مصادر تمويل الحرب.. بين الموظف المنهك والمواطن المظلوم!
صنعاء – مطهر العباسي
يمكن الجزم وبدون مزايدات أن جزءًا كبيرًا من نفقات الحرب تُدفع من جيوب المواطنين المغلوب على أمرهم ومن دمائهم أيضًا، كما يتم تمويلها من دخول موظفي الدولة الصامدين في مواقع عملهم ويديرون دولاب العمل اليومي في كافة مؤسسات الدولة، وهذه حقيقية يجب أن تدركها كلٌّ من سلطات صنعاء وعدن، وألّا يعزلوا أنفسهم في بروج عاجية بعيدة عن معاناة الناس وآلامهم.
فسلطة صنعاء تبسط سيطرتها على نحو %75 من السكان، والذين يساهمون في نشاطهم التجاري والصناعي والزراعي والخدمي بحوالي %80 من مكونات الاقتصاد الوطني، وهذه النسب العالية تنعكس في شكل ضرائب وجمارك وزكاة وأوقاف ورسوم وإتاوات أخرى مركزية ومحلية، تصب كلها في الخزينة العامة للدولة أو في خزينة المحافظات أو في خزائن أخرى. وتشير التقارير إلى أن معظم تلك الموارد تضاعفت أضعافًا مضاعفة مقارنة بما قبل الحرب، ورغم ذلك أعفت السلطة نفسها من دفع مرتبات الموظفين العاملين في مرافق الدولة المختلفة، واستمرأت صرف نصف راتب كل ثلاثة أشهر من باب التهدئة والتسكين. ومعنى ذلك، أن كل موظف في الدولة يساهم سنويًّا بمرتبات عشرة أشهر لتمويل نفقات الحرب ويكتفي بمرتب شهرين فقط لتغطية نفقات معيشته وأسرته من طعام وشراب وكساء وسكن وتعليم وتطبيب وغيرها.
إن مواقع التواصل الاجتماعي تعج بالأخبار المؤلمة والمحزنة عن العديد من موظفي الدولة بما فيهم المعلمون التربويون والأساتذة الجامعيون الذين أرغمتهم ظروف الحرب وانقطاع المرتبات للعمل في مهن بعيدة عن محراب العلم ومهابته، فنجد من يعمل في مخبز أو مطعم أو في حمل مواد البناء أو في بيع القات أو بائعًا متجولًا باحثًا عن مصدر رزق يسد به رمقه ويطعم أولاده وأسرته، وهناك قصص مأساوية أخرى عن تراكم الديون والإيجارات والطرد من المنازل المؤجرة، فضلًا عن قصص معاناة البعض من الأمراض ومواجهة قدر الموت بسبب العجز عن توفير الدواء للسكري أو للقلب أو للكوفيد 19-وغيرها من الأمراض. وأجزم أن هناك الآلاف ممن يواجهون المآسي ويقدمون التضحيات في المال والنفس، ويمكن اعتبارهم الجنود المجهولين لهذه الحرب المستعرة والعبثية.
وفي الجانب الآخر، فإن سلطة عدن تبسط نفوذها على ربع السكان تقريبًا، ويقع في إطارها الجغرافي مناطق النفط والغاز، والتي فشلت في استغلال عوائدها، إضافة إلى إيرادات الضرائب والجمارك. وعوضًا عن ذلك، مارست شرعيتها في طباعة النقود لتغطية نفقات الدولة بما فيها تمويل الحرب، وكل الدلائل تشير إلى أن انتهاج تلك السياسة المتهورة أدّى إلى اشتعال أسعار السلع والخدمات والوصول إلى ما يمكن تسميته “التضخم الجامح”، وعنده تفقد العملة الوطنية قيمتها ووظائفها، فسعر الصرف تجاوز الألف ريال مقابل الدولار ويتجه نحو الألف الثاني.
صحيح أن سلطة عدن تدفع المرتبات لجزء من موظفي الدولة، بما يتناسب مع قوة نفوذها، إلا أنها تدفع الراتب باليد اليمنى وتضرب القوة الشرائية للريال باليد اليسرى، فمستوى الأسعار أصبحت أربعة أضعاف مستواها قبل الحرب، وراتب الموظف لا يساوي ربع قيمته أيضًا، وهذا يعني أن كلًّا من المواطن والموظف يخسر ثلاثة أرباع دخله بسبب الحرب وويلاتها. هذا الوضع يزداد سوءًا لدى بعض الموظفين “النازحين” الذين يحصلون على مرتباتهم من مالية عدن، فبسبب جنون رسوم التحويلات بين عدن وصنعاء، لا يصلهم سوى ربع راتبهم، أضف إلى ذلك أن المواطنين في مناطق عدن وما جاورها يعانون الأمرين من عدم توفر الخدمات الأساسية، الكهرباء، المياه مثالًا، وخاصة في شهور فصل الصيف الملتهبة.
كما أن هناك قصصًا متداولة عن معاناة صغار المزارعين والفلاحين والصيادين والعمال والموظفين في مختلف الأنشطة والقطاعات من تآكل دخولهم، بسبب ارتفاع معدل التضخم، والتي أضحت لا تفي بالحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم لهم ولأسرهم.
إلى جانب ذلك، فإن المواطنين في بعض المناطق (تعز وعدن) افتقدوا الأمن والأمان، وتأتينا الأخبار والصور عن حوادث القتل والاغتيالات والتقطع والحرابة جهارًا نهارًا، لأشخاص أو لأسر بأكملها، دون وازع أو رادع، بسبب ترهل سلطات الأمن والقضاء وانهيار منظومة العدالة وإنفاذ القانون، فالمواطن الغلبان في تلك المناطق أصبح يدفع فاتورة الحرب من دمائه ودماء أسرته وأقاربه.
وفوق ذلك كله، فإن المساعدات الإنسانية المقدمة من الجهات المانحة الدولية للمحتاجين والمتضررين والنازحين في مناطق صنعاء وعدن تراجعت إلى أقل من النصف في عام 2021 مقارنة بعام 2019، وهذا يدل على أن أزمة الحرب أصابت المانحين بما يسمى “الإرهاق” والضجر والعزوف عن الاهتمام بها في الأوساط الدولية، وهذا يزيد من معاناة الناس في الحصول على الغذاء والدواء وغيرها، بحسب خيوط.
فمتى يصحو ضمير أصحاب القرار في سلطات صنعاء وعدن، ويتحلّوا بالشجاعة والمسؤولية لوضع حد للمآسي والمعاناة التي يتكبدها المواطن والموظف والعامل والمزارع وغيرهم، فالمزاج العام يدرك أن النخبة السياسية لدى الأطراف المتصارعة، قد وضعوا البلاد والعباد في نفق مظلم، وللأسف فإنهم عاجزون عن خرق ثقب فيه للضوء والأمل ولفتح آفاق للسلام والاستقرار والأمان في ربوع الوطن المكلوم.