انهيار العملة وانعدام الخدمات تشعلان الاحتجاجات في ثلاث محافظات
عدن- محمد جسار
تعز- سكينة محمد
قبل أيام أظهر تسجيل مرئي مواطنًا في عدن يقول: “خرجت لأني جيعان”، محذرًا مجموعة من الجنود والمواطنين تجمعوا حوله، من إضفاء أي طابع سياسي على مطلبه.
كان الرجل أحد المتظاهرين الذي خرجوا في مدينة عدن احتجاجًا على تردي الخدمات الحكومية وانهيار الوضع المعيشي على إثر الانهيارات المتلاحقة للعملة الوطنية، وقامت احتجاجات مماثلة في تعز وحضرموت.
تتفاقم أزمة المعيشة في عدن على مدار الساعة، وهي لم تهنأ بأي شكلٍ من أشكال الخدمات طيلة سبع سنوات؛ فما أن تعاد خدمة حتى تنهار أخرى، وهو ما أوصل الخدمات العامة إلى مرحلة انهيار كلي أو شبه كلي.
يصف الناشط الاجتماعي حسين واثق لـ”خيوط” أزمات المدينة الكونية بأنها تتكاثر “مثل الفطريات”؛ “تقوم في كل صباح، لتسمع عن إحدى حكايات انقطاعات الكهرباء والماء، وحكايات أخرى عن الرواتب التي لم تأتِ للبعض منذ أكثر من 9 اشهر، وتصيخ السمع أيضًا لقيمة العملة التي باتت تتناقص في اليوم أكثر من مرة أمام العملات الصعبة”.
“هذا هو الوضع الذي تعيشه عدن، عوضًا عن إغلاق المدارس بمبرر الاختناقات التي حدثت بين الطلاب في الصيف اللاهب، وأخبار عن عدم توفر المياه في أغلب المدارس الحكومية، ورفع أسعار المقاعد في المدارس الخاصة، والتي يصل فيها تعليم الفصل الواحد أكثر من 200 ألف ريال”. يضيف واثق مسترسلا في حديثه عن انهيار قيمة الريال: “في الصباح صرف الريال السعودي ب300 ريال، وفي نفس المساء الصرف ب320 .. وقد تجاوز الدولار الـ1200 ريال، في لحظة يغيب فيها البنك المركزي تمامًا عن المشهد”.
المواطن عبده غلاب هو أحد العاملين في محلات التجارة بالجملة، يشكو من تبعات تهاوي الريال بسرعة الريح، حيث أشار إلى أن التجار لا يستطيعون البيع بسعر الجملة في الصباح، لأنه في ظرف ست ساعات فقط، تزداد أسعار المواد الغذائية كلها.
وأوضح في حديثه أن كل البضائع المستوردة تُشترى بالعملة الصعبة، وأن التجار يضطرون أحيانًا للبيع بالعملة الصعبة في بعض المحلات التجارية، لكي يتجنبوا خسارة فارق سعر الصرف.
صيف ساخن وطويل
تعيش عدن صيفًا ساخنًا، فانقطاعات الكهرباء والماء ومشكلة رواتب الموظفين وهبوط العملة المحلية بشكل غير مسبوق واحتقانات سياسية وتوترات أمنية متواصلة، إشارات تنذر بفصل ثقيل سيطول أمده ولا أفق واضح لتوقفه أو اعتداله.
وتشهد عدن، ومحافظات أخرى في جنوب اليمن مثل حضرموت وبشكل متقطع من فترة لأخرى كالمهرة وسقطرى، إضافة إلى احتجاجات غاضبة في تعز جنوب غرب البلاد، احتجاجات ضد تردي الأوضاع المعيشية وانعدام الخدمات العامة وانهيار العملة، مع تصاعد موجة السخط والغضب بشكل كبير، وهو ما أدى إلى إقدام المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يهيمن على عدن في منتصف شهر سبتمبر الحالي إلى الإعلان عن حالة الطوارئ في المدينة ومواجهة الاحتجاجات التي اتهمها بإثارة الشغب، ومحاولة اقتحام المحالّ التجارية وشركات الصرافة.
