تحقيق – التعليم في اليمن: فاتورة الحرب والرسوم ضحاياها أطفال المدارس
صنعاء – صفية مهدي
وفقاً لأحدث البيانات الدولية، فإن عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس في اليمن يزيد عن مليوني طفل وفتاة. وما يزيد من تعقيد الوضع هي الرسوم المدرسية التي تثقل كاهل العائلات والتي معظمها غير قانوني، حسب ما كشفه تحقيق لـ DW.
مع صباح كل يومٍ دراسي، تحزم الفتيات والفتيان أمتعتهم نحو المدارس، غير أن هناء وسمر ومنى ووداد أربع شقيقات تتراوح أعمارهن بين ثماني و14 عاماً، يكتفين بالتحديق في جموع التلاميذ ذهاباً وإياباً، بعد أن أُجبرن على التوقف عن التعليم، لعجز أسرتهن عن دفع رسوم غير قانونية جرى استحداثها بمبرر توفير نفقات للمدارس، التي لا يتقاضى معلموها مرتباتهم منذ سنوات.
الشقيقات الأربع، اثنتان في المرحلة الابتدائية (8 و10 سنوات)، وأخريان في المرحلة الإعدادية 12 و14 عاماً، ظل والدهن الذي يعمل شرطياً ينفق على تعليمهن لسنوات مضت، ومع بدء العام الدراسي الجديد في أغسطس/آب الماضي، أبلغهن بعدم قدرته على دفع نفقات التجهيزات المدرسية ورسوم التسجيل التي تتراوح بين 1000 إلى 3500 عن كلٍ منهن، كل ذلك إلى جانب رسوم ألف ريال شهرياً، طوال العام الدراسي.
وعلى الرغم من أن المبالغ المطلوبة بالنظر لسعر صرف العملة حيث الدولار الأمريكي في مناطق سيطرة حكومة جماعة أنصار الله (الحوثيين) يساوي 600 ريال يمني، لا تصل إلى الحد الذي يجبر بالضرورة على وقف التعليم، إلا أن والد الفتيات الذي تحدث شريطة عدم تسميته، يقول إنه غير قادرٍ على دفعها، في ظل ظروف معيشية صعبة تعيشها أسرته بالفعل، إذ لم يتقاض المرتب الحكومي منذ سنوات، كما أنه يخشى من انعكاس وضعه المادي على بناته نفسياً داخل المدرسة.
ووفقاً لوثائق تتمثل بسندات، يتم دفع 1000 ريال عن كل تلميذ في المدارس الحكومية شهرياً، تحت مسمى “المساهمة المجتمعية”، ويزيد المبلغ بالنسبة للطلاب في المرحلة الثانوية إلى أكثر من 12 ألف ريال كرسوم غير مباشرة للعام الدراسي.
العديد من المعلمين ومدراء المدارس في صنعاء ومدن يمنية أخرى، أكدوا المبالغ المفروضة تختلف من منطقة لأخرى. ويقول محمد جحاف، وهو مدير مدرسة في “بني الحارث” صنعاء، إن المبالغ المفروضة على الطلاب “إلزامية للقادر عن الدفع والفقراء معفيون”.
ومع بداية العام الدراسي الحالي، أصدرت وزارة التربية في صنعاء توجيهات تلزم المدارس الأهلية بعدم رفع الرسوم، لكن التوجيهات حسب الوثيقة المنشورة على صفحة الوزارة بموقع فيسبوك، لم تشر إلى رسوم المدارس الحكومية، خلافاً للعام الدراسي السابق (2020)، والذي عممت فيه الوزارة باعتماد 150 إلى 200 ريال فقط كرسوم للتسجيل (الرسوم المقرة رسمياً).
40 ضعفاً عن رسوم التسجيل
تبلغ الرسوم غير القانونية متوسط يصل إلى 8000 ريال سنوياً عن كل طالب، وهو ما يخالف قانون وزارة التربية والتعليم في اليمن والذي ينص في مادته الثامنة على أن “التعليم مجاني في كل مراحله تكفله الدولة وتحقق الدولة هذا المبدأ تدريجياً وفق خطة يقرها مجلس الوزراء”، كما أن رسوم التسجيل في المدارس الحكومية تتراوح بين 150 و200 ريال يمني.
وفي حديثه لـDW عربية، يقر مدير مدرسة في صنعاء، فضّل التحفظ عن ذكر اسمه، بأن الإدارات المدرسية وبـ”ضوء أخضر” من وزارة التربية والتعليم، لجأت إلى فكرة “المشاركة المجتمعية”، وذلك “من أجل توفير بدل مواصلات رمزية للمعلمولكي يستمر التعليم في ظل ظروف الحرب والعدوان التي تعيشها بلادنا”.
ويضيف أن وضع المعلم أصبح “مزريا خلال هذه الفترة بعد توقف صرف المرتبات التي تعتبر المصدر الوحيد”، للمعلمين ويتابع أن “فكرة المشاركة المجتمعية بالرغم من شحها لكنها كانت الحل الوحيد أمامنا وبالرغم من ظروف أولياء الأمور الصعبة ولكن مجبر أخاك لا بطل”.
