“أعطني عملة قديمة بدل الجديدة”.. السائقون على الخطوط الطويلة عرضة لابتزاز النقاط الأمنية
صنعاء – حسان محمد:
ليست وعورة الطريق واختناقات السير التي قد تستمر لساعات وحدها ما يقلق عبدالرحمن الشرعبي خلال عمله في نقل المسافرين على سيارته الصالون القديمة في خط الحوبان/ مدينة تعز، فاتقاء شر وابتزاز أفراد النقاط الأمنية للطرفين، هو الهَم الأكبر، والعقبة الصعبة التي يواجهها كل مرة.
في الصباح الباكر ينطلق الشرعبي بسيارته من فرزة الحوبان، وهو يحاول أن يرسم ابتسامة عريضة على وجهه، ليكون أكثر مرونة وسعة صدر، حتى يتمكن من التعامل مع كل من سيواجهه.
كلمات مجاملة، وابتسامات، وقليل من أعواد القات كان يوزعها على الواقفين في نقاط التفتيش لكسب ودهم، لكن تلك المجاملات غالبًا ما تبوء بالفشل، وما بين الإشارة والتلميح أو الطلب الصريح، كان الجنود يتواصلون معه، فيخرج بعض الأوراق النقدية، ويدسها في أيديهم. يقول الشرعبي للمشاهد “هذا هو الواقع الذي يجب أن أتعايش معه كل يوم إن أردت الاستمرار في العمل، وإذا لم أستخدم هذا الأسلوب، فلن أكسب سوى عدائهم، وسأتعرض للمشاكل والعراقيل في كل مشوار أمر من أمامهم”.
ممارسات يومية
وسط سحب الأتربة المتطايرة والجروف التي حدثت بفعل الأمطار والسيول، يمر الوقت بطيئًا على ركاب السيارة المرهقين من وعورة الطريق وتزاحم أجسادهم المحشورة في المقاعد المتهالكة، وغالبًا ما يسود الصمت إلا من أدعية يكررها السائق كي يسهل الله رحلته ويرزقه، ويجنبه أفراد النقاط الأمنية “المتهبشين” كما يطلق عليهم، أو من عبارات الاستياء التي يكررها المسافرون عند توقفهم بالنقاط الأمنية.
عبدالله الصبري، موظف في مصانع هائل سعيد بالحوبان، الأكثر هدوءًا بين الركاب، فقد اعتاد هذه الرحلات وطرق الابتزاز التي يسلكها أفراد النقاط، وعادة ما يطلب من رفقاء رحلته الصبر، والتعامل ببرود مع الأمر. وفي النقطة الأمنية الأخيرة لحكومة صنعاء التابعة لجماعة الحوثي بخط الأقروض (يربط الحوبان بوسط مدينة تعز)، أوقف أحدهم السيارة، وبيده 4000 ريال من الطبعة صغيرة الحجم، وطلب تبديلها بأوراق قديمة. وعلى الرغم من اعتذار السائق والركاب بلطف، إلا أنه استشاط غضبًا، وأمر بركن السيارة، وعدم مواصلة السفر. وبعد مفاوضات مع السائق تنازل عن طلبه مقابل 500 ريال.
وليس الشرعبي وحده من يتعرض لهذه الممارسات، وجميع سائقي المركبات يشكون من أساليب ابتزاز العسكر، ويجبرون على دفع جزء من أجرتهم ليتمكنوا من العمل.
“لا يوجد أفضل”
قبيل الظهر دخلت السيارة إلى المناطق التابعة للحكومة في عدن، وتوقع بعض الركاب أن يكون الوضع فيها أكثر نظامًا ويسرًا، إلا أن الصبري بدد تفاؤلهم عندما أخبرهم أن الوضع لن يختلف كثيرًا، وربما يكون أسوأ.
