مشكلات كبرى تتسبب بها الطاقة الشمسية في اليمن
صنعاء – فايز الأشول
لعدم وجود تكاليف وقود للطاقة الشمسية، مقارنةً بالمضخات التي تعمل بالديزل، فإن مزارعي القات يستنزفون المياه الجوفية لري حقولهم طوال ساعات النهار طمعاً في تحقيق المزيد من العوائد المالية من بيع القات، ومن بيع فائض المياه للمزارعين الذين استنزفوا المياه الجوفية في مناطقهم التي نضبت أحواضها.
أعدادٌ لا حصر لها من ألواح الطاقة الشمسية على أسطح المنازل، ووسط حقول المزارعين في اليمن، تخلق انطباعاً أولياً عن بلد صديق للبيئة. ومع الاقتراب من الصورة، والغوص في التفاصيل تتجلى الحقيقة: لجأ اليمنيون إلى الطاقة الشمسية كخيار وحيد وأقل تكلفة في بلد انهارت فيه الخدمات بفعل الحرب منذ العام 2015. فقد أُعطبت معظم الشبكة الكهربائية في البلاد، وتسبب ذلك مع الحصار الذي يفرضه “التحالف” على اليمن بأزمات وقود متلاحقة.
كان توسع الطاقة الشمسية في اليمن، والفوائد التي جلبتها، في السنوات الأولى من الحرب تحولاً إيجابياً دعمته الجهات الإنمائية والمنظمات الدولية [1]، ووصفه برنامج التنمية والطاقة (EADP) ومقره برلين، بأنه “ثورة” تساهم في خفض انبعاثات الكربون الضار بالبيئة.
لكن هذا التحول نحو الطاقة الصديقة للمناخ، وذات التكلفة المنخفضة، تزامن مع إنتاج المزارعين في محافظة عمران ـ 50 كلم شمال صنعاء ـ لصنف جديد من نبات شجرة القات، المحصول النقدي الأول في اليمن، والورقة الخضراء الشمعية التي تمضغها كل الطبقات في اليمن بسبب أثرها المنشط البسيط.
تنامت عملية تهريب هذا الصنف من القات الذي صار يعرف بـ”البلوط”، إلى خارج اليمن خلال سنوات الحرب، وبيعه بمبالغ مربحة للمزارعين والتجار، ومثلت له الطاقة الشمسية المحرك الأساسي، لتتوسع زراعته على حساب المحاصيل الغذائية في القيعان والأودية والمدرجات الجبلية بمحافظات عمران، وصنعاء، وصعدة، وحجة، والبيضاء، معتمداً على الري بالغمر من المياه الجوفية التي تُستخرج بمنظومات الطاقة الشمسية. فالمياه الوفيرة تسرّع من نمو الأوراق الصغيرة الطريّة، وبالتالي تزيد من حجم الإنتاج وقيمة المحصول.
ونظراً لعدم وجود تكاليف وقود للطاقة الشمسية، مقارنةً بالمضخات التي تعمل بالديزل، مع توفر عوامل بيئية ممتازة لاستخدام الطاقة الشمسية، خاصةًُ في المناطق الجبلية شمال البلاد. والتي تتميز بدرجات حرارة معتدلة وإشعاع شمسي ثابت، فإن مزارعي القات يستنزفون المياه الجوفية لري حقولهم طوال ساعات النهار طمعاً في تحقيق المزيد(إضافة من)العوائد المالية من بيع القات، ومن بيع فائض المياه للمزارعين الذين استنزفوا المياه الجوفية في مناطقهم التي نضبت أحواضها.
تأثير سلبي غير مقصود
مرصد البيئة والصراع CEOBS في بريطانيا، أصدر في نيسان/ أبريل 2021 تقريراً [2] غير مسبوق، عن الطاقة الشمسية واستنزاف المياه في اليمن، كشف عن أن استخدام الطاقة الشمسية للري الزراعي، مسؤولٌ عن الانخفاضات الحادة في منسوب المياه في البلاد منذ العام 2018.