تضاعف غير الملتحقين بالمدارس
وفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في اليمن، فإن عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس يزيد عن مليوني طفل وفتاة في سن التعليم، بزيارة تجاوزت الضعف، مقارنة بفترة قبل عام 2015 (تصاعد الحرب)، في حين أن عدد الأطفال الذين يحتاجون إلى مساعدات تعليمية أصبح يقدر بنحو 8.1 مليون، وبزيادة سبعة أضعاف عما كان عليه قبل 2015.
ويؤكد تقرير أعدته كتلة التعليم في اليمن (مجموعة المنظمات الإنسانية وشركائها المحليين)، في مارس/آذار2021، أن الرسوم المدرسية التي تُضاف بشكل غير رسمي من قبل المدارس، تسهم في إثناء العائلات عن إرسال أطفالها للتعليم، في وقتٍ يعيش فيه أكثر من 80 بالمائة من اليمنيين تحت خط الفقر.
وتمثل الفتيات، الفئة الأكثر تضرراً بالظروف الاقتصادية بالمقارنة بالفتيان، وفقاً لما تؤكده تقارير الأمم المتحدة والبنك الدولي وكتلة التعليم، إذ أن 36 بالمائة من الفتيات خارج المدارس مقارنة بـ24 بالمائة للفتيان، وسط تحذيرات من أن الفتيات اللواتي لا يتمكن من الالتحاق بالمدارس أكثر عرضة لزواج القاصرات، وهي الظاهرة التي ارتفعت نسبتها ثلاثة أضعاف في السنوات الأخيرة.
مرتبات المعلمين
وتعد أزمة انقطاع مرتبات المعلمين، كما هو الحال بالنسبة للغالبية من الموظفين الحكوميين بمناطق سيطرة أنصار الله (الحوثيين)، منذ سبتمبر/أيلول 2016، في صدارة الأزمات التي وجهت ضربة قاصمة للعملية التعليمية علاوة ما تعانيه أساساً من تأثيرات الحرب المستمرة منذ سنوات.
وعلى ضوء أزمة المرتبات في قطاع التعليم، وما تحتله من أهمية للملايين من التلاميذ، ظهرت مبادرات، من خلال المنظمات الإنسانية العامة، بما فيها اليونيسف والتي تبنت مشروعاً يقضي بتقديم حافز شهري قدره 50 دولاراً شهرياً لمساعدة المعلمين على الحضور.
وبينما كان المعلمون يأملون في انتقال هذه المبادرة إلى التنفيذ بعد أن وجدت طريقها إلى المانحين، خلال العام 2019، لكنها سرعان ما توقفت بعد خمسة شهور فقط من بدايتها، وسط شكاوى من خصومات طاولت المبالغ المخصصة، على هامش اختلاف سعر صرف الريال اليمني في الفترة ذاتها.
ويقول مدير إحدى المدارس في صنعاء إن الحافز “50 دولاراً تم البدء بصرفه في العام 2019، خمسة أشهر فقط بسعر صرف البنك”، قبل أن تتوقف. ويضيف “نسمع عن المنظمات العاملة في اليمن ولكن لا نجد منها أي دعم على الإطلاق”، كما يقول إنه “هذا العام 2021 والعام الماضي لم يتم صرف كتاب مدرسي واحد بالرغم من توفر الكتب الدراسية في المدارس الأهلية بشكل كامل”.
وعند التوجه DW بأسئلة إلى منظمة اليونيسف حول مصير حوافز المعلمين أفادت أنه “تم تعليق دفع الحوافز للمعلمين وموظفي المدرسة الذين لم يتقاضوا رواتبهم بسبب نقص التمويل”، وأضافت أنها تواصل “الدعوة مع الجهات المانحة لتوفير التمويل اللازم للمساعدة في إبقاء المعلمين في المدارس حتى لا يتم تعطيل تعليم جيل كامل”.
التعليم وخطط الاستجابة الإنسانية
يظهر تحليل DW عربية، لبيانات المساهمات المدفوعة لليمن لتمويل خطط الاستجابة الإنسانية التي تعدها الأمم المتحدة سنوياً، أن إجمالي التمويل الذي حصلت عليه العمليات الإنسانية خلال الفترة 2015 وحتى سبتمبر المنصرم 2021، بلغ ما يزيد 12 مليار و829 مليون دولار، مقدمة من 136 دولة وجهة مانحة، تتصدرها الولايات المتحدة وجاءت ألمانيا فيها المرتبة السادسة.
ويكشف تحليل البيانات خلال الفترة ذاتها، أن ألمانيا تعد الداعم الأول لقطاع التعليم في اليمن، إذ قدمت ما يقرب من ربع إجمالي المساهمات المدفوعة خلال ذات الفترة (2015 وحتى 2021)، من بين 44 جهة مانحة قدمت جميعها للتعليم ما يزيد على 303 ملايين دولار، على مدى السنوات الماضية.
