الاستعمار الجديد ورياح التغيير.. نظرة في بعض ملامح الاستعمار الداخلي والخارجي بقلم| عبدالباري طاهر
بقلم| عبدالباري طاهر
اعتُبر القرن العشرين الماضي، قرن تصفية الاستعمار، وفيه بزغ نجم الاستقلال الوطني في جُلّ بلدان القارات الثلاث. كان الاستقلال شكليًا، وحلَّ الاستعمار الداخلي محل الاستعمار القديم. تقنّع الاستعمار الجديد الاقتصاد- اجتماعي والثقافي، الوجه الوطني، واتخذت العلاقة بين الاستعمار الجديد والوطني صيغة الزواج الكاثوليكي، وشعرت البلدان المستقلة في القارات الثلاث بخيبة الأمل، وبوطأة الاستعمار الداخلي ذي الهوية الوطنية والأقسى من الاستعمارين: القديم، والجديد.
أمريكا اللاتينية- الضحية الأولى للاستعمارين: القديم، والجديد- كانت الأسبق إلى كشف القناع الزائف للاستعمار الداخلي. عرفت أمريكا اللاتينية الاستعمار الإسباني والبرتغالي منذ مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، وواجهت الاستعمار البريطاني والفرنسي، وأخيرًا الأمريكي، وبفضل مناضليها ومفكريها وأدبائها وسارديها الكبار، كشفت زيف الاستقلال وأدواته الوطنية، مطلقةً مصطلح “الاستعمار الداخلي” على حكامها المتسلطين؛ إذ إن غالبية دولها الأربع والثلاثين- باستثناء كوبا- محكومة بجنرالات يحكمون “جمهوريات الموز”، ويجسدون الاستعمار الداخلي، وتعتمد أنظمتها حتى الليبرالية منها على الجيش، والشرطة، والكنيسة؛ فخوان بيرون في الأرجنتين، واربينز في غواتمالا، وكمانو في الدومنيكيان، ودوفاليه في هايتي، وبينوشيت في تشيلي، وتقدم “الموسوعة العربية السورية” دراسة عميقة لأوضاع هذه القارة وجنرالاتها المستبدين.
أوضاع القارة الأفريقية هي الأسوأ؛ لأن حضور الجيش والقبيلة لايزال قويًا، وحتى إثيوبيا، وهي المركز الحضاري لأفريقيا، ولم تُستعمر، ومع ذلك فصراعاتها القومية والعرقية خطيرة، وتهدد الوحدة الأثيوبية. إن غالبية رموز استقلال القارة الإفريقية سيئة: بوكاسا، عيدي أمين، وتوبوتو، وكابيلا، وبوتفليقة… وغيرهم.
القارة الآسيوية هي الأحسن وضعًا، وتشهد حالةً من الصعود، والفرق بين أوضاعها الآن وبدايات القرن العشرين الماضي، كما يقرأه لينين في كتابه “استيقاظ آسيا”، شاسع.
“كعب أخيل” في آسيا المنطقة العربية هي فلسطين؛ المستعمرة الوحيدة المتبقية كاستعمار استيطاني منذ منتصف القرن العشرين، وحركة التحرر الوطني الشرعية هي الأخرى “محتلة”، وتنسق أمنيًا مع المحتل الإسرائيلي، وتتنافس معه على قمع شعبها، وتتحول إلى “دولة” قامعة قبل تحقيق الاستقلال.
الأنظمة القومية في مصر والعراق وسوريا، حققت إنجازات وطنية وقومية في مجالات عدة، ولكن خصومتها مع الحريات العامة والديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير، وعدم احترام حقوق الإنسان، أسهمت في إسقاط هذه الأنظمة المغرورة بالعسكرة. أما حركتا التحرر الوطني في الجزائر واليمن الديمقراطية، فقد كان الانتصار بالسلاح على المستعمر وسيلتهما المثلى للتعامل مع الداخل الوطني.
الأنظمة التقليدية في شبه الجزيرة العربية استقوت بالاستعمار، وفتحت الأبواب والنوافذ للوجود المباشر لقاء الحماية المدفوعة الثمن، ونسقت معه في المواجهة ضد الأنظمة القومية المعتدة بقوتها لفرض التغيير.