لقد أدى الصراع في اليمن إلى تعطيل نظام مراقبة المياه الجوفية، لذلك استخدم الباحثون في مؤسسة CEOBS تقنية الاستشعار عن بُعد عبر الأقمار الصناعية، لقياسات حقل جاذبية الأرض، وبيانات رطوبة التربة لتقييم تغيرات المياه الجوفية.
ومن خلال دمج هذه البيانات، مع مقابلات الخبراء ومجموعات البيانات الأخرى – بما في ذلك أسواق الطاقة والإنتاج الزراعي وهطول الأمطار وكثافة الصراع – قام معدو التقرير بتحليل شامل لحالة المياه الجوفية في غرب اليمن ليكتشفوا أن انتشار استخدام الطاقة الشمسية في اليمن، كان له تأثير سلبي – غير مقصود – حيث ساهم في استنفاد احتياطيات المياه الجوفية الشحيحة في البلاد.
ووفقاً لما خلص إليه الباحثون في المؤسسة، فقد ازداد الاعتماد على الطاقة الشمسية بقوة في السنوات الأخيرة باليمن حتى أصبحت اليوم المصدر الرئيسي للطاقة بالنسبة لـ 75 في المئة من سكان المناطق الحضرية، و50 في المئة من سكان المناطق الريفية، وأن كل الأدلة تشير إلى الزيادة الكبيرة في استخدام مضخات المياه التي تعتمد على الطاقة الشمسية.
استبدال مضخات مياه الديزل بالطاقة الشمسية
تقدّر منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة – FAO – موارد المياه الجوفية المتجددة في اليمن بـ1500مليون متر مكعب في السنة. وهي تأتي في الغالب من الترشيح في قيعان الأودية الرئيسية. فيما يبلغ الطلب السنوي على المياه للاستخدام المنزلي والصناعي والاستهلاك الزراعي حالياً 3,900 مليون متر مكعب في السنة، وهو ما يتجاوز بكثير الموارد المتجددة من كل من المياه السطحية والمياه الجوفية البالغة 2,500 مليون متر مكعب في السنة [3].
وبشكلٍ عام، يتوفر 80 متراً مكعباً من المياه للفرد في العام، وهو أقل بكثير من مستوى فقر المياه بحسب أرقام البنك الدولي، والبالغ 1000 متر مكعب/ للفرد/ السنة.
في القطيعة بين القلم والمحراث
يُعد القطاع الزراعي في اليمن المستخدِم الرئيسي لموارد المياه الجوفية، حيث يستهلك حوالي 90 في المئة من إجمالي الاستهلاك، ولا يساهم سوى بأقل من 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، لأن ما يزيد عن 50 في المئة من المياه المستخرجة من جوف الأرض تذهب لري القات [4]. أما نسبة الاكتفاء الذاتي من الغذاء فهي أقل من 15 في المئة. ما يعني أن اليمن ليس بمقدوره إطعام سكانه إلا بالاعتماد على الخارج.
وبما إن الوقود اللازم لتشغيل المضخات أصبح شحيحاً ومكلفاً للغاية بسبب الأزمة القائمة، فإن 100 ألف مضخة ري كانت تعمل بالديزل في اليمن حتى العام 2015، يمكن أن يؤدي استبدالها بمضخات نظام الري بالطاقة الشمسية دون قواعد وقيود واضحة، خاصةً في مزارع القات، إلى توسيع المساحة المزروعة، وبالتالي زيادة غير متوقعة في استخراج المياه الجوفية [5].
لقد توسعت زراعة القات في اليمن خلال سنوات الحرب وتقلصت مساحة الحبوب المزروعة، بما يقدر بـ 57,780 ألف هكتار من الأراضي الزراعية التي كانت مزروعة بالحبوب الغذائية [6].