مشروع الشراكة العالمية لدعم التعليم
خلال الأعوام 2014 وحتى نهاية العام 2020، قدمت “الشراكة العالمية للتعليم”، دعماً لليمن بتكلفة إجمالية بلغت 72,6 مليون دولار أمريكي، في إطار مشروع أُوكل تنفيذه بنسخته الأولى بين عامي 2014 و2019 إلى وزارة التعليم اليمنية وبإشراف من اليونيسف، والأخيرة انتقلت إليها المهمة حصراً، مع إعادة برمجة المشروع للمرة الثالثة في العام 2019، بتكلفة تزيد عن 31 مليون دولار (ما تبقى من المنحة).
وتمت مراجعة تقرير المشروع خلال العام 2020، والذي رًصد خلاله مبلغ 24 مليون دولار لدعم التعليم، غير أن تقييم التقدم في تنفيذ المشروع وضع مؤشراً على اعتبار نتائج التقدم “غير مرضية إلى حد ما”، والأمر نفسه لفترة الإبلاغ السابقة.
مشروع البنك الدولي
مع بداية العام الجاري 2021، كان من المقرر أن يشهد قطاع التعليم تحسناً، بإطلاق “المشروع الطارئ لاستعادة التعليم والتعلُّم في اليمن”، بتمويل إجمالي 152 مليون دولار أمريكي، تكفل البنك الدولي بتقديم ثلثيها ومُول الثلث الأخير من “الشراكة العالمية”. وتظهر البيانات المنشورة على موقع خطة الاستجابة الإنسانية تعثر بدء أغلب البرامج خلال الشهور الماضية، وأبرزها دعم المعلمين، في حين أن المبلغ المقدم خلال العام الجاري 46 مليون و700 ألف دولار، ذهب إلى مشاريع برنامج الأغذية العالمي، المتصلة بالتغذية.
التمويل والنفقات
على الرغم من الآليات التي تتبعها المنظمات لتأكيد الشفافية وضمان وصول المعونات إلى مستحقيها إلا أنها ما تزال تواجه العديد من الانتقادات تتعلق بجدوى بعض المشاريع وآليات أخرى، تستنزف أموالاً كبيرة.
ويقول الإعلامي اليمني المهتم بقضايا الفساد عبدالواحد العوبلي إن “المساعدات المقدمة للتعليم لا تختلف عن غيرها من المساعدات التي تم استنفاذها فيما يسمى نفقات تشغيلية للمنظمات الأجنبية، وحتى المحلية”.
ويضيف العوبلي “الأموال القادمة لمشاريع التعليم مقابل نفقاتها التشغيلية التي تتمثل طبعا في رواتب كبيرة جداً وإيجارات ونفقات انتقال ونفقات إدارية أخرى باهظة”، ويواصل “نعلم حاليا أن أكثر من يصرف الأموال هذه الايام في اليمن هم أصحاب المنظمات”.
أثر محدود واقتصاد موازٍ
وفي سياق البحث عن إجابات بشأن مصير التمويل، يذهب تقرير حكومي أعدته وزارة التخطيط والتعاون الدولي في الحكومة المعترف بها دولياً في مايو/آيار العام الجاري، إلى أن المساعدات الخارجية، رغم أهميتها، إلا أنها ما تزال محدودة الأثر تنموياً بسبب تركيز الجهات المانحة على الأعمال الإغاثية والإنسانية، بدلاً عن المجالات التنموية التي تسهم في تعزيز جوانب التعافي الاقتصادي وتحفيز النمو. خصوصاً أن المساعدات باتت تشكل أهمية كبيرة للاقتصاد اليمني يوازي تقريباً حجم الموازنة العامة للدولة وتمثل اقتصاداً موازياً.
ووفقاً للمصدر فإن النفقات التشغيلية لوكالات الإغاثة العاملة يتجاوز 40 بالمائة من إجمالي المنح المخصصة لليمن، وهو ما يعتبره التقرير الحكومي “أمراً غير مقبول ولا يمكن استمراره”، إذ أن “الكثير من تلك الأموال تركز على العمل الإغاثي اليومي المؤقت وغير المستدام”.
إلى حين يأتي السلام
بصرف النظر عن الإجراءات الحكومية أو إنفاق المعونات، تبقى الحرب المعضلة الأساس بالنسبة للتعليم وما دونه، ووفقاً لحديث اليونيسيف، فإن “اليمن بحاجة إلى سلام دائم ، وبحاجة ماسة لتوقف الصراع ولكن حتى ذلك الحين، يحتاج التعليم إلى الدعم”.
هذه التحديات يلخصها أيضا مدير إحدى المدارس في صنعاء، حيث يقول إن “المعلم والطالب وولي الأمر أصيبوا بيأس كامل ولا مبالاة بالتعليم كما كان سابقاً، حيث كنا نجد شيئاً من الاهتمام بالتعليم، لكن للأسف الآن فقدنا ذلك لعدة أسباب يشترك فيها الطالب والمعلم وولي الأمر، ولكن السبب الرئيسي هو السياسة العامة للحكومة وقيادة الوزارة”.