أن تعيش على خط النار في تعز.. قصص بلسان أصحاب المأساة
تعز – آمال محمد
“فقدت ابني برصاصة قناص وابني الثاني ما زال يعاني من إصابته، مع ذلك ليس أمام زوجي خيار آخر للخروج من منزلنا الواقع على خط التماس هنا في منطقة عصفرة، فلا نملك مصدر دخلٍ كافٍ لاستئجار بيت وسط مدينة تعز، بعيدًا عن خطر رصاص القناصة الذي يتهددنا كل لحظة”.
هكذا أوجزت سميرة المخلافي (45 عامًا) سبب بقائها وزوجها مع أولادهما في عصيفرة، الواقعة تحت سيطرة القوات الحكومية في مديرية القاهرة، شمالي مدينة تعز، والتي تُعتبر من مناطق التماس بين القوات التابعة لحكومة الرئيس هادي وقوات جماعة الحوثي.
بالنسبة لعائلة سميرة، يُعتبر الخروج من المنزل والعودة إليه مخاطرة يومية تعني الموت، قبل سنة ونصف، وقع ما كانت العائلة تخاف منه يوميًا؛ فقدت سميرة ابنها صابر (11 عامًا) برصاصة قناص استهدفته في رأسه وأُصيب شقيقه الأصغر عمر (سبع سنوات) برصاصة في بطنه، لينجو من الموت بعد إسعافه إلى إحدى مستشفيات المدينة.
بحرقة بالغة، تصف الأم ما حدث ذلك اليوم. تقول: “خرج صابر من المنزل لقطف ثمار شجرة الديمون (اللوز) الواقعة خلف حوش المنزل، فباشره القناص برصاصة في الرأس وحين شاهده شقيقه الأصغر ذهب لسحبه ليقع هو أيضًا برصاصة في البطن”، ثم تضيف: “لن أنسى منظر صابر وهو مضرج بدمائه وقد فارق الحياة ومنظر شقيقه عمر حين خرجت أمعاؤه من بطنه”.
“كنت أصرخ بشكل هستيري، يعلم الله أنني لم أفق من هول المنظر حتى الآن”، تقول سميرة.
مقتل صابر وإصابة شقيقه، غيّرا العائلة، “لم أعد كما كنت”، تشكو الوالدة المفجوعة التي باتت تعاني من مشاكل صحية وقلق نفسي يرافقها دائماً، يسيطر عليها الخوف من خسارة أخرى، وتشعر بالأسى على ابنها المصاب الذي شاهد شقيقه يُقتل أمامه.
“تغيّر عمر بشكل كبير، أصبح كثير الانطواء وينفعل بشكل مخيف”، اضطرت العائلة أن توقف دراسة ابنها بعدما اشتكت إدارة المدرسة من مشكلة لديه في الاندماج مع زملائه، ومن خوفه الكبير من الأصوات ومن تبوله على نفسه باستمرار.
معاناة سميرة وزوجها في منطقة التماس تتمثل أيضًا في أنهما يعيشان في منطقة شبه منعدمة الخدمات على أشكالها، حتى التغطية الخاصة بالهاتف اختفت تقريبًا بعد استهداف إحدى كابلات تقوية الاتصالات التابعة لشركات المحمول في المنطقة.
“نحن الآن معزولون عن العالم، كما أن المياه ومتطلبات المعيشة ليست متاحة في أي وقت، إذ نضطر أحيانًا إلى البقاء في المنزل لمدة ثلاثة أيام متواصلة عند اشتداد المواجهات العسكرية بين القوات الحكومية وجماعة الحوثي، وهذا يعني الموت”.
ولكن لماذا لا تترك العائلة المنزل بعد كل ما أصابها؟ تجيب سميرة: “مضطرون للعيش بهذا الوضع، فلا مكان آخر نلجأ إليه ولا قدرة لنا على التحرك”.
للحياة على خط التماس تعقيداتها وعقدها، تعيش سميرة وزوجها في منزل معزول عن منازل الآخرين في الأحياء السكنية، وتشرح أن عائلتها خلال فترة الحرب حُرمت من حرية الالتقاء بالأقارب وسكان الحي وتبادل الزيارات، وهي أمور تساعد عادةً في التخفيف من حدة المعاناة.