لم يكن الصبري بحاجة إلى إثبات صدق حديثه، ولم تمر سوى دقائق حتى ظهرت علامة الصدمة وخيبة الأمل على وجوه المتفائلين، وهم يرون ازدحام النقاط الأمنية التابعة لمحور تعز وتقاربها بحيث لم تفصل بين بعضها سوى أمتار قليلة.
تعامل الجنود كان أكثر فظاظة، وهم يطلبون المال من السائق بعبارات صريحة، ويستخدمون أساليب الترهيب، ويخيرونه بين الدفع أو التوقف للتفتيش الدقيق وعرقلته طوال اليوم.
ليست كل النقاط المنتشرة بشكل ملفت للأنظار رسمية، وكثير منها لأشخاص من القرى المجاورة أو “المتهبشين” الذين لا هم لهم سوى الحصول على مصروف يومهم، كما يقول الصبري.
أساليب متنوعة للابتزاز
ما بين 500 و1000 ريال كان الشرعبي يعطي أفراد النقاط الأمنية الذين يرتدي معظمهم ملابس مدنية، لكي يتمكن من مواصلة الرحلة بسلام، إلا أنه لم ييأس في بعض المرات من استعطاف العسكر وتقديم الأعذار والتوسل ليعفى من الدفع، لكنه غالبًا ما اصطدم بالرفض وعبارات التهديد: “وقف السيارة على جنب، شكلك مش أنت حق احترام”؛ بهذه الكلمات فشلت واحدة من محاولات التوسل للتغاضي عن دفع المال، وبصوت حاد جاءت الأوامر بفتح الحبال وإنزال حقائب وأمتعة المسافرين لتفتيشها.
لم يستفزه صراخ الجندي السائق، ونزل من سيارته وهو يبتسم ويتحدث بلطف، لكن ثورة الجندي لم تهدأ، فاخرج الشرعبي ورقة 1000 ريال، ووضعها في يده، نظر إليها، وبدأت ملامح الغضب تتلاشى ويعود إليه الهدوء، وهو يقول: “كنت بتعمل كذا من أول”.
يبدو أن الشرعبي لم يكن يمتلك الفراسة، حيث فشلت محاولته الثانية بعد وقت قصير عندما حاول أن يستغل حياء أحد الجنود الذي لم يطلب منه المال صراحة، واكتفى بالتلميح وهو يفحص وثائق المسافرين، إلا أن السائق حاول تجاهله، وأراد مواصلة طريقه.
لم يتمالك الجندي غضبه وصاح: “أوقف السيارة.. من أين أنت يا سواق؟”، فرد عليه: “من شرعب”.
“على جنب يا شرعبي، سيارتك محجوزة، جالسين هنا وما تروحوا تحرروا بلادكم من “الحوثي”، فهم الشرعبي قصده، وتعامل معه بنفس أسلوب الذي سبقه، وواصل السفر.
التهميش سبب البلطجة
يعتبر عبدالرحمن علي، من منتسبي المؤسسة العسكرية بتعز، الوضع طبيعيًا في ظل انقطاع مرتبات الجنود شهورًا طويلة، وتهميش قيادة الدولة لهم، وعجزهم عن إعالة أسرهم.
ويقول “لا نستطيع أن نلوم الجندي على هذه الأساليب المخالفة للقانون، لأنه يقوم بهذا لتلبية احتياجات عائلته، وفي حال انتظمت الدولة في صرف الرواتب فسوف تتقلص مثل هذه الممارسات، ويسهل تطبيق العقوبات على الأفراد المخالفين”.
وعلى الرغم من أن طريق الأقروض شريان رئيسي لأبناء تعز، وأسهم في كسر الحصار الذي فرضته جماعة الحوثي على المحافظة منذ سنوات، إلا أن اهتمام السلطة المحلية في محافظة تعز بذلك الطريق منعدم، ولم يشهد أعمال توسعة ورصف، علاوة على أن قيادتي المحافظة والمحور لم تضعا حدًا للابتزاز والتعسف الذي يتعرض له المسافرون ومالكو المركبات.