا في أميركا الشمالية. وعلى المستوى التجاري، ينحو الاتحاد الأوروبي باتجاه أكثر حزماً في تطبيق القواعد والتعرفات الجمركية التي يردّ من خلالها على ترامب.
أما في ما يتعلق بالأمن، فإن المسؤولين يحاولون استخدام أكبر سوق في العالم لكسر الحواجز عبر الحدود أمام التجارة العسكرية وتطوير التكنولوجيا. وهذه الاستقلالية الأوروبية تولد مزيداً من الاحتكاكات مع كل من الولايات المتحدة والصين.
لكن تفشي فيروس كورونا وقسوة وقعه على الدول الأوروبية الأساسية أخّر الاتجاه الحازم في التعاطي مع الولايات المتحدة والصين في المجال الجيوسياسي، فالاتحاد يصبّ تركيزه اليوم على محاربة كورونا قبل أي شيء آخر.
وفي أميركا اللاتينية، تزايد الاستقطاب داخل المجتمعات في السنوات الأخيرة. في العام 2020، تفاعل الغضب العام من تباطؤ النمو والفساد والخدمات العامة المنخفضة الجودة، إضافة إلى التدخلات الخارجية، ويؤدي كل ذلك إلى المزيد من مخاطر عدم الاستقرار السياسي.
وفي الوقت الذي تتوقع الطبقات المتوسطة والضعيفة زيادة الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، فإن قدرة الحكومات على اتخاذ تدابير التقشف التي يتوقعها المستثمرون الأجانب وصندوق النقد الدولي تصبح أكثر صعوبة، كما قدراتها على إرضاء الشعوب الغاضبة، ما يقود إلى المزيد من الاحتجاجات، والاختلالات المالية، وتدهور الأوضاع العامة بصورةٍ أوسع.
ويبدو تضرر أميركا الجنوبية من فيروس كورونا أقل منه في مناطق أخرى من العالم، غير أن انهيار أسعار النفط بفعل حرب الأسعار بين روسيا والسعودية، وإجراءات مواجهة كورونا، أبرز حاجة هذه الدول المنتجة للنفط، مثل البرازيل وكولومبيا والإكوادور والمكسيك، إلى مواجهة تحديات جديدة.
أما في الشرق الأوسط، فإنَّ فشل السياسة الأميركية تجاه إيران والعراق وسوريا يمثل تحدياً لواشنطن، ويؤثر في الاستقرار الإقليمي، وذلك يشمل الصراع مع إيران، والضّغط التصاعديّ على أسعار النفط، ومحاولة زعزعة استقرار العراق، وسوريا أيضاً.
وفيما لا يبدو أن دونالد ترامب يريد الحرب مع إيران، فإن القيادة الإيرانية تدير هذه المواجهة ببرود وصبر، ولكن المناوشات المتفرقة في الأشهر السابقة (كان متوقعاً أن تستمر) تراجعت أمام ضرورات مواجهة الفيروس العالمي.
ولا تزال المواجهة بين الدولتين مستمرة بصور أخرى، فالهجومات الإلكترونية لا تتوقف، كما لا تتوقف الأعمال الأمنية، والمكائد السياسية، والتجهز لمرحلة مقبلة قد تعود فيها الأحداث إلى حرارتها السابقة.
وفي النتيجة، فإن واشنطن وطهران تكافحان في الوقت الراهن للتعامل مع تفشي الفيروس التاجي، ما يعني أن الجانبين لديهما حافز أقل للذهاب إلى الحرب مع بعضهما البعض.
وفي تركيا، عاش الرئيس رجب طيب إردوغان فترة من التدهور السياسي الحاد، فهو يعاني من انشقاقات عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، بينما يؤسّس حلفاء سابقون له أحزاباً جديدة.
وبينما يهتزّ ائتلافه الحاكم، تستمر العلاقات مع الولايات المتحدة بالتدهور، حيث تدخل العقوبات الأميركية حيّز التنفيذ هذا العام، ما يقوّض سمعة البلاد ومناخ الاستثمار، ويضع المزيد من الضغط على العملة المحلية. وإذا ردّ إردوغان بتوتر على هذه الضغوط المختلفة، فإنه سيحدث ضرراً أكبر باقتصاد تركيا المريض.
وفيما لا يصل عدد الإصابات بفيروس كورونا في تركيا إلى مصاف الدول الأكثر معاناة منه، فإنه لا يزال يتعين على أنقرة الانتباه إلى تفشي الفيروس وآثاره في الاقتصاد الذي يتغذى بقوة من السياحة، وخصوصاً أن المخاطر تحيط بالبلاد من كل صوب، واستجابة إردوغان لهذه المخاطر غالباً ما تكون متوترة.
لقد تصاعدت الضغوط على الرئيس التركي بالفعل بالنظر إلى الانشقاقات البارزة عن حزبه، وتباطؤ عجلة الاقتصاد، والمغامرة العسكرية الباهظة التكلفة في سوريا، التي وتّرت بشدة علاقات تركيا مع كل من روسيا والاتحاد الأوروبي.
وإلى جانب كل هذه المخاطر الجيوسياسية، التي زادت أزمة كورونا من تعقيداتها، هناك جانبٌ واحدٌ مضيء، وهو الآثار المناخية للإجراءات التي اتخذتها دول العالم في مواجهة الفيروس.
لقد وضع تغيّر المناخ الحكومات والمستثمرين والمجتمع بشكل عام في مسار تصادمي مع صنّاع القرار في الشركات، الذين يجب عليهم الاختيار بين الالتزامات الطموحة لخفض انبعاثاتهم وأهدافهم.
وعلى الرغم من أن تغيّر المناخ لا يزال يمثل أكبر خطر مادي ووجودي يواجهه العالم، فقد حلَّت الأزمة العاجلة للفيروس التاجي على المدى الطويل محل المعالجة الفورية لهذه المشكلة. لقد جلب الإقفال المرتبط بأزمة كورونا أخباراً جيدة لمعركة تغير المناخ التي كانت قادمة في العام 2020، لكن هذه المعركة بشكلٍ عام لا تزال بحاجة إلى الكثير من الجهود.