ولا يقتصر الأمر على الحرمان من التواصل الاجتماعي، فالبقاء في المنازل والحرمان من اللعب في الخارج لهما تداعيات نفسية كبيرة على الأطفال، كالانطواء والعدوانية والتبوّل اللاإرادي، وهي تداعيات لا قدرة للأهل في ظروف الحرب عادة على التعامل معها، فكيف إذا كانوا عالقين على خط تماس؟
“نحن نعيش في أوضاع لا يعلم بها إلا الله، نموت من الخوف كل يوم، حالنا كحال من بَقي في الحي ومن تعرض لإصابات نتيجة الاشتباكات المسلحة أو القنص من قبل الحوثيين، فإحدى النساء مثلاً أصيبت برصاصة قناص في رجلها قبل ما يزيد عن شهرين وما زالت تعاني من إصابتها حتى اليوم”، تختم سميرة قصتها.
خارطة المناطق على خط النار
منذ اندلاع الحرب في تعز عام 2015، انقسمت المدينة المكونة من ثلاث مديريات، هي القاهرة والمظفر وصالة، بين قوات هادي وجماعة الحوثي، تحاصر الأخيرة مدينة تعز وتسيطر على الأحياء الشرقية للمدينة من فرزة صنعاء في مديرية صالة شرقًا، مرورًا بمنطقة شارع الأربعين، شمالي شرق المدينة، إلى منطقة عصيفرة شمالي المدينة حتى مفرق شرعب وهو المنفذ الرئيسي للمدينة.
يقول مصدر عسكري متابع: “يقع أكثر من 12 حيًا في مناطق تماس بين سيطرة القوات الحكومية ومسلحي جماعة الحوثي، ومنها أحياء كلابة وزيد الموشي وعصيفرة والدمينة والمطار القديم ووادي التبدد ومنطقة ميلات وحي مستشفى الثورة وحي السكينة”.
ويضيف أن أكثر الضحايا سقطوا برصاص القناصة أو المواجهات العسكرية في هذه الأحياء.
تتشابه معاناة سميرة المخلافي مع تلك التي يعيشها علي صالح (50 عامًا) وأسرته في منزله الواقع على خط النار في منطقة الروضة، شمالي تعز، تمر العائلة في ظروف قاسية ومخاوف كبيرة في ظل استمرار المواجهات بجوار منزلها، فلا تستطيع الخروج، بينما تلجأ في الحالات القصوى إلى معابر ضيقة بين المنازل المجاورة، خشيةً من التعرض للخطر.
يقول علي إنه أُجبر على البقاء في منزله لعدم قدرته على النزوح إلى أماكن أخرى آمنة، وعدم استطاعته توفير منزل آخر نتيجة الظروف المادية الصعبة التي يمر بها.
عند تجدد المواجهات ليلاً في المنطقة التي يقطن فيها، يقول إنه ينقل أسرته إلى الغرف الأرضية أو ما يُعرف محليًا بـ”البدروم” كي يحموا أنفسهم من المواجهات، مشيرًا إلى أن المواجهات العسكرية تستمر أحيانًا حتى الفجر، ما يعني البقاء من دون نوم وسط خوف وقلق شديدين.
أُسر رحلت… وأخرى علقت
لا تزال أُسرٌ عديدة تعيش في مناطق التماس، وتتوزع بين منطقة كلابة في مديرية القاهرة ومنطقة الدمينة في مديرة المظفر ومنطقة الروضة ومنطقة حسنات في مديرية صالة.
نتيجة الظروف التي تشهدها مناطق التماس في تعز، تناقص عدد العائلات فيها، حيث يؤكد عاقل الحارة قاسم محمد أن حي حسنات كان فيه 90 أسرة قبل الحرب، لكن وجود قناصة جماعة الحوثي في المناطق الشرقية المرتفعة عن الحي قلّص العدد إلى 30 أسرة، و”هكذا يمكن قياس ذلك على بقية الأحياء الواقعة في مناطق التماس شمالي مدينة تعز وغربيها وشرقيها”، على حد قوله.
ولا تزال الأوضاع الإنسانية في المحافظة تشهد حالة كبيرة من التدهور، في ظل حصار مستمر يخنق المدينة منذ خمس سنوات وأكثر.
أُنجزت هذه المادة في إطار برنامج تدريب يضم صحافيين من سوريا وغزة واليمن، من تنظيم “أوان” وبدعم من منظمة “دعم الإعلام الدولي” (International Media Support).