تأتي الاحتجاجات الراهنة امتداد لما شهدته المدينة التي تجتاحها الأزمات المعيشية والاقتصادية والخدمية بشكل كبير، مطلع العام الحالي بعد أربعة من عودة الحكومة الجديدة المشكلة مناصفة مع المجلس الانتقالي الجنوبي، مع تطور مسيرة احتجاجية في عدن إلى محاولة المتظاهرين اقتحام “قصر معاشيق” الذي كانت الحكومة المعترف دوليًّا مقرًّا لها، وهو ما أدى إلى ردود فعل منددة بهذه الاحتجاجات، واعتبارها مسيسة بما يوحي بوجود صراع كامن غير ظاهر بين طرفي الحكومة.
ونتيجة لذلك غادر رئيس وأعضاء الحكومة المعترف بها دوليًا باتجاه العاصمة السعودية الرياض في مارس/ آذار الماضي، مع بقاء وزراء المجلس الانتقالي الجنوبي في عدن، التي عاد إليها مجددًا رئيس الحكومة معين عبدالملك أمس الثلاثاء 28 سبتمبر/ أيلول، إذ ترافقت عودته قادمًا من حضرموت وشبوة وعلى وقع معارك شرسة تدور رحاها على أطراف مأرب، مع عودة الاحتجاجات في بعض مناطق عدن التي أعلنت عزمها بدء عصيان مدني وإغلاق المحال التجاري حتى تلمس مؤشرات واقعية على تحسن الخدمات العامة.
وتأتي الكهرباء في طليعة الأزمات التي يعاني منها سكان عدن الذي يشاهدون مدينتهم بشكل يومي، على فترات، تغرق في الظلام لمعظم ساعات اليوم، وما يسبب ذلك من أضرار بالغة على السكان نتيجة تأثيرها على مختلف الأعمال والمهن والقطاعات الخدمية المختلفة، فيما تعاني محافظات شبوة وأبين ولحج والضالع من معضلة تردي خدمة الكهرباء العامة التي يعتمدون عليها والتي أصبحت بمثابة معضلة تستعصي على الحل. إضافة إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير تفوق قدرات نسبة كبيرة من السكان مع تهاوي العملة الوطنية وتجاوز سعر صرف الريال حاجز 1200 ريال مقابل الدولار الواحد.
تردي الخدمات الأساسية
تقضي عدن معظم أيامها ولياليها في الظلام وبدون كهرباء، الأمر الذي فاقم معاناة المواطنين، وحوّلَ حياتهم، كما يصفها بعض سكان العاصمة المؤقتة للحكومة المعترف بها دوليًّا، إلى جحيم لا يطاق.
وتعتمد معظم المحافظات في جنوب اليمن على محطات التوليد العامة التي تعاني من أزمة توفير الوقود الخاص بتشغيلها رغم المنحة التي أعلنت السعودية قبل نحو 3 أشهر تخصيصها لمعالجة أزمة تشغيل محطات الكهرباء العامة، لكن عملية استيعابها تواجه بعض الصعوبات والتحديات التي أدت إلى جدولتها وفق دفعات يتم استخدامها على فترات ومراحل متقطعة.
يرى مواطنون من سكان مدينة عدن أن معاناتهم تغيب عن أجندة جميع الأطراف في عدن، مثل المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يعد المتحكم الرئيسي بالمحافظة المتخذة عاصمة للحكومة المعترف بها دوليًا منذ نهاية العام 2016، أو الحكومة المعترف بها دوليًا.