عوائد مالية ونتائج كارثية
أكثر من 90 حفار مياه يعمل في محافظة عمران ـ50 كلم شمال صنعاء ـ ليلَ نهار منذ العام 2017، بحثاً عن المياه الجوفية في محافظة تنعدم في مدنها الرئيسية المياه الصالحة للشرب، ويعتمد سكانها على جلب المياه من خارج المدن بالشاحنات. لكنه السباق المحموم في الأرياف وراء المال الذي يتحقق لهم الحصول عليه من التوسع في زراعة القات، والري من المياه الجوفية بمنظومات الطاقة الشمسية.
المزارع صالح غانم (اسم مستعار) من مديرية خمر التي تتوسط المحافظة يقول: “من امتلك منظومة طاقة شمسية دخل حياة جديدة وامتلك المال والسيارات وعاش الرفاهية مع أسرته”.
غانم الذي كان يعتمد على مضخة مياه بالديزل لري حقول القات، استبدلها في العام 2019 بمنظومة طاقة شمسية تضم 205 ألوح شمسية بقيمة 48 مليون ريال (80 ألف دولار أمريكي). يبرّر ذلك بالقول: “صحيح أن تكاليف التجهيز لنظام الري بالطاقة الشمسية مرتفعةٌ جداً، لكنها تُدفع لمرة واحدة، ولا تحتاج بعد ذلك إلى صيانة باستمرار، كما هو الحال مع الري بالديزل”.
توسع غانم في زراعة القات بما يزيد عن ضعف المساحة التي زرعها من قبل، واستعاد خلال عامين كلفة شرائه للطاقة الشمسية، لكن المياه التي كان يستخرجها من باطن الأرض وبعمق 350 متراً جفت من البئر.
يفكر غانم في البحث عن المياه بالحفر على عمق أكبر. أجرى اتصالات مع مالكي الحفّارات، لكن جميع مواعيد الحفر التي تلقاها متأخرةٌ لأسابيعَ قادمة، فالحفّارات لا تتوقف عن الحفر العشوائي في كافة مديريات المحافظة.
وعند سؤال غانم عن خياراته البديلة في حال لم يجد الماء عند الحفر على عمق أكبر في الأرض التي يملكها في القرية يرد مرتبكاً: “إذا لم أجد الماء، فليس لدي خيار سوى بيع السيارات وقطعة الأرض التي امتلكها في العاصمة صنعاء، والرحيل من القرية لشراء أرض زراعية في أطراف محافظتي الجوف أو صعدة حيث تتواجد المياه”.
خلال عامين ونصف من غمر حقول القات بالمياه، عبر ضخها بمتوسط 8 ساعات في اليوم، استنزف غانم حصته وحصة أبنائه وأحفاده من المياه الجوفية، وحرم أبناءه الأربعة من مواصلة التعليم حيث اعتمد عليهم في زراعة القات، ولم يتبق معه سوى ما اكتسبه من العوائد المادية من هذا المحصول، ليفكر في بيعها والهجرة من قريته بحثاً عن المياه في محافظات مجاورة هي الأخرى تعاني من أزمة مياه، ومهددة بنضوب أحواضها الجوفية الشحيحة.
غياب إدارة تقنيات الطاقة الشمسية
يقول الخبير في شؤون الطاقة المتجددة المهندس عادل عاطف، الذي عمل مع الوكالة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ) “الطاقة الشمسية ليست مسؤولةً عن استنزاف المياه الجوفية في اليمن، ولكن المشكلة تتمثل في الغياب التام للسياسات، واللوائح الخاصة بإدارة تقنيات الطاقة الشمسية المستخدمة لاستخراج المياه، في ظل الاضطرابات وانتشار النزاعات المسلحة”. ويضيف: “لا توجد ضوابطُ لاستيراد ألواح الطاقة الشمسية ومستلزماتها، فخلال سنوات الحرب افتُتحت المحلات التجارية لبيعها في كافة المدن اليمنية ومعظمها مجهولة المواصفات… لقد أصبحت سوقاً سوداء، وتجارةً تحقق عوائد اقتصادية كبيرة للكثيرين، سواء كانوا أفراداً أو شركات”.