حرب 1967، كانت بداية الكارثة والانحدار، ومثلت الحرب العراقية-الإيرانية 1980، ثم حرب الحلف الثلاثيني ضد العراق 2003، استمرارًا في النهج. اشتركت دول عربية في الحرب، ومولت دول الخليج الحرب الثلاثينية، فَدُمِّر العراق، وتم تسليمه لإيران، ثم لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) التي احتلت أكثر من محافظة في العراق وسوريا في لحظة شرّ.
رياح الربيع العربي كانت رد الأمة العربية على الاستعمار الداخلي المزري بالاستعمار القديم والجديد؛ فقد انتفضت تونس، ونهضت مصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين؛ فالثورة السلمية هي الأخطر على الاستعمار الداخلي المؤزر بالقوة- أداته الوحيدة التي يمتشقها في مواجهة الاحتجاجات السلمية.
تهاونَ “الاستعمار الداخلي” مع إسرائيل، وقمعت إسرائيل الانتفاضتين: 1987، و2000 بالقوة، والتجأ الحكام في مصر وليبيا واليمن والبحرين، إلى السلاح لقمع الاحتجاجات السلمية. أما في سوريا، فالنظام دفع بالجيش والأمن و”الشبّيحة” لقمع الاحتجاجات، وتحالفت عدة دول عربية مع تركيا وأمريكا وإسرائيل، لتدمير الشعب السوري وتمزيقه بهدف القضاء على الربيع العربي، وتدمير وحدة سوريا لصالح تركيا وإسرائيل.
إذا ما استثنينا اليمن، فالحرب في لحظة انحسار في العراق وسوريا وليبيا والسودان. تعافي الوضع في البلاد العربية مهم جدًا؛ لأن الحرب هي أمّ الكوارث كلها. الاستعمار الداخلي احتكر المال والسلاح للاستنقاع في الحكم، واعتقد أن السلاح أداة الحكم الوحيدة، وعندما بوغت بالاحتجاجات السلمية الهاتفة: “الشعب يريد إسقاط النظام”، ورأى الرؤوس الكبيرة في تونس ومصر وليبيا تتهاوى، أمعن في التقتيل.
تعيش البشرية الآن مرحلة جديدة؛ فالقوة لم تعد لها السيادة المطلقة، والكفاح الآن يتجه ضد الاستعمار الداخلي. هناك نظام دولي جديد يتجاوز القطبية الأحادية والثنائية، كما أن حروب التحرر في حكم المنتهي، والثورات الوطنية تتجه للداخل الوطني (الاستعمار الداخلي)، ومقاومته ليست إلا بالكلمة. الاحتجاج السلمي هو كفاح الأمم والشعوب، وبالأخص أمتنا العربية التي تواجه خطر الاستعمار الداخلي، وخطر الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا وأوروبيًا، وخطر الإمبراطوريتين المحيطتين بها: إيران، وتركيا، والمأزق أن الاستعمار الداخلي في العديد من البلدان العربية يستقوي بهذه القوى ضد بلاده وشعوب أمته.
بعد ستة أعوام من الحرب في اليمن وعليها، أصبح الحسم العسكري صعبًا إن لم يكن مستحيلاً. أما الاستعصاء السياسي، فمرده إلى رغبة المليشيات والقادة السياسيين في العودة باليمن إلى ما قبل الـ22 من مايو 1990، وهناك مليشيات وأطراف منخرطة في الحرب في الشمال والجنوب تسيطر على بعض المحافظات والمناطق، وتريد الاحتفاظ بهذه المناطق. ثم إن “التحالف العربي”، وتحديدًا السعودية والإمارات، يريد السيطرة على الموانئ والجزر وبعض المحافظات، وهو ما لم يقبل به حتى الموالون لهم.
المليشيات المتقاتلة مرتهنة للصراع الإقليمي الذي يستخدم اليمن ميدان قتال في حرب بالوكالة، أما المجتمع الدولي، فله حساباته الخاصة.