ويقول المواطن وهيب سالم من سكان كريتر في عدن، إن الكهرباء تشكل لهم هم يومي يؤرقهم، بينما كل الحلول التي تقدمها الجهات المعنية، عبارة عن حلول “ترقيعيه” مؤقته ليس لها أي أثر على تحسن الكهرباء.
ويشكو كغيره من المواطنين في عدن من ارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية ومحدودية الدخل، إذ أن الراتب الحكومي الذي يعتمد عليه كموظف مدني لم يعد يكفي لتلبية أبسط الاحتياجات المعيشية، فهو الوحيد الذي لم يطرأ عليه أي زيادة منذ سنوات رغم أن كل شيء ارتفع منذ بداية الحرب.
لم يغب الأمل في عدن
تعودت عدن النهوض من تحت الرماد كطائر الفينيق، فبرغم الازمات الخانقة والتي يعاني منها معظم سكانها، تبقى جذوة الامل متقدة وبصيص ضوءها حاضر في كثير من القلوب.
تلك الابتسامات في المقاهي، وتلك النكت التي تخفف، ولو قليلًا عن مشقة الحياة، والأمل بالغد الأفضل، باقٍ رغم الواقع الكئيب للمدينة. “لم تنته الحياة”، بهذه العبارة وصف الاستاذ المتقاعد أحمد الدوبلة، حجم الأمل الموجود لدى الناس في سياق الأوضاع الخانقة.
ويضيف في حديثه، إن عدن ستعود زهرة جميلة بعد ظن الناس انها ذبلت، لكنه يشترط لعودتها ضرورة “إعمال العقل وإيقاف آلة القتل والتخريب والدمار”.
غير أن الناس في عدن غاضبون بسبب استمرار الانهيارات المعيشية والخدمية بهذا التسارع دون أن يفعل أحد شيئًا لإيقاف الانهيار. لذلك خرجوا في مظاهرات كبيرة للمطالبة بحياة كريمة وللتحذير من المساس بلقمة عيشهم وانتظام حياتهم.
والحال أن الانهيارات المعيشية لم تقتصر على مدينة عدن التي تتخذها الحكومة المعترف بها دوليًّا عاصمة مؤقتة، ويسيطر على مؤسساتها المجلس الانتقالي الجنوبي. فمثلما لم تستثنِ الحرب محافظة ولا منطقة في اليمن، لم تستثن الأزمات المعيشية مدينة ولا قرية. فإلى عدن، تشتعل الاحتجاجات الشعبية في تعز وحضرموت، وجميعها موجهة ضد انهيار الخدمات الحكومية وانهيار العملة، وغياب الحكومة في مثل هذه الأزمات.
غضب في تعز
في تعز، تتواصل المظاهرات منذ أيام ويستمر العصيان المدني الشامل، وألسنة الدخان تغطي الشوارع من آثر إحراق (دواليب السيارات)، وغليان وغضب المحتجون مدفوعا بالكرامة والخوف من مجهول قاتم ومطالبات بحلول جذرية لتردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، والانهيار المريع للعملة، وغياب الدور الحكومي الفاعل.
كل هذه الأسباب دفعت الناس للخروج في مظاهرات دعا لها مجموعة من الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي فيما يعرف بالهبة الشبابية للتصحيح، في مدينة يعيش سكانها معاناة قاسية.
يقول محمد حميد وهو ناشط اجتماعي، “نحن مستمرون في احتجاجنا حتى تتحقق المطالب هذه المرة وأهمها إقالة السلطة المحلية في تعز والحكومة المعترف بها دوليًا و عودة رئيس الجمهورية المعترف به دوليًا واستعادة القرار السيادي للبلد، وإجراء إصلاحات اقتصادية من شأنها الحفاظ على العملة”.
تكتل تجار مدينة تعز (تكتل نقابي) من جانبه قال في بيان، إن العصيان المدني مستمر حتى تتحقق المطالب، وتستقر أسعار صرف العملة بحدود معقولة.
هذا وتخطى سعر صرف الدولار الواحد 1000 ريال يمني في الأسابيع الماضية مع وصوله إلى 1200 ريال مقابل الدولار، في ظل تضارب في أسعار الصرف بين مناطق اليمن المختلفة كان له تأثير في دفع الناس للخروج والمطالبة بحلول مركزية جادة لإيقاف النزيف المتواصل للعملة الوطنية.
بحسب سعيد لطف (40 عامًا) أحد المتظاهرين، فإن الوضع في تعز كارثي ويبشر بمجاعة؛ وأضاف: “اذا سكتنا أكثر قد نموت جوعًا على مرأى ومسمع من العالم”.
أما رائد محمد (25 عامًا) يقول “لقد عشت أسابيع وعيني على الشاشات تراقب انهيار العملة، بالفعل الوضع لا يحتمل ويستمر بالهتاف (مطلبنا مطلب عادل فليرحلوا بالكامل)”.
تنديد في حضرموت
في حضرموت، تشهد المحافظة المسالمة موجة احتجاجات على غير عادتها للتنديد بتردي الخدمات الأساسية وارتفاع أسعار الوقود وانقطاع الكهرباء.
وتشكل أجور المواصلات عبئًا كبيرًا يعاني منها أكثر من 18000 موظف ومتعاقد بالمكاتب والمؤسسات والهيئات الحكومية بوادي وصحراء حضرموت لا تتجاوز رواتب معظمهم 60000 ريال يمني، في ظل ارتفاع متزايد في أسعار الوقود وتدهور الوضع المعيشي بشكل عام، جراء الحرب الدائرة في اليمن منذ ما يزيد عن ست سنوات.
وبالرغم من الارتفاع المتزايد في تكاليف الحياة المعيشية مع غلاء الوقود وارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية، إلا أن راتب الموظف المدني في اليمن ظلّ ثابتًا بدون أن يطرأ عليه أي تحسن حقيقي ملموس، مع إيقاف مختلف العلاوات والتسويات السنوية للموظفين منذ نحو تسع سنوات في ظل مطالبات مستمرة بإعادة العمل بهذا النظام الوظيفي في القطاع العام، نظرًا لتوسع الأزمة المعيشية التي يعتبر الموظفين المدنيين أبرز من يكتوي بنارها.
وأعادت الحكومة المعترف بها دوليًّا في العام 2017، صرف رواتب الموظفين المدنيين في المناطق الواقعة تحت سيطرتها مثل حضرموت؛ بينما يعيش الغالبية العظمى من الموظفين في العاصمة صنعاء ومناطق شمال اليمن الواقعة تحت نفوذ أنصار الله (الحوثيين) بدون رواتب للعام الخامس على التوالي، بعد توقف عملية صرفها إثر قرار الحكومة المعترف بها دوليًّا، بنقل إدارة عمليات البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن التي اتخذت منها عاصمة مؤقتة لها نهاية العام 2016.
وتشهد أسعار الوقود في محافظة حضرموت كغيرها من المحافظات اليمنية ارتفاعات متواصلة منذ منتصف العام الماضي، إذ قفز اللتر الواحد من البنزين من 200 ريال في أبريل/ نيسان من العام 2020 إلى 370 ريال في شهر فبراير/ شباط من العام الحالي 2021%، وإلى 700 ريال في شهر يوليو/ تموز الماضي.
كما يمثل انهيار منظومة الكهرباء من أهم الأزمات التي يعاني منها سكان محافظة حضرموت، ففي السنوات الأخيرة يعاني قطاع الكهرباء في المحافظة العديد من المشاكل خصوصًا في الصيف الذي تصل فيه درجة الحرارة إلى أكثر من 40 درجة مئوية، وفي أحسن الأحوال يكون برنامج الإطفاء ساعتين مقابل ساعتين، أي أكثر من اثنتي عشر ساعة بدون كهرباء.