تسند حكومة صنعاء والهيئة العامة للموارد المائية تطبيق قانون المياه الذي صدر في العام 2000 إلى السلطات المحلية في المحافظات والمديريات، وهو لا يتطرق لتقنيات نظام الري بالطاقة الشمسية التي أُدخلت حديثاً. ولا تشترط لائحته التنفيذية سوى الحفاظ على مسافة 500 متر بين البئر والآخر. وبسبب ذلك تضاعفت عمليات الحفر العشوائي للمياه خلال سنوات الحرب، ليصل عدد آبار المياه في محافظة عمران إلى أكثر من 6 آلاف بئر في نهاية العام 2020، فيما كان عددها في العام 2015 يقارب 3 آلاف بئر وفق تقرير لـ”لجنة حماية حوض عمران” الذي يكشف عن استهلاك ري القات 70 في المئة من المياه الجوفية في محافظة عمران، بينما يستهلك الاستخدام المنزلي للمياه 5 في المئة فقط، وتستخدم بقية النسبة لري المحاصيل الأخرى.
حلول لاستدامة المياه والطاقة
ومع الاستغلال المفرط للطاقة الشمسية في استخراج المياه الجوفية بهذه المعدلات التي تثير القلق، فإن الاستدامة لن تتحقق حتى لزراعة القات! ويبدو أن اليمنيين واقعون تحت تأثير نشوة هذا المخدر الذي يحول دون إدراكهم أن جميع أحواض المياه الجوفية في اليمن بوضع حرج، وأن البلد يستورد نحو 90 في المئة من الغذاء والسلع الأساسية الأخرى من الخارج [7].
المهندس أحمد الموشكي، ممثل اليمن في منتدى شبكات المياه الذكية (SWAN) يقول:”اليمن بحاجة ماسة إلى سياسة حديثة لإدارة المياه ونظام الري بالطاقة الشمسية، تتضمن وقف التراخيص لحفر آبار المياه الخاصة لري القات، وفرض الرقابة على محلات بيع ألواح الطاقة الشمسية، وتنظيم عملية استيرادها تحت إشراف الهيئة العامة للموار المائية وفروعها في المحافظات”.
الطاقات المتجددة: أحلام السوريين بالضوء مؤجّلة!
كما يقترح الموشكي إدخال نظام الرصد “التليمتري” لتحسين حوكمة المياه، حيث تستطيع الهيئة العامة للموارد المائية والسلطات المحلية أن تحدد كمياتٍ مسموح بضخها من كل بئر مياه جوفية لغرض ري المحاصيل الغذائية فقط. وفي حال تجاوز السحب الكمية المقدرة للبئر، يجري توقيع عقوبة على المخالف، مؤكداً بأن أجهزة السيطرة الإلكترونية تستطيع مراقبة الآبار عن بُعد، بعد تركيب عدّاد على كل بئر يقدّم معلومات آنية حول مستوى المياه في الخزانات وسرعة المضخة ومستويات المياه في الآبار، وأن بإمكان هيئة الموارد المائية وحتى المزارعين الاستفادةَ من الأداة التكنولوجية التي طورتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) عبر بوابة WaPor [8] لقياس فعالية استخدام المياه في الزراعة، حتى على مستوى الحقول الفردية، خاصةً في الدول التي تعاني من ندرة المياه، ومن بينها اليمن.
السفير العربي
[1] الطاقة الشمسية في الحرب اليمنية: التطورات، التحديات والفرص. تقرير لبرنامج التنمية والطاقة
[2] – التقرير الكامل من CEOBS
[3] – الإحصاءات القُطرية لمنظمة الأغذية والزراعة: اليمن 2021 FAO
[4] – المركز الإقليمي للطاقة المتجددة والبنك الدولي يقيّمان وضع الطاقة الشمسية في اليمن
[5] – الري بالطاقة الشمسية في اليمن: الفرص والتحديات والسياسات – مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية
[6] – الإدارة العامة للمعلومات والإحصاء الزراعي
[7] – مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في اليمن ـ تقارير عن الوضع – OCHA
[8] – أداة WaPOR التي طورتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو).